ما لقيه فوز أوباما من قبول وارتياح عالمي كان على خلفية ملل العالم وتذمّره من سياسة إدارة الجمهوريين، وبالتحديد تيار المحافظين الجدد, لكن الملاحظ أن احتفاء بعض العرب بالرئيس الجديد كان مبالغاً فيه بشكل يبعث على التساؤل؟! فالقوم وجدوا في مشهد فوز رجل أسود برئاسة البيت البيض مؤشراً كافياً في الدلالة على أن الليبرالية أعدل من أي منهج آخر على وجه الأرض، واستبشروا وهلّلوا واستنفروا الأقلام والأوراق لتسطير ما يؤرخ مشهد المساواة والعدالة الليبرالية الأمريكية في أوضح صوره!! كلنا انتابنا شعور بشيء من التفاؤل حين أعلن أوباما عن برنامجه فيما يخص تخطئة الجمهوريين وإصلاح جوانب من سياسة أمريكا الخارجية، لكن برنامج أوباما لم يحدد خطوطه العريضة في كثير من تلك السياسات، كما لم يُسمّ الاستراتيجيات التي ينوي تغييرها على المستوى الخارجي؛ ما يترك باب غموض برنامجه مفتوحاً في هذا الاتجاه! لكن الليبرالية العربية رأت فيه المخلص الذي سوف ينهي حالة الحروب ويحرر فلسطين ويملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلئت جوراً!! على صعيد القضية الفلسطينية بعث أوباما برسالة مبكرة إلى إسرائيل والعالم الإسلامي، وذلك باختيار رام إمانويل الإسرائيلي الجنسية كبيراً لموظفي البيت الأبيض، وهو منصب رفيع نافذ في صناعة القرار. وفي اليوم الأول من فوزه (4 نوفمبر 2008) ألقى أوباما كلمة أمام (إيباك) أخطر لوبي صهيوني متطرف في أمريكا، أكد فيها أن أمن إسرائيل شيء (مقدس) كما أكد على أن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل ووقف يهودي إسرائيلي محض! (وفقا لما جاء في موقع إذاعة سويس انفو swissinfo.ch) هذا يراه المراقبون إشارة كافية على التزامه الكامل بالسياسة الأمريكية التقليدية تجاه القضية الفلسطينية منذ خمسين سنة على مدى تعاقب الحزبين الجمهوري والديمقراطي على الحكم. أوباما تحدّث أثناء حملته الانتخابية أمام أمريكا والعالم بأسلوب لم يختلف في جوهره عن أسلوب بوش حين هدد بضرب باكستان!! وهي سياسة أمريكية متبعة في تجاوز القانون الدولي الذي ينص على أن إعلان الحرب يجب أن يكون من خلال قرارات الأممالمتحدة، والمشهد هنا شبيه بموقف بوش بخصوص ضرب العراق!! سياسة أوباما الخارجية توضح عموماً أنه لا يزيغ عن ثوابت السياسة الأمريكية التي ترتكز على مراعاة مصالحها الحيوية، وهي سياسة لا يرسم خطوطها العريضة أوباما وحده بل هو حلقة في سلسلتها يبدأ في تنفيذها من حيث انتهى مَن قبله، كما تحكمها دوائر بالشراكة مع الإدارة الأمريكية وهي اللوبي اليهودي واليمين المسيحي المتصهين وشركات السلاح والنفط، ولكل هؤلاء تأثيرهم البالغ على الاقتصاد والرأي العام الأمريكي من خلال مراكز الأبحاث و(دبابات الفكر) التي تمثلهم في المجتمع، ولا شك أن الذين يتعاملون مع السياسة الأمريكية (كدول ومنظمات) يضعون هذا في اعتبارهم دائماً. أما بخصوص مشروع الشرق الأوسط الكبير فلا جديد في برنامج أوباما فلم يصدر عن أوباما الرئيس شيء يوضح موقفه منه، لكن أوباما حين كان شيخاً (في مجلس الشيوخ) صرّح بشيء يعكس نيته في تبني هذا المشروع والمضي فيه في دراسات نشرها قبل عام!! بالنسبة للعراق لا يُرى في أفق سياسة أوباما برنامج واضح لخطة الانسحاب! أعلن عن مشروع الانسحاب خلال حملته نعم، وجدد تعهده بذلك بعد الفوز نعم! لكن شكل الانسحاب وحجم بقاء القوات الأمريكية في العراق يكتنفه غموض يحتاج إلى توضيح، ولاسيما في ظل السجال حول الاتفاقية الأمنية بين الحكومة العراقيةوأمريكا، قبل أن تتم الموافقة العراقية عليها في نهاية الشهر الماضي، وفي ظل تصريحات أدلى بها أوباما في مطلع عام 2007 عن بقاء قوات من المرتزقة بين 100 ألف و200 ألف جندي بدعم أمريكي خارجي، وهذا تقريباً ما نصت عليه ورقة الاتفاقية الأمنية أيضاً, فالانسحاب هنا متأرجح بين انسحاب جزئي وانسحاب كامل، وكل المؤشرات ترجح أنه جزئي لإسكات الرأي العام وتفادي الخسائر في صفوف الجيش من جهة والحفاظ على المصالح الحيوية في العراق وما تقتضيه بنود الاتفاقية الأمنية. وإذا وضعنا في الاعتبار مبادرة أوباما نحو إيران بفتح باب الحوار المباشر معها فسنقترب أكثر من مشهد شكل الانسحاب وما يمكن أن تلعبه إيران من أدوار لصالح أمريكا في انسحابها الجزئي كالأدوار التي لعبت ليلة سقوط بغداد، ولاسيما في ظل إشارات واضحة بترحيبها بالاتفاقية الأمنية وتأييدها لموقف الحكومة العراقية منها. أما فيما يخص الشأن الأفغاني فلا يختلف برنامج أوباما السياسي بخصوص أفغانستان عن سياسة بوش! اللهم إلا في توسيع دائرة المعركة لتشمل باكستان كما أعلن هو نفسه عن ذلك! فإلى الآن تجري العمليات العسكرية الأمريكية في الداخل الباكستاني بشكل سري وخاطف، لكن أوباما يفهم منه أنها حرب علنية تشمل أفغانستانوباكستان معاً! صعود أوباما يعكس بكل تأكيد انقلاباً على توجهات المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية، لكنه لا يمثل انقلاباً على المشاريع الأمريكية ذات الصلة بالمصالح الاستراتيجية في العالم؛ فتاريخ الحزبين الجمهوري والديمقراطي يقول إنهما لا يختلفان عليها، وإنما على طريقة إدارتها. هل سينجح أوباما في تغيير لون أمريكا السوداوي في العالم؟ سؤال ستجيب عنه الأيام الحاملة التي ليس يعلم غير الله ما ستلد!! ومع أنني كغيري ممن مال إلى فوز أوباما وخسارة ماكين إلا أنني حثيث على نفسي وغيري من خلل في التوكل على الله وتقصير في الاستعداد والعمل الذي لا نجاة لنا بدونه، وسنظل جاهلين إن علقنا مصالحنا ومستقبلنا وتنميتنا على فوز أوباما أو خسارة ماكين؛ فما حك جلدك مثل ظفرك! *** لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب 8300 ثم أرسلها إلى الكود 8224