قضينا بقية اليوم في استقبال الزوار, وقد جاء لزيارتنا على انفراد أمين المال والقهرمان وغيرهما من موظفي الشريف الأعظم، وذلك إما بمبادرة شخصية منهم وإما بإيعاز من سيدهم، ثم جاء أصدقاء شمس والعديد من شخصيات المدينة الذين دفعهم إلى ذلك الفضول, وفي الشرق تذهب للزيارة بدون أن يكون من الواجب تقديمك وتعريفك كما هو الحال في أوربا ويسود في هذا المجال قدر كبير من عدم التقيد بالرسميات والشكليات, وفي معظم الحالات لا تنطق كلمة واحدة، وتتم المجاملات بينما لا يفكر أي شخص في أن يسأل زائرا غير معروف عن هويته أو لماذا جاء, وكان شمس العجوز وابنه عبد الله موجودين في منزلنا أكثر من وجودهما في منزلهما، وكانا دائما على استعرار لتقديم المساعدة لنا وإعطائنا معلومات حول ما نستفسر عنه، وبعبارة واحدة فقد عملا ما في وسعهما ليكونا نافعين ولطيفين معنا, وفكرا في أن يحضرا من الجوار شخصا يمثل أدوار العبيط على أمل أن يكون في ذلك تسلية لنا, وقد اشتهر العرب بتذوق هذا النوع من التسلية ويمكن إدخال السرور على نفوسهم بسهولة من خلال النكات غير المتحشمة في معظمها, وبالنسبة لي كان هذا النوع من الترفيه مرهقا، كما كانت فكاهة العبيط تتناول أشخاصا وأشياء لا علم لي بها واحتوت في معظمها على تلاعب بالألفاظ يصعب عليّ إدراك أصلها ومصدرها بينما تفقد نكهتها ومعناها عند ترجمتها, وقد جددت من خلال احتكاكي مع السكان المحليين الملاحظة التي توصلت اليها في جدة وهي ان العرب أكثر براعة وذكاء من الأتراك، وعلى النقيض مما يحدث في الشرق فإن المرء لا يجد فيهم أثرا لأتمتة الغبية والكئيبة التي تستند أهميتها إلى ذلك القدر الكبير من اللامبالاة. قمت بزيارة شمس في المنزل الذي انتقلوا اليه حتى يتركوا لنا المنزل الذي كانوا يقيمون فيه، وبدا لي ذلك البيت صغيرا على تلك العائلة الضخمة وقدرت المتاعب التي تحملوها من أجلنا, إن معظم بيوت الطائف لا تتوفر فيها الطوابق الأرضية التي توجد في دور مكة، ويتم استقبال الزوار في الطابق الأول ولا أحتاج إلى وصف الحفاوة التي أحاطني بها المضيفون ولا ما أنفقوه من أجلنا, وقد وصلت القهوة والمشروبات والحلويات بعضها تلو الآخر بدون انقطاع، كما تم تخصيص أفضل غليون في البيت لي, وحينما كنت أدخن وألقي الأسئلة دخل علينا شخص أبيض اللون من رأسه إلى قدميه إذ كانت لحيته بيضاء وثوبه أبيض كذلك عمامته وباختصار كل شيء أبيض عدا وجهه وكفيه التي كانت أقرب إلى السواد, وهو شخص وقور ورزين وعالم بالدين ومشهور بالتقوى, ولم يكن حديثه سوى سلسلة متصلة عن الآيات القرآنية والمواعظ الأخلاقية، وذلك وفقا لتقاليد الشرق, وهنا واحدة أثارت إعجابي ويمكن أن تعطي نموذجا للبقية: إن الصبر صعب مثل اسمه إلا أن نتائجه أحلى من العسل, ولتذوق هذه الحكمة يجب أن تعلم أن مصدرها التلاعب بالألفاظ إن كلمة صبر في اللغة العربية تشير أيضا إلى نبات الصبر. قمنا عشية مغادرتنا الطائف بزيارة الشريف الأعظم للاستئذان، وتتابعت الأحداث بنفس تسلسل أحداث الزيارة السابقة مع اختلاف بسيط وهو أن الجيش البدوي المتحلق حول القصر كان أقل عددا كما تم استقبالنا بقدر أقل من الأبهة، ولكن بنفس مستوى الأدب والمجاملة وبنفس مظاهر الترحيب, كان الأمير يرتدي في ذلك اليوم عباية رائعة من الكشمير الأخضر زينت حوافها باعصان النخيل الحمراء, ونظرا إلى أننا تعرفنا على بعضنا في المرة السابقة فقد كانت المحادثة حميمة, وتحدثنا عن الكوليرا التي اجتاحت مكة، ولم تصل الطائف وعن مصر ومحمد علي الذي تحدث عنه الشريف باعتدال رغم أن الباشا دمر حكم والده الشريف غالب، والذي اصبح شبه ملك, كما أبدى قدرا أقل من الغفران لعباس باشا وأحسن الحكم على سلوكه الخاص والعام, ثم طرح سؤالا حول المعرض الصناعي الكبير الذي يتم الإعداد له في باريس, وقد شجعته على إرسال عينات من الصناعات الوطنية، وأكدت له أنه يستطيع تحقيق النجاح هناك, وأجاب ضاحكا نعم النجاح في أن أكون موضع السخرية. انحدر بصري بشدة وأنا أملي هذا الوصف لرحلتي الأخيرة، علما بأنني أكاد لا أبصر شيئا الآن, وقد عبر الأمير عن مشاعر تعاطف، وأبدى اهتمامه نحوي بعبارات قوية ومخلصة، وأكد لي أن قلبه ينفطر لحالي, وذكر لي على سبيل المواساة أن واحدة من بين أصغر حريمه سنا تعاني من نفس الداء، وأنها تستحق الشفقة أكثر مني إذ لا يوجد لديه كما هو الحال في أوروبا أي شخص للعناية بها مستخدما موارد العلوم كما لا تتوفر لها رعاية الأطباء الأكفاء, وقد حصل مني على وعد بأن أبعث إليه بأخباري عند عودتي إلى فرنسا, وهو الوعد الذي وفيت به بكل إخلاص. أضيف في ختام هذا الوصف للزيارة الأخيرة أن الشريف مطلب أقام خلال فترة نفيه في القسطنطينية علاقات مستمرة مع سفير بريطانيا العظمى لورد ستر اتفرد يحمل لقب سير في الواقع، والذي يحمل الآن لقب لورد Stratford Canning ستراستفورد كانينق دو ردكليف, وقد استفسر مرافقي وهو انجليزي الجنسية عن أخباره والذي أكد بقوة أنه يعرف ذلك الدبلوماسي, وبناء على ذلك سلم الأمير مرافقي رسالة إلى اللورد والتي أعتقد بأن السير كول بعث بها إليه على عنوانه (1). لا أستطيع مقاومة الشعور العميق بالصدمة كأوروبي وكإنسان من الموقف المعيب الذي أظهره مرافقي في حضرة الأمير، وأضيف أن هذه لم تكن المرة الأولى التي ألاحظ فيها شيئا مثل ذلك لدى مواطنيه ولديه شخصيا, وفي القرن الثامن عشر كان هناك اتفاق عام حول اعتبار الانجليز النموذج الأصل للعجرفة والغطرسة, وقد صورهم جان جاك رسو نفسه على ذلك النحو في شخصية ميلورد إدوارد Milord Edward وقد ثأر الزمن والتجربة من هذا الرأي المتحامل, ومن جانبي فقد عرفت العديد من الانجليز من جميع الطبقات داخل وخارج بلادهم ورأيتهم في كل مكان سجدا تحت أقدام القوى المتحكمة سواء كانت سلطة شرعية أو غاصبة، ولا يظهرون في هذا المجال أي نوع من الاستقلال أو التمييز, كما أن جميع طبقات الشعب الانجليزي تمارس نوعا من التوقير للوضع الاجتماعي وهو نوع من التقليد الذي يثير السخرية ويصل إلى حدود التذلل, وقد سخر مواطنهم ثاكراي Thackeray من هذا السلوك بذكاء شديد في رواية ناينتي فاير, ومن المؤكد أن للتربية دورا في ذلك كما أن الممارسة المنظمة تعزز هذا السلوك, والإنجليز الذين يولدون في إقطاعية يرضعون من حليب أمهاتهم ويشبعون بروح الطبقية باعتبارها المبدأ الأساسي الذي يشكل أساس مجتمعهم, كما أن لديهم نوعا من الفراغ والتفاهة يعادل على الأقل مزاج وتفاهة الفرنسيين الذين أعلن دانتي وميكافيلي أنهم أكثر الأمم فراغا وتفاهة, ولا يملك الإنجليز أي علم بالأفكار الأولية عن المساواة. لا أستطيع أن أكن إعجابا اكثر من ذلك بالنبل والوقار الذي يتمتع به بدو الصحراء الذين يتعاملون مع الشخصيات بثقة في النفس، ويخاطبونهم بدون خوف ولا ينقصهم أبدا الاعتداد بالنفس الذي يليق بالرجال, هذا هو سلوكهم مع شيوخ القبائل، ولا يذهبون إلى أي مكان غير خيامهم طلبا للضيافة، كما يتعاملون مع الشريف الأعظم بنفس القدر من الحرية وينظرون إلى قصره باعتباره بيتهم، وإلى مستودعات غلاله بأنها ملكهم. ينتشر تقليد تقديم الهدايا على نطاق واسع، وهو معروف في كل أنحاء الشرق, ولم يستثننا الشريف عبد المطلب من هذا التقليد، إذ أرسل لنا هدايا مع أمين ماله, وقد تسلمت عباءة بيضاء رائعة مصنوعة من الصوف البغدادي وموشاة بالذهب, وتسلم م, ديكوى عباءة سوداء، ومنح مرافقي قماش سرج موشى بالفضة, أظهرنا من جانبنا كرما فياضا نحو أفراد الأمير الذين قدموا لنا خدمات بدون أن نتجاهل أفراد منزل السيد شمس، إذ يجب أن نتأكد بأن جميع التشريفات التي انهمرت علينا يجب أن تكافأ في شكل بخشيش حينما يحين وقت تسديد الفاتورة, طلب م, ديكوى النصح من الشريف حامد حول هذا الأمر والذي حدد بدوره نصيب كل واحد, ومع أن الأرقام التي حددها كانت مناسبة، فإن رأيي الشخصي كان مضاعفة المبلغ. وافقني الرأي مرافقي الذي كان يتقاسم معي نفقات الرحلة, وأيا كانت التضحيات التي يفرضها علينا مثل هذا الالتزام، فإننا وحفاظا على الشرف الأوربي لا نستطيع ان ننحدر من الوضع والمكانة التي وضعنا فيها, وكان من الضروري أن يتناسب كرمنا مع الحفاوة والضيافة التي حصلنا عليها, وأستطيع القول بدون مبالغة إننا كمواطنين أروبيين عاديين عملنا ما ينبغي عمله، وإن الأوربيين الذين سوف يزورون الطائف بعدنا لن يشعروا بالخجل من الذكريات التي تركناها خلفنا. وبما أنني لا أملك شيئا مناسبا أهديه إلى شمس، فقد وعدت حفيده عبد القادر أن أبعث إليه هدية في وقت لاحق, وقد وفيت بوعدي وبعثت له من الإسكندرية بساعة حملها عني السيد أوتري الذي أرسل في وقت لاحق إلى جدة قنصلا لفرنسا, وكرد فعل على ذلك بعث لي والده برسالة شكر رائعة أقدم ترجمة حرفية لها كنموذج لأسلوب الرسائل لدى عرب الحاضرة: بسم الله يا عين البارزين وفخر الأنداد, صديقي السيد شارلز ديديه الذي أرجو من الله العلي القدير أن يوفقه إلى طريق الخلود, بعد أن أقدم لك احترامي الذي يليق بمكانتك أرجو أن أبلغك بأنني لم أتوقف عن الصلاة (2) طلبا لأخبارك. لقد تسلمت خطابا من السيد م, ديكوى والساعة التي بعثتها إلى ابني عبد القادر والتي سلمتها له وتقبلها بالشكر والعرفان، وبما أن ما بيننا يقوم على أساس المعروف وبدون مجاملات، لذلك لم تكن تحتاج إلى تكبد مثل هذه المشقة. وأخيرا لقد رأيت من المناسب أن أكتب لك هذا الخطاب لابعث إليك هذه المعلومات، وينتهز والدي وابني عبد القادر هذه الفرصة ويبعثان لك تحياتهم واحترامهم. الطائف 2 جمادى الأولى 1271 (15 فبراير 1855) (توقيع) عبد الله بن محمد سيد شمس الدين (1) هذا السفير الذي يتحدث عنه المؤلف يعد من ابرز سفراء بريطانيا المشهورين الذي عمل سفيرا لبلاده في استانبول سنوات عديدة وفي وقت تمر فيه الدولة العثمانية باخطر وأهم مراحلها حيل ها وذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، وله بصمات في كثير من الاحداث التي واجهتها الدولة العثمانية في الجزيرة العربية خاصة في عسير والحجاز فلا غرابة ان تكون له علاقة ومعرفة بالشريف عبد المطلب الذي له بصماته الواضحة في تاريخ الحجاز فاقت بكثير من كان لغيره وعلى مدى ما يقرب قرن. (2) الصلاة هنا تعني الدعاء' * أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر جامعة الملك سعود