لا ينبغي لمؤمن أن يخوض في مسائل التكفير من قبل أن يقف على أصوله، ويتحقق من شروطه وضوابطه، وإلا أورد نفسه المهالك والآثام، وباء بغضب الرحمن، ذلك أن مسائل التكفير من أعظم مسائل الدين وأكثرها دقة، لا يتمكن منها إلا الأكابر من أهل العلم الواسع والفهم الثاقب. 1- التكفير حكم شرعي وحق لله - عز وجل -. التكفير حكم شرعي، وحق محض للرب سبحانه، لا تملكه هيئة من الهيئات أو جماعة من الجماعات، ولا اعتبار فيه لعقل أو ذوق، ولا دخل فيه لحماسة طاغية أو عداوة ظاهرة، ولا يحمل عليه ظلم ظالم تمادى في ظلمه وغيه، وإنما لا يكفر إلا من كفره الله ورسوله. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:"وهذا بخلاف ما كان يقوله بعض الناس كأبي إسحاق الإسفراييني ومن اتبعه، يقولون: لا نكفر إلا من كفرنا، فإن الكفر ليس حقاً لهم، بل هو حق الله، وليس للإنسان أن يكذب على من يكذب عليه، ولا يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة من أهله، بل ولو استكرهه رجل على اللواطة لم يكن أن يستكرهه على ذلك...، لأن هذا حرام لحق الله تعالى، ولو سب النصارى نبياً، لم يكن لنا أن نسب المسيح، والرافضة إذا كفّروا أبا بكر وعمرَ، فليس لنا أن نكفر علياً...". وقال في مكان آخر:"فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، إذ الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، ولا تزني بأهله، لأن الكذب والزنى حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق لله، فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله". 2- الأصل في المسلم العدالة: ومن ضوابط التكفير أن الأصل في المسلم الظاهر العدالة بقاء إسلامه وبقاء عدالته حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضي الدليل الشرعي، ولا يجوز التساهل في تكفيره أو تفسيقه، لأن في ذلك محذورين عظيمين: أحدهما: افتراء الكذب على الله تعالى في الحكم والمحكوم عليه في الوصف الذي نبزه به. الثاني: الوقوع فيما نبز به أخاه إن كان سالماً منه، ففي صحيح مسلم: عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما". وعلى هذا فيجب قبل الحكم على المسلم بكفر أو فسق أن ينظر في أمرين: أحدهما: دلالة الكتاب أو السنة على أن هذا القول أو الفعل موجب للكفر أو الفسق. الثاني: انطباق هذا الحكم على القائل المعين أو الفاعل موجب للكفر أو الفسق. الثاني: انطباق هذا الحكم على القائل المعين أو الفاعل المعين بحيث تتم شروطه التفكير أو التفسيق في حقه. وتنتفي موانعه. إن أصل الحكم بالظاهر كما يقول الشاطبي - رحمه الله - مقطوع به في الأحكام خصوصاً، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموماً، فإن سيد البشر صلى الله عليه وسلم مع إعلامه بالوحي يُجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، فإن المنافقين الذين قالوا: آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين البقرة : 8 هم في الظاهر مؤمنون يصلون مع لناس، ويصومون ويحجون ويغزون والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم كما كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين بحكم الكفار المظهرين للكفر، لا في مناكحتهم، ولا موارثتهم، ولا نحو ذلك بل لما مات عبدالله بن أبي سلول - وهو من أشهر الناس بالنفاق- ورثه ابنه عبدالله وهو من خيار المؤمنين فكان حكمه صلى الله عليه وسلم في دمائهم وأموالهم كحكمة في دماء غيرهم، لا يستحل شيئاً منها إلا بأمر ظاهر مع أنه كان يعلم نفاق كثير منهم. ومما يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: يا أيها الذين أمنوا إذا ضربتهم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً تبتغون عوض الحيوة الدنيا النساء: 94 والمراد - كما يقول الشوكاني في تفسيره - نهي المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكفار مما يستدل به على إسلامه، ويقولوا: إنما جاء بذلك تعوذاً وتقيةً. وحديث أسامة:"بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلاً، فقال: لا إله فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم:"أقال: لا إله إلا الله وقتلته"؟!. قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفاً من السلاح. قال صلى الله عليه وسلم:"أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا"؟! فما زال يكررها عليّ حتى تمنيت أن أسلمت يومئذ". قال النووي - رحمه الله -:"معناه أنك إنما كلفت بالعمل بالظاهر، وما ينطق به اللسان، وأما القلب فليس لك طريق إلى معرفة ما فيه، فأنكر عليه امتناعه من العمل بما ظهر باللسان... وفيه دليل على القاعدة المعروفة في الفقه والأصول: أن الأحكام فيها بالظاهر، والله يتولى السرائر". 3- لا يكفر إلا من اتفق أهل السنة على تكفيره: ومن ضوابط التكفير: أنه لا يكفر إلا من اتفق أهل السنة على تكفيره، أو قام على تكفيره دليل لا معارض له. قال حافظ المغرب أبو عمر بن عبدالبر - رحمه الله تعالى-:"كل من ثبت له عقد الإسلام في وقت بإجماع من المسلمين، ثم أذنب ذنباً، أو تأول تأويلاً فاختلفوا بعد في خروجه من الإسلام، لم يكن لاختلافهم بعد إجماعهم معني وجب حجة، ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر أو سنة ثابتة لا يعارض عليها. وقد اتفق أهل السنة والجماعة - وهم أهل الفقه والأثر- على أن أحداً لا يخرجه ذنبه - وإن عظم - من الإسلام- وخالفهم أهل البدع. فالواجب في النظر ألا يكفر إلا من اتفق الجميع على تكفيره، أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة". وقال ابن بطال:"وإذا وقع الشك في ذلك - يعني: في كفر الخوارج - لم يقطع عليهم بالخروج من الإسلام، لأن من ثبت له عقد الإسلام يقين، لم يخرج منه إلا بيقين". وسبق قول شيخ الإسلام:"ومن ثبت إسلامه بيقين، لم يزل ذلك عنه بالشك". وقول الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله -:"ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم". 4- الكفر أصل وشعب: أ- من ضوابط التكفير أن الكفر ذو أصل وشعب. يقول ابن قيم الجوزية - رحمه الله-:"ولما كان الإيمان أصلاً له شعب متعددة، وكل شعبة منها تسمي إيماناً، فالصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة، والحج والصيام والأعمال الباطنة: كالحياء، والتوكل والخشية من الله والإنابة إليه، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق، فإنه شعبة من شعب الإيمان. وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها ترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً، منها ما يلحق بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى، ويكن إليها أقرب. وكذلك الكفر ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والحياء شعبة من الإيمان، وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر، والصدق شعبة من شعب الإيمان، والكذب شعبة من شعب الكفر، والصلاة والزكاة والصيام من شعب الإيمان، وتركها من شعب الكفر، والحكم بما أنزل الله من شعب الإيمان، والحم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان. وشعب الإيمان قسمان: قولية وفعلية. وكذلك شعب الكفر نوعان: قولية وفعلية. ومن شعب الإيمان القولية شعبة يوجب زوالها زوال الإيمان، فكذلك من شعبة الفعلية ما يوجب زوالها زوال الإيمان. وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية، فيكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختياراً، وهي شعبة من شعب الكفر، فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبة كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف". ب- ويذكر ابن القيم أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر بالعبد أن يسمي كافراً، وأن كان ما قام به كفراً، ولا من قيام شعبة من شعب الإيمان به أن يسمى مؤمناً، وإن كان ما قام به إيماناً. كما انه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به أن يسمى عالماً، ولا من معرفة بعض مسائل الفقه والطب أن يسمى فقهياً ولا طبيباً. ولا يمتنع ذلك أن تسمى شعبة الإيمان إيماناًً، وشعبة النفاق نفاقاً، وشعبة الكفر كفراً، وقد يطلب عليه الفعل كقوله:"فمن تركها فقد كفر". و "من حلف بغير الله فقد كفر". فمن صدر منه خلة من خلال الكفر فلا يستحق اسم كافر على الإطلاق، وكذا يقال من ارتكب محرماً: إنه فعل فسوقاً، وإنه فسق بذلك المحرم، ولا يلزمه اسم فاسق إلا بغلبة ذلك عليه، وهكذا الزاني والسارق والشارب والمنتهب لا يسمى مؤمناً، وإن كان معه إيمان، كما أنه لا يسمى كافراً، وإن كان ما أتى به من خصال الكفر وشعبه، إذ المعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان. ج- ويذكر ابن القيم أنه قد يجتمع في الرجل كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان. وهذا من أعظم أصول السنة، وخالفهم فيه غيرهم من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والقدرية، ومسألة خروج أهل الكبائر من النار وتخليدهم مبنية على هذا الأصل، وقد دل عليه القرآن والسنة والفطرة وإجماع الصحابة. قال تعالى: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون يوسف: 106 فأثبت لهم إيماناً به سبحانه مع الشرك. وقال تعالى: قالت الأعراب ءامنا قل لن تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وان تطيعوا الله ورسوله، ولا يلتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم. الحجرات: 14 فأثبت لهم إسلاماً وطاعة لله ورسوله مع نفي الإيمان عنهم، وهو الإيمان المطلق الذي ستحق اسمه بمطلقة: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله الحجرات: 15.وهؤلاء ليسوا منافقين في أصح القولين، بل هم مسلمون بما معهم من طاعة الله ورسوله، وليسوا مؤمنين، وإن كان معهم جزء من الإيمان أخرجهم من الكفر. وإذا حكم بغير ما أنزل الله، أو فعل ما سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفراً، وهو ملتزم للإسلام وشرائعه، فقد قام به كفر وإسلام، وقد بينا ان المعاصي كلها شعب من شعب الكفر، كما ان الطاعات كلها شعب من شعب الإيمان، فالعبد تقوم به شعبة أو أكثر من شعب الإيمان، وقد يمسى بتلك الشعبة مؤمناً، وقد لا يسمى كما انه قد يسمى بشعب الكفر كافراً، وقد لا يطلق عليه هذا الاسم. وأصل ضلال المعتزلة والخوارج وغيرهم أنهم نازعوا في هذا الأصل، وجعلوا الإيمان شيئاً واحداً، إذ زل بعضه زال جمعيه، فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان، ولم يقولوا بذهاب بعضه وبقاء بعضه، كما قال النبي صلي الله عليه وسلم:"يخرج من النار من كان في قلبه حبة من الإيمان". فلا يزول الإيمان بزوال بعض الأعمال". 6- وجوب إقامة الحجة: أ- ومن ضوابط التكفير: أن المسلم لا يكفر بقول أو فعل أو اعتقاد إلا بعد ان تقام عليه الحجة، وتزال عنه الشبهة. قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً الإسراء:15 وقال سبحانه: وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم التوبة: 115.وقال - تبارك وتعالى -: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنون نوله وما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً النساء: 115. إلى غير ذلك من الآيات التي تدل دلالة واضحة لا لبس فيها ولا غموض أن الله لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة وإزالة الشبهة، فيستبين الهدى من الضلالة، وسبيل الرشد من سبيل الغواية. قال الإمام البخاري:"باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، وقوله الله تعالى: وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون. التوبة:115. قال العيني - رحمه الله -:"أشار البخاري بهذه الآية الكريمة إلى أن قتال الخوارج والملحدين لا يجب إلا بعد إقامة الحجة عليهم، وإظهار بطلان دلائلهم، والدليل عليه هذه الآية، لأنها تدل على أن الله لا يؤاخذ عباده حتى يبين لهم ما يأتون وما يذرون". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:"والتكفير من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلي الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بحجة حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً. وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: إذا متُّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ذم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين. ففعلوا به ذلك، فقال الله له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك. فغفر له. فهذا رجل قد شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذري بل اعتقد أنه لا يعاد!! وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك، والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلي الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من ذلك". وقال رحمه الله:"فليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين، وإن اخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل. * مقتطف من كتابه التكفير في ضوء الكتاب والسنة.