من منهج أهل السنة والجماعة ألا ينسبوا أهل الإسلام للكفر، ولا يحكموا عليهم به، ولا يكفروهم بذنب ما لم يستحلوه بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة من قبل قاض مسلم أهلاً لإصدار الحكم الشرعي، مع التثبت وعدم التسرع في التكفير. ..... ..... قال أبو حامد الغزالي - رحمه الله - (157): (والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه: الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة، المصرحين بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم المسلم). وقد تقدم معنا أنه ليس لأحد أن يحكم على معين بالكفر إلا بضوابطه الشرعية وذلك بالنظر في تحقيق شروط التكفير وانتفاء موانعه في حق المعين. وهذه الشروط والموانع هي التي اشتهر في كلام العلماء تسميتها ب(شروط تكفير المعين وموانعه). وهذه الشروط هي (1): 1- أن يكون المعين بالغاً عاقلاً: فعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يفيق). وبناءً على هذا عد العلماء البلوغ والعقل شرطاً للحكم على شخص معين بالكفر، ولم يعتبروا بردة صبي ولا مجنون. قال ابن المنذر - رحمه الله - (122): (أجمعوا على أن المجنون إذا ارتد في حال جنونه أنه مسلم على ما كان قبل ذلك). وقال ابن قدامة - رحمه الله - (12-266): (إن الردة لا تصح إلا من عاقل فأما من لا عقل له كالطفل الذي لا عقل له والمجنون، ومن زال عقله بإغماء أو نوم أو مرض، أو شرب دواء يباح شربه، فلا تصح ردته ولا حكم بكلامه بغير خلاف). وقال النووي - رحمه الله - (1728): (فلا تصح ردة صبي ولا مجنون ومن ارتد ثم جن فلا يقتل في جنونه). 2- أن يقع منه الكفر على وجه الاختيار: وهو أن يقع القول أو الفعل المكفر من المعين على وجه القصد والاختيار. قال ابن القيم - رحمه الله - (3-105- 106): (فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتب الحكم. هذه قاعدة الشريعة، وهي من مقتضيات عدل الله وحكمته ورحمته، فإن خواطر القلوب وإرادة النفوس لا تدخل تحت الاختيار فلو ترتبت عليها الأحكام لكان في ذلك أعظم حرج ومشقة على الأمة، ورحمة الله وحكمته تأبي ذلك، والغلط والنسيان والسهو وسبق اللسان بما لا يريده العبد بل يريد خلافه والتكلم به مكرهاً وغير عارف لمقتضاه، من لوازم البشرية لا يكاد ينفك من شيء منه، فلو رتب عليه الحكم لحرجت الأمة وأصابها غاية التعب والمشقة، فرفع عنها المؤاخذه بذلك كله حتى الخطأ في اللفظ من شدة الفرح والغضب، والسكر كما تقدمت شواهده، وكذلك الخطأ والنسيان والإكراه والجهل بالمعنى، وسبق اللسان بما لم يرده، والتكلم في الإغلاق ولغو اليمين، فهذه عشرة أشياء لا يؤاخذ الله بها عباده بالتكلم في حال منها لعدم قصده وعقد قلبه الذي يؤاخذ به). 3- أن تبلغه الحجة التي يكفر بخلافها: فقد دلت الأدلة على اعتبار قيام الحجة شرطاً في الحكم على معين بالكفر أو غيره. قال ابن حزم - رحمه الله - (12-135): (ولا خلاف أن امرءاًً لو أسلم، ولم يعلم شرائع الإسلام فاعتقد أن الخمر حلال، وأن ليس على الإنسان صلاة، وهو لم يبلغه حكم الله تعالى لم يكن كافراً بلا خلاف يعتد به، حتى إذا قامت عليه الحجة فتمادى حينئٍذ بإجماع الأمة فهو كافر). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (12-523- 524): (من كان مؤمناً بالله ورسوله مطلقاً، ولم يبلغه من العلم ما يبين له الصواب، فإنه لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي من خالفها كفر، إذ كثير من الناس يخطئ فيما يتأوله من القرآن، ويجهل كثيراً مما يرد من معاني الكتاب والسنة، والخطأ والنسيان مرفوعان عن هذه الأمة، والكفر لا يكون إلا بعد البيان). وقال ابن القيم - رحمه الله - (413): (إن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، وقال تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}. وهذا كثير في القرآن، يخبر أنه إنما يعذب من جاءه الرسول، وقامت عليه الحجة، وهو المذنب الذي يعترف بذنبه. وقال: (إن العذاب يستحق بسببين: أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها، وبموجبها الثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها. فالأول: كفر إعراض. والثاني: كفر عناد. وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه، حتى تقوم حجة الرسل). وقال الشاطبي - رحمه الله - (3-377): (فجرت عادته في خلقه أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل، فإذا قامت عليهم الحجة عليهم: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، ولكل جزاء مثله). 4- ألا يكون متأولاً: وقد دلت النصوص على العذر بالتأويل وهي على قسمين: القسم الأول: عموم النصوص الدالة على العذر بالخطأ إذ التأويل نوع من الخطأ في الاجتهاد، ومن ذلك قول الله - تعالى - مخبراً عن المؤمنين: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وضع عن أمتي: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (4-458): (والمتأول المخطئ مغفور له بالكتاب والسنة، قال الله تعالى في دعاء المؤمنين {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، وثبت في الصحيح أن الله - عز وجل - قال: (قد فعلت)، وفي سنن ابن ماجه وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان). القسم الثاني: ما جاء في السنة من الأدلة الدالة على عذر النبي صلى الله عليه وسلم لبعض المخطئين المتأولين، وعدم تأثيمهم أو مؤاخذتهم بأخطائهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (6-89): (ولهذا لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم من أكل من أصحابه حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، لأنهم أخطأوا في التأويل. ولم يعاقب أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال: (لا إله إلا الله) لأنه ظن جواز قتله، لما اعتقد أنه قالها تعوذاً. وكذلك السرية التي قتلت الرجل الذي قال: إنه مسلم، وأخذت ماله لم يعاقبها فيها، لأنها كانت متأولة. وكذلك خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لما قتل ابن جذيمة لما قالوا: (صبئنا)، لم يعاقبه لتأوله. وكذلك الصديق لم يعاقب خالداً على قتل مالك بن نويرة، لأنه كان متأولاً. وكذلك الصحابة لما قال هذا لهذا: أنت منافق، لم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان متأولاً. وقد ذكر الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - كلاماً نفيساً في موانع تكفير المعين بناءً على مدلولات النصوص الشرعية، وما قرره العلماء المحققون لمذهب أهل السنة والجماعة، منها: أن يكره على المكفر، لقوله - تعالى -: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. ومن الموانع: أن يغلق عليه فكره وقصده بحيث لا يدري ما يقول لشدة فرح، أو حزن، أو غضب، أو خوف، ونحو ذلك. لقوله - تعالى -: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}. وفي صحيح مسلم (2104) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ بها قائمة عنده، فأخذها بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح). ومن الموانع - أيضاً - أن يكون له شبهة تأويل في المكفر بحيث يظن أنه على حق، لأن هذا لم يتعمد الإثم والمخالفة فيكون داخلاً في قوله - تعالى -: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}. ولأن هذا غاية جهده فيكون داخلاً في قوله - تعالى -: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}. قال في المغني (8-131): (وإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك - يعني يكون كافراً - وإن كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين، وأموالهم، وفعلهم ذلك متقربين به إلى الله - تعالى - إلى أن قال: (وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال دمائهم، وأموالهم، واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم، ومع ذلك لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم، وكذلك يخرج في كل محرم استحل لتأويل مثل هذا). وفي فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مجموع ابن القاسم (13-30): (وبدعة الخوارج إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب). وفي ص (210) منه: (فإن الخوارج خالفوا السنة التي أمر القرآن باتباعها وكفروا المؤمنين الذين أمر القرآن بموالاتهم. وصاروا يتبعون المتشابه من القرآن فيتأولونه على غير تأويله من غير معرفة منهم بمعناه ولا رسوخ في العلم، ولا اتباع للسنة، ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن). وقال أيضاً (28-518) من المجموع المذكور: (فإن الأئمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم، وإنما تنازعوا في تكفيرهم على قولين مشهورين). لكنه ذكر في (7- 217): (لم يكن في الصحابة من يكفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع). وفي (28-518): (أن هذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره). وفي (3-282) قال: (والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا لأنهم كفار. ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم، وإذا كان هؤلاء الذين ضلالهم بالنص، والإجماع، لم يكفروا مع أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم، فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن يكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه). إلى أن قال: (وإذا كان المسلم متأولاً في القتال، أو التكفير لم يكفر بذلك). إلى أن قال في ص (288): (وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله - تعالى -: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}. وقوله: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما أحد أحب اليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين). والحاصل أن الجاهل معذور بما يقوله أو يفعله مما يكون كفراً، كما يكون معذوراً بما يقوله أو يفعله مما يكون فسقاً، وذلك بالأدلة من الكتاب والسنة، والاعتبار، وأقوال أهل العلم). وبعد: فهذه جملة من القول في قضية التكفير، وبعض الوقفات التي استخلصتها واختصرتها فيما يتعلق بموضوع هو من أخطر الأحكام وأعظمها، وليس بالأمر الهين. وقد نبهنا على الطريقة في ذلك، حيث احتاط الشارع الحكيم في إطلاق التكفير على المعين احتياطاً شديداً. فلا يكفر إلا بعد استيفاء شروط التكفير وانتفاء موانعه. هذا الذي دلت عليه النصوص الشرعية، والمقرر من مذهب أهل السنة والجماعة. فالحذر الحذر من التساهل في هذا الباب الخطير، الذي توقف فيه الفحول من العلماء فسلموا، وأقدم عليه كثير من الناس فسقطوا. فإلى من يمارسون التكفير دون اعتبار لتوافر شروطه وانتفاء موانعه أذكرهم بتقوى الله، وألا يخوضوا في قضايا التكفير قبل أن يقفوا على أصوله، فقضايا التكفير من أعظم مسائل الدين وأكثرها دقة، لا يتمكن فيها إلا العلماء الراسخون القادرون على استنباط الحكم الشرعي وكيفية تنزيله على المعينين. (1) التكفير وضوابطه: د. إبراهيم بن عامر الرحيلي.