في معنى قاعدة علمية ثبت مصداقيتها منذ العصور القديمة وإلى العصر الحديث يؤكد للمجتمعات البشرية (أن كل من حاول أو يحاول تحجيم فكر الإنسان عن الحراك أصيب بداء الإحجام عن الحركة خصوصاً القدرة على التحرك إلى الأمام أو بالطبع إلى الأفضل). هذا ما يعتقده البعض من مسببات تقدم بعض الشعوب الإنسانية وتخلف نسبة كبيرة منها. الحقيقة قد تكون مع هذه المقولة أو الاعتقاد وقد لا تكون، رغماً عن ذلك فإن أي محاولة لتحجيم فكر الإنسان أياً كانت وتجاه أي من كان لا بد وأن تقود إلى إضاعة جوهر الثروة الإنسانية التي لا يمكن أن تقدر بثمن. الرابط بين ما سبق يكمن في معضلة صد فكر ما من الأفكار الإنسانية لمجرد الاختلاف في الرأي أو المرجعية أو حتى لاختلاف ملكة التذوق النوعي لهذا النوع أو لذاك، وتلكم قد تكون في طليعة أسباب الجفاف الفكري في عصر إلكتروني حديث يضج بالمعلومات والأفكار والمرجعيات. هنا قد يقول قائل إن تجمد الفكر أو محاولات تجميده، أو تجمد فكر عن ملاحظة وجود فكر آخر، قد يكون وقد لا يكون بالضرورة مختلفاً عنه، لا يمكن أن يحدث في عصر منفتح علمياً وثقافياً وحضارياً بين المجتمعات الإنسانية وفي واقع معلوماتي مفتوح ومتاح للجميع. هي بالطبع مقولة قد لا تعكس إلا رأي قائلها لكون حالة رائجة من حالات تكلس الفكر الإنساني باتت حقيقة إنسانية واقعية لا تتقيد بزمان أو مكان بل ولا يمكن أن تقتصر على مجتمع ما من المجتمعات الإنسانية. لننتقل إلى ملاحظة أخرى ترى بأن التصنيفات الإنسانية للإنسان كثرت وتباينت، كما وتعددت لغات الخطاب الثقافي بين المجتمعات الإنسانية، بل وفي المجتمع الإنساني الواحد في عصر تضخمت فيه أعداد من يملكون ومن لا يملكون من الفكر إلا العلم والشهادات العلمية، ومن المادة التي أغوت النفوس وإلى توابعها من المناصب والمقامات العالية. في هذا المعنى، ترى هل تباين المواقف والمسالك نتاج لتباين الأفكار؟ وهل اتساع الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون يعني اتساعاً للمواقف بين أعضاء المجتمع؟ نعم كم من أصنام للجهل بقيت ولازالت باقية ومواكبة لبعض المجتمعات الإنسانية طالما وجد فيها من يؤمن بالإصرار على الجهالة في متون دوجماتية فكرية أو موقع ما من مواقع الدرك الأسفل من الأيديولوجية المتحجرة التي أناطة مهمة التفكير لها للغير على الرغم من إدراكها بأنها الخطر الأكيد والجهالة الأكيدة بعينها على مستقبلها. هنا لا يمكن إلا وأن نشير في سياق التحليل إلى مخاطر التلفيق الإنساني أو الفبركة الإنسانية لواقع وهيم مصطنع بداية من التلفيق السياسي الذي كثر عدده وعدته وأصحابه وأعوانه بعد أن تفاقمت أعداد الطوابير الخامسة، ومروراً بالتلفيق الثقافي المختلق للخلط بين الحقائق بغرض طمسها، وأخيراً وليس بآخر إلى تلفيق الهويات الإنسانية والشهادات الدراسية ومراجع المهارات الإنسانية. بالطبع جميعها لا تقل خطورة عن جهالة التلفيق الأيديولوجي الذي تعاظم نفوذه وانتشرت مخاطره بسرعة عجيبة كما تنتشر النار في الهشيم على الرغم من وصول الإنسان العصري إلى مستوى متقدم من العلم والوعي في عصر القرن الواحد والعشرين. السبب أن اليوتوبيا الإنسانية لا تقل ولا تختلف في أي زمن من الأزمان خصوصاً اليوتوبيا السياسية التي بدورها لا تقل خطورة عن الفوبيا السياسية بعد أن غزت الأولى عقل الإنسان الباحث عن الوجود أو الشرعية في أي مكان في العالم، فيما غزت الثانية عقول نسبة كبيرة من شعوب دول العالم الثالث ليس وحسب بسبب انتشار الفساد والظلم والاضطهاد، وإنما لتنامي حدة الهوة بين من يملكون ومن لا يملكون، مرة أخرى من العلم إلى المادة. صحيح أن النزعة إلى التعميم داء ينتقص من قيمة كل من يمضي في مساره أو يعتلي صهوة عنانه، بيد أن مقلب الخلط بين الأمور واقع لا يمكن استبعاد أي إنسان من الوقوع فيه. الفشل اكسل في التمييز أو التقصي والتبين وسوسة الشيطان للقتل البريء من المتهم، والمظلوم مع الظالم. كما وأن المرء قد يجنح ربما إلى أي اتجاه أو يسلك أي مسلك إذا ما وقع في المحظور أو رضخ لأمر فرض عليه أو تعثر في شراك ظرف يصعب الخروج منه. هنا نقول بذات المنطق والقياس إن التناول الاستفزازي للقضايا المهمة أو الحساسة قد يحرك ما سكن وركد أو مضى وانتهى وقضى. هذا لا يعني اجتراح بديل للمشكلة، أو هكذا يفترض، إلا لدى رهط محدد من المتشددين الدوجماتيين أو الأيديولوجيين المتعثرين. فالجميع يدرك بأن التصدي للواقع أو للمشكلة كما هي كائنة لا كما يجب أن تكون عليه، حقيقة لا مفر منها وواقع لا يمكن التغاضي عنه أو القفز عليه. المشكلة لا تكمن مع أولئك المتعنصرين بل ولا تقل عن أولئك المتشددين؛ فالتناول الأيديولوجي أو التعاطي المتشدد لأي حدث أو حديث يسبك الاستنتاجات المشكوك فيها لكونها متسمة بالاجتزاء أو ذات الطبيعة السطحية أو الانفعالية وجميعها ثوابت ذات جموح منفرد أو شعور انفرادي يطمس ولربما يمحي الواقع وحقائقه عن متناول العيون خصوصاً عيون من يرقبه، بل ولربما يخفي خفايا ذلك الواقع عن كل من يتعاطى معه. مرة أخرى نعود لنكرر القول إن التلفيق الفكري لا يقل خطورة عن سرقة الأفكار أو اغتصاب النصوص وإعادة صياغتها أو مكيجتها لتلائم هذا الذوق أو لتتلاءم مع ذاك الواقع. تلكم من السلبيات التي لا يمكن إلا وأن تفرز سلبيات أكبر وأكثر وأشمل وأعم منها، مخاطرها قد تعم الجميع بل ويدفع ثمنها الجميع. هذا رأي لواقع قد يكون وقد لا يكون... وتلكم حقيقة كل مجتهد قد يصيب وقد يخيب.