أستسمح القارىء عذراً ان تكون هذه هي آخر حلقة مع هذا الكتاب القيّم الذي جمع فيه المؤلف مع حسن عرضه ما يفتح الآمال مع كل مذنب بما يريح النفس، ويبين له بأسلوب سهل مبسّط، ما يفيضه الله على عباده المسيئين على أنفسهم، إذا رجعوا الى باب ربهم تائبين مستغفرين، مدركين أنه لا يغفر الذنوب الا الله، ولا يقبل العثرات سواه سبحانه,. ومَن من البشر لا يخطىء أو يذنب، فالخطأ سمة من سمات بني آدم، لكن الحثّ الشرعي لكل من اقترف ذنباً صغر أم كبر، المبادرة بالتوبة الى الله، والاستغفار عن الخطأ والزّلل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، يستغفر في المجلس الواحد اكثر من سبعين مرّة,. فالله سبحانه يأمر عباده بأن ينيبوا إليه، وأن يتوبوا من كل ذنب، وأن يعرفوا بأن لهم ربّاً يغفر الذنوب، فيلوذون به، ولا يصرّون على ما فعلوا وهم يعلمون. ولذا فإنه جدير بكل مسلم ان يقرأ هذا الكتاب، الذي يعين على تجاوز أزمات النفوس، وبما حرص فيه المؤلف من استدلال وتوثيق لما أورد، ترّقق القلوب، وتدعو لربط هذا القلب المسيطر على الجوارح بالخالق سبحانه، لأنه بصلاح هذه المضغة يصلح البدن كله، وبفسادها يفسد,. فرغم أن الكتاب شيّق وفيه فوائد يفتح الله بها مغاليق الأمور، إلاّ أن الباب الثاني الذي سنمرُّ به بقدر ما يسمح به هذا الحيّز، وهو طريق التوبة بفصوله الثلاثة، يحتاج الى تأملات ووقفات، وخاصة فيما يتعلق بنماذج لأشخاص معروفين في المجتمعات العالمية بشهرتهم وأموالهم، وبما يظنّه الناس فيهم سعادة واستقراراً نفسياً,, وهم في واقع أمرهم في تعاسة وقلق،فتأتي عند المؤلف نماذج متضادّة: في نماذج من أحوال العصاة، ونماذج من أحوال التائبين وبهذا التضاد يبرز الأمر المطلوب,, كما جاء في المثل العربي: وبضدّها تتميز الأشياء,, وقول الآخر: والضدّ يظهر فضله الضدّ. والباب الثاني: الطريق إلى التوبة بفصوله الثلاثة (185 309)، كان الفصل الأول فيه عن أمور تعين على التوبة حيث قال في مقدمة هذا الفصل: وبعد أن تبيّن لنا معنى التوبة وأهميتها وفضلها، وشيء من أحكامها ومسائلها، وأخطاء الناس في شأنها، هذه أمور معينة على التوبة عسى الله أن يذكّر بها ناسياً، وينبّه بها غافلاً، فكثير من الناس لا يخفى عليه حرمة ما يفعله أو يتركه، ولا يبحث عن ذلك لعلمه به، وإنما يبحث في السّبل المعينة له على الترك أو الفعل. ولقد مضى ذكر لبعض الأمور المعينة على التوبة، من بعض الذنوب على سبيل الإجمال، والحديث في هذا الفصل، ذكر لأمور تعين على التوبة عموماً (ص 187)، ثم بدأ في ذكرها وعدّد هذه الأمور عنده فكانت واحداً وعشرين، وتحدّث عن كل أمر، وهي مجملة: الاخلاص لله والإقبال عليه عز وجل، وهذا يكون بالعبادة الصّادقة, يقول ابن القيم رحمه الله: (فالمؤمن المخلص لله من أطيب الناس عيشاً، وأنعمهم بالاً، وأشرحهم صدراً، وأسرهم قلباً، وهذه جنة عاجلة قبل الجنة الآجلة (ص 187 189). امتلاء القلب من محبة الله عز وجل، فالمحبة أعظم محركات القلوب، فهي الباعث الأول للأفعال والترك (ص 189 192). مجاهدة النفس (ص 192 195)، قصر الأمل وتذكر الآخرة (ص 195 197)، العلم الذي يبصّر صاحبه بحقائق الأمور، ويضيء له الطريق السليم (ص 197 199) والاشتغال بما ينفع وتجنّب الوحدة والفراغ، والبعد عن المثيرات وما يذكر بالمعصية (ص 199 202), وغضّ البصر، لأن العين مرآة القلب، والنظرة سهم مسموم من سهام ابليس كما جاء في الحديث الصحيح ( ص 202 210)، مصاحبة الأخيار لأنها تحيي القلب، وتشرح الصدر، وتنير الفكر، وتعين على الطاعة ( ص 210 211)، ومجانبة الأشرار لأن المرء يتأثر بعادات جليسه (ص 211 213). والنظر في العواقب حيث يقف الإنسان على حقائق الأشياء، ويرى الأمور كما هي ( ص 213 216). وهجر العوائد وهي ما ألفه الناس، وهجر العلائق وهي كل ما تعلّق بالقلب دون الله، واصلاح الخواطر والأفكار وهي خطرات النفوس ووساوسها, (ص 216 219). واستحضار ثلاثة أمور: فوائد ترك المعاصي، وان الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة، وأضرار الذنوب والمعاصي,, هذه الامور إذا استحضرها الإنسان كانت له بتوفيق الله حجاباً يحجزه عن المعصية ويعينه على سلوك طريق التوبة الممهد السّهل,, (ص 219 222). والدعاء الذي يربط المخلوق بالخالق سبحانه، هو من أعظم الأسباب وأنفع الأدوية وهو عدوّ البلاء يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله ويرفعه، أو يخفّفه إذا نزل، لأن الله قد أمر بالدعاء، ووعد بالاستجابة (ادعوني استجب لكم) (غافر 60). والحياء الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم: شعبة من شعب الإيمان، فإذا تمكن من القلب استحيا الإنسان من ربه ألا يعصيه، واستحيا من الناس أن يروه على معصية، ومن نفسه على الأعمال السيئة (ص 222 226). والرقم عشرون: شرف النفس، وزكاؤها وأنفتها وحميتها، ذلك أن النفس عندما تعلو همّتها، ترتبط بشرع الله وتجد اللذّة في طاعة الله، كما جاء في الحديث الصحيح: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً) والشيطان متى رأى من الإنسان ثباتاً وأحسّ منه بقوة عزم، وشرف نفس، وعلوّ همّة لم يطمع فيه الا اختلاساً وسرقة، فأغزر الناس مروءة اشدهم مخالفة لهواه (ص 226 230). وختم هذا الفصل: بعرض الحال على من يعين: فمن الأدوية الناجعة النافعة، أن يعرض المبتلى حاله على أهل العلم، والدعوة والإصلاح والتربية، فإنه سيجد بإذن الله منهم إعانة على البرّ، ودلالة على الخير، وإجابة على الأسئلة، وسعياً في حلّ المشكلات (ص 230). وزاد في الفصل الثاني من الباب الثاني: يجعل عنوانه: التوبة طريق السعادة ويقسّمه الى مبحثين: الأول: سرّ العادة، حيث يرى ان العالم بأسره: مؤمنه وكافره، وبره وفاجره كل منهم يبتغي السعادة، ويروم طرد الهمّ والقلق,, ولكن ما أقل من يهتدي الى ذلك السبيل، وما اكثر من يحيد عنه يمنة ويسرة، ويرون ان السعادة هي سعادة المشاهير، من أهل الفنّ، والمال والرياضة، والوجاهة والرياسة وغير ذلك من الأشياء التي تأخذ بالألباب، ولا يعرفون السعادة الإ بإطلاق الشهوات والتمتع بسائر الملذات، وإذا فاتهم ذلك قالوا: على الدنيا العفاء,. هذه جعلته يتساءل عن هذا المفهوم، وهل يحقق السعادة المنشودة، ولكن الجواب الحقيقي للسعادة هو ما جاء في شطر بيت من الشعر: (ولكن التقيّ هو السعيد) وقد روي في هذا عن ابراهيم بن الأدهم قوله: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من راحة البال والسعادة، لجالدونا عليه بالسيوف,, وهو من الزهّاد العبّاد,, (ص 231 232). وأتى بنماذج من أهل الفنّ مع السعادة كأسمهان وأم كلثوم، وعبدالحليم حافظ (ص 232 237) فعن اسمهان قال: هذه امرأة عاشت حياة الشقاء، فلقد تزوجت زواجاً تعيساً ثم انفصلت عن زوجها وابنتها، وعملت لحساب الإنجليز وكانت تطمح لهوليود,, وآخر أمرها وجدت غريقة داخل سيارتها الرولس رويس في قناة متفرعة عن نهر النيل في الدلتا شمال القاهرة، وكان عمرها آنذاك اثنتين وثلاثين عاماً، ولا تزال ملابسات موتها غامضة الى الآن (ص 232 233). ثم ذكر حال أهل المال مع السعادة، وأن المال وحده لا يوجد السعادة,, بل إن كثيراً من الأغنياء يشقون مع أنهم مغرقون في النعيم إلى الأذقان، وكثير من الفقراء يسعدون غاية السعادة، مع ما هم فيه من شظف العيش، وقلّة ذات اليد، واورد النموذج لمايكل جاكسون، ذلك الرجل الذي تملأ شهرته الآفاق، ويقلده بكل أسف فئام من شباب المسلمين، في حركاته ورقصاته وقصّات شعره ونوع ملابسه وقد سال المال بين يديه بدون حساب، فقد كشف مصدر مقرّب أن مايكل منزعج بشدة من مجموعة أمور تركته في حالة انهيار، ويعاني من مشكلات شخصيّة أخرى يحاول معالجتها، ووالدته كاترين في حالة انزعاج شديد عليه، فهي تطلبه هاتفياً يومياً للتأكد من انه على ما يرام، وأنه لا يحاول القيام بشيء أحمق، حيث إنها تخشى عليه من اللجوء للانتحار (294), وهو في الأربعين من عمره، عندما اعترف أنه فكّر في الانتحار. وعن حال أهل الوجاهة مع السعادة وحال أهل الرياسة معها، ينطلق في حديثه من الحكمة القائلة: يا بنيّ لا تكن رأسا فإن الرأس كثير الآفات، فيرى أن صاحب المنصب والرياسة قلما يفارقه الهمّ، خوفاً على رياسته أن تزول، وإذا زالت بقي محسوراً معذّباً يقرع سنّة ويقلّب كفيه، ما لم يكن ذا مروءة صادقة، وديانة حقّة فذلك لا تطيش به الولاية في زهوّ ولا ينزل به العزل في حسرة، ثم ذكر من ذلك ما عبرّ به الملك حسين بن طلال، الذي تربع على عرش الأردن مدة تزيد عن 45 سنة، قضى معظمها في ريعان شبابه، حيث تولى الملك وهو في السادسة عشرة من عمره، وتحدّث في ذلك لجريدة الشرق الأوسط الصادرة يوم 21/10/1419ه، فبعد أن ذكر ملذات الدنيا التي نالها، وما كان تحت يده قال: هل يعني هذا حقاً أنني سعيد؟ ثم قال: لا اعتقد هذا، نعم لقد كانت حياتي خصبة مليئة كما قلت ولربما لم يعرف مثلها الا القليل من الناس، لقد عرفت السرّاء والضرّاء، ولعل الضرّاء رجحت على السرّاء، وعانيت لحظات في غاية الشدة، ومرّت بي فترات في أقصى درجات الضيق، ومرت بي أوقات أشعر فيها بأنني في منتهى العزلة، وعرفت الحداد والأحزان، والنادر من الفرح، والقليل من السعادة، لقد عرفت كل ما يمكن ان يعرفه كائن بشريّ: الجوع والعطش، والإذلال والهزيمة، والنادر من اليسار والبحبوحة، والقليل من السلام والراحة والابتهاج,, إلى أن قال: إن حياتي الخاصّة والعائلية غير منظّمة، فأعباء الدولة تحول بيني وبين أن أكون لهذه الكائنات الإنسانية العزيزة الغالية، بالقدر الذي يرغبون وارغب واتوق إليه، وطالما اضطررت الى ان اخيّب آمالهم في الوقت الذي ينتظرونني فيه لتناول الطعام معهم,, إلى آخر ما ذكر (ص 239 240). ثم ذكر بأن المنصب قد يكون سبباً في هلاك صاحبه أو تشرّده وشماتة الأعداء به، وضرب نموذج ذلك بشاه ايران وما صار فيه ثم ما آل إليه (ص 240 241)، وغيره من الزعماء كماركوس رئيس الفلبين، وهتلر زعيم النازية ونماذج من أهل الرياضة وغيرهم ممن يعيشون في المجتمعات الغربية الذين لا يحكمهم دين، ولا يربط قلوبهم إيمان بالله، فكان بعضهم غارقا في ملذّات أدت به الى الامراض، وبعضهم يلتمس السعادة في الخمور والمخدرات، وبعضهم ملّ الحياة فانتحر، لأسباب تافهة,, والغريب في الأمر أن نسبة كبيرة من المنتحرين ليسوا من الفقراء حتى يقال: إنهم انتحروا بسبب قلّة ذات اليد، وإنما هم من الطبقات المغرقة في النعيم، والبعيدة الصيت والشهرة، والرفيعة الجاه والمنصب، بل وينتشر في طبقات المثقفين, ثم اورد احصائية عن عدد المنتحرين، ففي الولاياتالمتحدة ربع مليون شخص سنوياً، اي بمعدل 120 شخصاً يومياً وفي بريطانيا 40 ألفاً خلال عام واحد، وفرنسا في تزايد 12 ألفاً شهرياً وهكذا, بل في بريطانيا جمعيّة للمنتحرين تصدر كتباً بهذا (ص 251 258). وفي مبحثه الثاني: من ترك شيئا لله عوضه الله خيراً منه، أورد ثلاثين حالة تلامس أوتار قلوب كثير من الناس لأنها واقعة في حياتهم، يبين ان من تركها رزقه الله عوضاً عن كل حاله بما يفيده المرء في نفسه وصحته وفي مجتمعه ورزقه، وفي تيسير أموره وراحة قلبه (ص 265 271), وجاء بقصّة يوسف عليه السلام فإنه لما ترك مطاوعة امرأة العزيز عوضه الله بعد صبره وثباته، بالعزّ والسلطان، والذكر الحسن والثناء الجميل,, هذا في الدنيا، وإن له في الآخرة للجنة (ص 273 276). وفي المبحث الأول من الفصل الثالث أورد نماذج لبعض أحوال العصاة، وما عانوا في حياتهم من قلق ومتاعب رغم شهرتهم، وتدفّق المال تحت أقدامهم، منهم: الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، والفيلسوف الإنجليزي هربارت سبنسر، والفيلسوف آرثر شوبنهور، وجان بول سارتر، وبريجيت باردو، ومارلين مونرو، وكريستينا أوناسيس، والفنانة الايطالية العالمية داليدا، والليدي ديانا سبنسر، ومادونا، ومايكل جاكسون, ثم بعد ذلك أبان أن المقصود من ذلك أخذ العبرة والعظة ليس إلاّ، والا فهم سيفضون إلى ما قدموا، وسيقفون أما حكم عدل, والبلايا والمصائب لا يختصّ بها أحد دون أحد، فهي تنزل على البر والفاجر، والمسلم والكافر، لكن هناك فرق: فالمؤمن يستقبلها برضا وسرور وترتفع درجاته في الدنيا والآخرة، وغيره يهلع ويجزع فتزداد مصائبه، وتكون من عاجل العقوبة له (ص 277 295). وفي المقابل أورد نماذج من أحوال التائبين وأحوال أهل الإيمان مع السعادة وذكر رجالاً ونساءً كانوا كافرين، أو عصاة فتابوا الى الله، وأحسّوا بلذّة الإيمان في قرارة القلب، وسكون ثائرة الهواجس وعواطف النفس، منهم الزعيم الشيوعي تروتسكي، والمغني الانجليزي كانت ستيفنز والممثلة هناء ثروت والممثل محسن محي الدين، وزوجته نسرين وغيرهم (ص 295 310). وقد ورد عنه قوله: أما الآن وقد تقدم بي السّن فإني أشعر كغيري من الناس بأنّي في حاجة الى ايمان ودين سماويّ ففكرت في وقت ما أن اصبح مسيحياً غير أني عدلت عن ذلك لكراهيتي اعتناق دين القياصرة، والمستبدين، وراسبوتين الراهب الشرّير، فلم يبق أمامي الا الدين الإسلامي، الذي دقّقت في البحث في شرائعه فوجدت فيه مزايا حسنة، منها أنه يحضّ على المناقشة، والمباحثة في أصوله، ولذا سأعتنق الإسلام، ويتناول فضيلة المفتي العشاء معي، ثم يبدأ بتلقيني الشرائع الإسلامية (ص 300). وبعد استعراضه لما ذكر أولئك التائبون قال: هذه نماذج لبعض أحوال التائبين، وما وجدوه من الإنس والنعيم، والطمأنينة لمّا أقبلوا على الله، وآثروا محابّه عز وجل (ص 308) بعد ذلك أورد خلاصة للبحث في صفحتين ثم الخاتمة المختصرة التي قال فيها في النهاية: وآمل ممّن لديه استدراك أو ملحوظة، أن يتحف أخاه بها، والله المستعان وقد زوّد كتابه هذا بهوامش مفيدة ومهمة (ص 246 247)، عن الأمراض الجنسية التي تأتي مع المباشرة المحرمة، وعن احصائيات عن الانتحار، وآراء رجال الفكر في الغرب، عن الإسلام ومكانته، وعن الخواء الفكري في الغرب, والكتاب في مجمله جيد في عرضه وانتقاء المادة وتوثيق ما ورد فيه من آراء واستشهادات. إن أعطوا رضوا: ذكر المسعودي في كتابه مروج الذهب: أن محمد بن سليمان أمير البصرة أيام المهدي، ركب يوماً بالبصرة، وسوّار القاضي يسايره، في جنازة ابن عمٍّ له، فاعترضه مجنون يعرف برأس النعجة فقال له: يا محمد، أمن العدل أن تكون عطيّتك في كل يوم مائة ألف درهم، وأنا اطلب نصف درهم فلا أقدر عليه؟ ثم التفت الى سوّار فقال: إن كان هذا عدلاً فأنا أكفر به فأسرع إليه غلمان محمد فكفّهم عنه وأمر له بمائة درهم. فلما انصرف محمد وسوّار معه، اعترضه رأس النعجة فقال: لقد كرّم الله منصبك وشرّف أبوّتك، وحسّن وجهك، وعظّم قدرك، وأرجو ان يكون ذلك لخير يريده الله بك,, فدنا منه سوّار فقال: يا خبيث ما كان هذا قولك في البداءة فقال له: سألتك بحق الله، ثم بحق الأمير، إلّا ما أخبرتني في أي سورة هذه الآية: (فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) قال: في سورة براءة، قال: صدقت، فبرىء الله ورسوله منك. فضحك محمد بن سليمان حتى كاد يسقط عن دابته (2: 263). وللمجانين حكايات، ويخرج منهم حكم، فقد جاء في كتاب عقلاء المجانين: أن الخليفة العباسي: هارون الرشيد خرج الى الحج فلما كان بظهر الكوفة، إذ أبصر بهلولاً المجنون على قصبه، وكان بهلول هذا من عقلاء المجانين استقدمه الرشيد وغيره من الخلفاء لسماع كلامه لأن له كلاماً مليحاً ونوادر وأشعاراً. وكان خلفه الصبيان وهو يعدو، عندما أبصره الرشيد، فقال الرشيد: من هذا؟ , فقيل له: هذا بهلول المجنون، فقال: كنت أشتهي أن أراه، فأدعوه من غير ترويع، فذهبوا إليه، وقالوا: أجب أمير المؤمنين فلم يجب فذهب إليه الرشيد، وقال: السلام عليك يا بهلول,, فرد عليه قائلاً: وعليك السلام يا أمير المؤمنين, فقال: دعوتك لاشتياقي إليك,, فقال: بهلول: لكني لم اشتق إليك، فقال الرشيد: عظني يا بهلول: فقال: وبمَ أعظك؟ هذي قصورهم وهذي قبورهم, فقال الرشيد: زدني؟ فقد أحسنت, فقال: يا أمير المؤمنين، من رزقه الله مالاً وجمالاً فعفّ في جماله، وواسى في ماله، كتب في ديوان الأبرار. فظن الرشيد أنه يريد شيئاً,, فقال: قد أمرنا لك أن تقضي دينك, فقال: لا يا أمير المؤمنين لا يقضى الدين بدين، اردد الحق على أهله، واقض دينك عن نفسك، من نفسك، قال: فإنا قد أمرنا لك، أن يجرى عليك، فقال: لا أريده يا أمير المؤمنين، أترى الله يعطيك وينساني ثم ولّى هارباً (ص 69).