يقيم قسم الجغرافيا بجامعة الملك سعود يومه الجغرافي الأول يوم الأحد27 جمادى الأولى في رحاب جامعة الملك سعود، ولربما يريد القسم من خلاله أن يقف وقفة تأمل فيما يتعلق بمسيرته ماضيا وحاضرا ويحاول استشراف المستقبل.. ... الجامعة ممثلة في أقسامها العلمية وأعضاء هيئة التدريس فيها تقوم على تربية أجيال من المتخصصين والباحثين عن الحقيقة بطريقة علمية. والجامعة بمراكزها البحثية يقاس حضورها وعطاؤها بناء على عدد من المعايير، في مجالات التدريس والبحث العلمي وخدمة المجتمع. وما يقوم به قسم أكاديمي من نشاطات وتطوير وفعاليات يشكل المنظومة الكلية للجامعة. وبالمناسبة، ليس من باب الدعاية أو الإطراء، فإن جامعة الملك سعود تمر في الوقت الحاضر بفترة تطويرية شاملة، بل تسعى بخطى وثابة ومتسارعة نحو تحقيق الريادة بشكل عام، وعلى وجه الخصوص في مجالي البحث العلمي وخدمة المجتمع، ابتكارا وإبداعا، وجميع ذلك يصب بطبيعة الحال في وعاء العطاء للوطن الغالي. وما الندوة التاسعة لأقسام الجغرافيا، والذي نظمها قسم الجغرافيا بجامعة الملك سعود تحت عنوان (الجغرافيا والتقنيات الحديثة) العام قبل الماضي، إلا تلبية لتطلعات جامعة الملك سعود في دعم البنية الأساسية الإلكترونية فيها، والتي تتطلب وضع معايير دقيقة وضوابط نوعية للجودة والتحديث والتطوير المستمر لجوانب الأنظمة والتطبيقات التقنية. وسيكون الراعي لفعالية اليوم الجغرافي معالي وزير التعليم العالي الدكتور خالد العنقري، وهو الجغرافي الذي خاض غمار الأساليب التقنية الحديثة، التي يستعملها الجغرافيون، ألم يكن المؤلف لكتاب: (الاستشعار عن بعد وتطبيقاته في الدراسات المكانية)، الذي صدر في عام 1407ه؟، ذلكم الكتاب الذي استمتعنا بقراءته، والذي سطر مشكورا، بخطه الحسن، إهداءه لي فور صدوره. ولقد درّس الدكتور العنقري مقرر الاستشعار عن بعد في قسم الجغرافيا بالجامعة. ويذكر في تقديمه للكتاب أنه خلال تدريسه جمع مادة علمية من الكتب والأبحاث والدراسات في هذا المجال، ثم شجعه بعض الزملاء بتنسيق هذه المادة وتبويبها وإخراجها في كتاب مرجعي جامعي يستفيد منه الطلاب، على وجه الخصوص، وكذلك المهتمون بالتقنية بشكل عام، وهذا ما قام به. ويسجل لمؤلفه ولهذا العمل المتميز التقدير والاحترام. كما سيكون معالي مدير جامعة الملك سعود الدكتور عبدالله العثمان، وهو من الرواد في تطوير هذه الجامعة والانطلاق بها إلى آفاق العلم الرحبة، من الراعين لهذا اليوم. ولقد ذكر لنا في اجتماع مع بعض الزملاء أن قسم الجغرافيا في جامعة الملك سعود مر بمرحلة من التطوير في مجال التقنيات تعادل ما هو موجود في الجامعات العالمية المرموقة، ولم يكن مجاملا لنا بل هي نظرة منه تقويمية نثمنها ونعتز بها، ولعلها تكون دافعا للجغرافيين للمزيد من العطاء والتطوير. ولقد سبق أن ذكرت في ورقة تلوتها في ورشة عمل نظمتها الجامعة أن على الجامعة في مجال التعليم الإلكتروني، وتحقيقا لهذا النوع من التعليم، عليها أن تعمل على تعزيز ثقافة التعليم الإلكتروني ووضع خطة لنقل المعرفة الإلكترونية وتوطين البرمجة التقنية من خلال الاتفاقيات المحلية والعالمية التي تمكنها من تحقيق الريادة مطورة للبرمجة التقنية وأساليب المعرفة اللازمة للتعليم الإلكتروني. وبالنسبة للجغرافيين، أقول في سياق ذلك لقد جاء الجغرافيون العرب عبر طريق طويل من المحاولات ومن الجهد المركز ليبرزوا الأدوات والأساليب الحديثة التي يمارسها الجغرافيون من غير العرب. لقد عاد الجغرافيون، من المراكز الأكاديمية التي شد الرحال إليها معظمنا، بدعم سخي من حكومة هذا الوطن المعطاء، عادوا بتخصصات وتوجهات علمية متنوعة وبخلفيات وتجارب تبعا للأقسام التي تخرجوا منها، ولربما بناء على البيئات الجغرافية التي احتضنتهم فترة من الزمن لا يمكن لهم نسيانها. اسمحوا لي هذه المرة لأن أعود للماضي لأستشرف منه المستقبل وأقول: إن من يشار إليهم بالبنان من الباحثين وطلاب العلم في الجامعات الغربية هم كذلك سلكوا طريقا طويلا، وقد يكون شاقا ومليئا بالتحديات وبالتجارب وبمحاولات مليئة بالأخطاء، كما واجهوا تحديات حتى من أقرب الناس إليهم في أقسامهم العلمية ولربما تثبيطات من البعض في أحايين أخرى، اسمحوا لي في عجالة أن أسوح بكم في عالم من الذكريات. خرج لنا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي كل من دورز، من جامعة وين ستيت، وسمرز من جامعة ولاية ميشجن، بكتاب من أربعة أجزاء: مقدمة في الجغرافيا، والجغرافيا الطبيعية، والجغرافيا الحضارية، والجغرافيا الاقتصادية. وشملت هذه المجلدات مقالات لأبرز الجغرافيين الغربيين، معظمهم من الولاياتالمتحدة، الذين تركوا بصمات متميزة على الجغرافيا الأمريكية، إن جاز ذلك تعبيرا. وعلى سبيل المثال لا الحصر احتوى مجلد مقدمة في الجغرافيا: قراءات مختارة، على ثلاثين مقالة ابتداء بمقالة فينمان، الذي شرح فيها ما أسماه بحلقات الجغرافيا، أو علاقتها بالعلوم أو بفروع معينة من المعرفة الإنسانية، انتهاء بمقالة لإيكرمان، الذي يتساءل فيها عن مجالات البحث الجغرافي. ومن أبرز ما احتواه المجلد الأول: المقدمة، الجزء الخاص بتقنيات وأدوات الجغرافيا تلكم التي مرت بمراحل تعتبر بالنسبة لما يستخدمه الجغرافيون اليوم بسيطة وفي بداياتها حيث إن المركبات الفضائية التي بدأت إرسال مرئياتها اعتبرت بداية لمرحلة جديدة وواعدة كأدوات وتقنيات للتحليل المكاني، على الرغم من ذلك كان هنالك جدل حولها. من المقالات الشيقة في الجزء المذكور مقالة آرثر رابنسون، من جامعة ويسكنسن وأب الكارتوجرافيين في القرن العشرين، تلكم المقالة كانت بعنوان: On Perks and Pokes، والتي نشرت في العدد السابع والثلاثين من دورية الجغرافيا الاقتصادية عام 1962م. ويعني المصطلح الأول (البيركز) لرابينسون أولئك المتجهين لاستخدام الطرق الكمية بشكل مفرط و(البوكز) الذين يتخذون موقفا مغايرا. أما رابنسون فيشير في مقالته إلى موقف وسط بين هؤلاء وأولئك، فالوسطية، الشائع الحديث عنها في أيامنا هذه، شملت مواقف تجاه استخدام التقنيات والأدوات في البحث الجغرافي، فما أشبه الليلة بالبارحة. وعندما رجعت إلى القاموس لمحاولة معرفة الأصل اللغوي للكلمتين وجدت أن الأولى تعني رفع الرأس ومده بغطرسة ومن معانيها التهندم والتزين، أما الأخرى فمن معانيها المتدخل في مالا يعنيه والمتسكع والذي يضيع الوقت سدى. ويختم رابنسون مقالته بالقول إن الجغرافيا لا تزال كما هي دائما تحاول: فهم الأسلوب الذي تظهر فيه المتغيرات العلاقات الموقعية والارتباطات الوظيفية عبر منطقة وفي مكان في الحاضر أو عبر الزمن، للوصول إلى استنتاجات لهذه المفاهيم ولبناء ثروة معرفية والتي تمكن جغرافيي المستقبل من معرفة أفضل للمهام نفسها، فمن يمكن أن يسأل عن أنبل علم من الجغرافيا؟ لا شيء عدا أن نبقي في أذهاننا كلمتين هما: المنطقة والمكان ككلمتي سر للدخول إليها (أي حقل الجغرافيا)، ثم إن أية طريقة مناسبة نحتاجها فل نسلكها أو نستخدمها، وسواء نركز على طريقة بعينها فقط أو أن تتجاهل طريقة ما إلا على أساس بدغواجي. وفي مقالة لكاو بعنوان استخدام الحاسوب في معالجة وتحليل المعلومات الجغرافية والمنشورة أساسا في دورية الجيوجرافيكال رفيو في عام 1963م فتشير إلى البدايات الأولى لما تم الاصطلاح عليه بنظم المعلومات الجغرافية. ومن أهم الوظائف لذلك الأسلوب هو ترتيب المعلومات المكانية التي يتعامل معها الجغرافي بأشكال متعددة. وفي مجال الخرائط أصبح النظام يتيح فرصة أفضل لاستخدام الخرائط الجيومترية نظرا لاهتمام الجغرافيين بالدراسات البيئية. أما الطرق المترية فتعتبر أقل أهمية إذا ما قورنت بالطرق التبولوجية سواء لوصف أو تحليل المشكلة قيد الدراسة. أما مقالة ويتكر التي نشرت في دورية جمعية الجغرافيين الأمريكيين عام 1954م يتحدث فيها عن مضي خمسين عاما على إنشاء الجمعية. ويشرح الطريق القادمة أمام الجغرافيين ويخلص إلى القول بوضع افتراضين: الأول كون الجغرافيين من بني جلدته قد ألموا بشكل معقول بعرض وعمق حقلهم، إلا أن عليهم المحافظة عليه ضد الانكماش أو الانحسار أو التضعضع، والثاني أنه خلال الخمسين السنة القادمة (أي حتى عام 2004م) سترى توسعا وتجديدا في سجل الجغرافيا وتطورا كبيرا في التعميمات الجغرافية واهتماما بالفكر والتاريخ الجغرافي، الذي هو الآن يقبع في بطون الكتب والمجلدات. ونحن في عام 1429ه ماذا يخبِّئه المستقبل لشبابنا وشاباتنا من الجغرافيين والجغرافيات؟، فإذا كان التاريخ يعنى بالوطن ماضياً ومستقبلا، فإن الجغرافيا تعنى بأرض الوطن وبمائه وبسهوله ووهاده وبرماله وجباله، وبثرواته الكامنة والظاهرة وبأقسامه ومساحاته وبسكانه وبمدنه وقراه وبحدوده وبمجاله الحيوي والجيواستراتيجي، فلكل ذلك لا بد من جغرافيا متطورة وفاعلة وحاضرة، غير غائبة، لحل العديد العديد من المشكلات البيئية والتباينات المكانية لتنمية أفضل وأعم ولوطن شاسع مترامي الأطراف تبلغ خطوط حدوده البرية والبحرية والجزرية آلاف الكيلومترات، كل ذلك في حاجة إلى بحث ودراسة، فهل نحن -الجغرافيين- مستعدون للقيام بهذا العمل الكبير؟ والسؤال الآخر الذي يمكن طرحه: هل تكونت لدى الجغرافيين العرب مدرسة أو مدارس جغرافية فكرية؟، علما أن أقسام الجغرافيا بجامعات المملكة، بتوجيه من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - يحفظه الله- تنظم ملتقيات دورية عن قضايا مهمة وملحة ترتبط بشؤون بيئية وتنموية متنوعة. كما أن هناك توجها للجغرافيين العرب في السنوات الأخيرة يتمثل في عقد سلسلة من الملتقيات الجغرافية التي نظمتها وتنظمها الجمعيات الجغرافية: الأول الذي عقدته الجمعية الجغرافية اليمنية في صنعاء عام 1998م، والملتقى الثاني الذي نظمته الجمعية الجغرافية المصرية في مدينة القاهرة عام 2000، والملتقى الثالث الذي استضافته الجمعية الجغرافية السعودية، برعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز، ولي العهد، -حفظه الله- وبدعم من مؤسسة سلطان بن عبدالعزيز الخيرية عام 2003م، والملتقى الرابع الذي عقد بالرباط عام 2006، والملتقى الخامس للجغرافيين العرب الذي تنظمه جامعة الكويت بالتعاون مع الجمعية الجغرافية الكويتية هذا العام. أما الجمعية الجغرافية بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية فلقد نظمت ملتقاها العلمي عن السكان في دول مجلس التعاون بدعم ورعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز، وفي رحاب دارة الملك عبدالعزيز بالرياض عام 2004، ونظمت لقاءها العلمي الثاني في رحاب جامعة الكويت عام 2007، ولقاءها العلمي الثالث عن نظم المعلومات الجغرافية الذي تنظمه الجمعية بدعم من جامعة قطر في العام القادم، والملتقى العلمي الرابع للجمعية سوف تستضيفه جامعة البحرين إن شاء الله في عام 2010م. مثل هذه الملتقيات العلمية التي يشارك فيها الجغرافيون بأبحاثهم ودراساتهم وأطروحاتهم لابد في نهاية المطاف أن تأتي ثمارها في شكل توجهات ورؤى عامة عن الجغرافيا وجوانبها التطبيقية في مجالات متعددة. (*) أستاذ الجغرافيا، كلية الآداب، جامعة الملك سعود، رئيس مجلس إدارة الجمعية الجغرافية بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية