كان سباق القوة في الماضي القريب محصورا بين الأسلحة أيها أشد فتكا، وبين الدول في سباقها للتسلح. وحاليا، أصبحت هنالك حرب معلومات؛ بل معلومات فتاكة، وسباق بين الدول، لامتلاك ناصية التأثير، بسلاح الإعلام والمعلومات. فقبل أن تعلن وكالات الاستخبارات الأمريكية تقريرها الأخير، حول البرنامج النووي الإيراني بعدة أشهر، كان التصعيد الإعلامي في منطقة الخليج العربي، يرتفع بوتيرة سريعة، وتأثير نفسي بالغ، حتى على المتلقي غير العادي. والعارفون بهذا الشأن، يدركون أن التصعيد الإعلامي، ليس إلا جزءا من حرب نفسية وإعلامية، تهدف إلى تحقيق نوع من النتائج والتأثير. وقد أصبحت الحملة الإعلامية، عنصرا مهما لا تنطلق مدافع الحرب لتمهيد ميادين معاركها، إلا بعد قصف معلوماتي وإعلامي مكثف؛ يهيئ البيئة السياسية والاجتماعية، لتتحدد خيارات الحرب على ضوء نتائجه. وتعرض هذه المقالة لمفهوم حرب المعلومات، وخطورتها على الأمن، حين لا تكون هنالك جاهزية لتخفيف مستوى التأثير في الرأي العام وكذلك في دوائر صناعة القرار. فالمعلومات المستمدة من مصادر متعددة، تعتبر المحتوى لهذه الحرب، والإعلام بوسائله المتعددة، يعتبر آليتها للوصول إلى الجماهير المستهدفة. ولهذا، فإن التكامل المحكم بين المعلومات الموجهة، عبر وسائل الإعلام والاتصال المؤثرة، يحولها إلى قوة فاعلة، ووسيلة من وسائل تحقيق الغايات السياسية المهمة. وهنالك منظومة كبيرة من المقومات التي تستند إليها حملات حرب المعلومات يشار إليها اليوم بمفهوم القوة الناعمة. وقد تطور هذا المفهوم خلال العقود القليلة الماضية، وأصبحت بعض الدول تخصص له ميزانيات سخية، وتبحث في أوجه تطويره، ومجالات استخدامه. فالتأثير على الرأي الرسمي، والرأي العام، والإقناع بأساليب عديدة، يتم من منطلق أن شن الحروب لم يعد متوقفا على القوة المادية المتمثلة في القوات المسلحة. فقد تبلورت قوى أخرى، تسبق الحرب وتصاحبها وتتبعها، لتحقق أثرا بالغا، قد لا يحققه ضجيج المدافع ودخان بارودها. وفيما يبدو انه من منطلق ذلك التأثير ينشط الكثير من الكتاب ومن يشتغلون بالتفكير السياسي. ومنهم من يتطوع دون علمه للركوب في قافلة حملة الإعلام الموجه، ويصبح احدى أدواتها، دون أن يدرك أبعاد حرب المعلومات التي وظف نفسه لصالحها. ونسبة كبيرة من الرأي العام يقعون ضحية لحملة القصف والتمهيد الإعلامي المشبع بالمعلومات الموجهة. وينتج عن نجاحات حرب المعلومات أن يخرج من أوساط الجماهير المستهدفة من يتم اجتذابهم وإغراؤهم والتأثير في توجهاتهم بما يتفق وأهداف حملة حرب المعلومات التي تشن في ظروف أزمة محلية أو إقليمية. ومن الأمثلة الكثيرة على تلك الاستجابة، أن نشر أحد كتاب الرأي في الصحف العربية مقالة أشار فيها بقوله:).. إن لحظة دفع الاستحقاقات المؤجلة قد اقتربت، وان لعبة الحياد لم تعد مجدية، ولا مفيدة.. عندما تتراجع لغة الدبلوماسية؛ وتبدأ لغة الصواريخ والبوارج الحربية). وبالطبع، لم تنطلق لغة الصواريخ والبوارج الحربية، في نفس الظروف التي نشر فيها هذا الرأي، مما يجعلنا نستعين به لغرض التدليل على فكرة هذه المقالة؛ وليس للاعتراض المطلق على مضمونه. ونسمع الكثير من مثل ذلك القول، مما قد يكون نتيجة طبيعية للتأثير الذي حققته الحملة الإعلامية الموجهة لجمهور معين. والحملات الإعلامية بما فيها من استخدام ذكي للمعلومات، قد يكون لها من التأثير ما يسير أقلاما وأفواها تتزامن إيقاعاتها على أنغام خطاب حملة حرب المعلومات. وذلك التزامن في الغالب ليس تناغما لرؤى وقناعات فكرية بقدر ما هي استجابة حتمية لأهداف حملة حرب المعلومات. وهذا يقودنا إلى تصريح أحد الضباط المشاركين في حملة إعلامية لصالح مجهود حربي حين قال:.. (بصراحة، مهمتنا هي أن نكسب الحرب. وجزء من كسب الحرب يتم عن طريق حرب المعلومات. ولذلك، فإننا سوف نعمل للسيطرة على فضاء وبيئة المعلومات). ولذلك، علينا أن نفكر جيدا ونحلل ما يصاحب الأزمات والحروب من تغطيات إعلامية، ونتفحص محتوياتها من المعلومات. وسوف نكتشف أن هنالك الكثير من تفاصيل ومراحل السيطرة على بيئة المعلومات؟ وعن تفاصيل بيئة المعلومات، تصدق مقولة (إن الشيطان يكمن في التفاصيل)؛ نظرا لاعتماد حرب المعلومات على كثير من المغالطات والمبالغات المستخدمة بطرق فائقة ومدروسة لتحدث التأثير المطلوب، بعد تمويهها وإلباسها لباس المصداقية. فقد أصبحت حرب المعلومات تستخدم وتدمج في أهم واخطر القرارات؛ بل إنها تشكل أحد أهم مقومات النصر أو الهزيمة. فالمعلومات اليوم، تعد عنصرا من عناصر القوة، لا يتم إغفالها أثناء التخطيط لشن الحروب، أو إدارة المعارك، بحجم ما أصبحت تحقق من آثار سريعة. وقد أحدثت ثورة المعلومات تغيرات كبيرة، ليس فقط في المجالات المدنية والسلمية، بل إن أخطرها ما يحدث في مجال السياسة الدولية وفي إدارة الأزمات وإدارة الحروب. وما زلنا، لم ننس بعد، أن الحرب الأمريكية الراهنة على العراق، قد شنت بقرار شهير، استند إلى قوة تأثير معلومات خاطئة، تم تسويقها في أهم مصانع القرارات الدولية. كما أن تقرير الاستخبارات الوطنية، الذي صدر مؤخرا، عن وكالات الاستخبارات الأمريكية، في شأن البرنامج النووي الإيراني، تتأثر مصداقيته بسلفه؛ ويصعب إخراجه من إطار حرب المعلومات. ومع أن الأول شنت بسببه حملة حرب لا تزال في أوجها، والأخير أسهم في تهدئة الأوضاع على المستوى الإعلامي نسبيا، فإن من المبكر حصر آثارهما على أمن الخليج واستقراره، على الرغم من الاستنزاف الراهن لكثير من القوى الإقليمية. ومؤخرا، نشرت دراسة أمريكية مستقلة أفادت أن الإدارة الأمريكية أطلقت ما لا يقل عن 935 تصريحا كاذبا بين عامي 2001م و2003م لتبرير الغزو على العراق. وجاء في تلك الدراسة ما يفيد بأن التصريحات كانت ضمن حملة منظمة شنت الحرب استنادا إليها. ونظرا لاعتماد نشر وإثارة التقريرين على المسرح العالمي، عبر منظومة متكاملة، من وسائل الإعلام والمعلومات الرسمية وغير الرسمية، فإن من الواضح أن الخطاب المصاحب لتلك التقارير يعكس قدرة وقوة الإعلام الموجه، في الساحة السياسية، وخصوصا في ظل الأزمات المهمة. ولم يعد الأمر في تغطية الأزمات المهمة مجرد نشر إعلامي، أو بلاغات رسمية، بقدر ما هو عنصر قوة معلوماتية تحشد لها كل القوى الأخرى، وتضخ فيها مضاعفات لفعاليتها، لتصبح الرسالة محققة لنتائج بالغة الأهمية. ولم يعد خافيا، أن تأثير المعلومات والتقارير والحملات النفسية يعتمد اعتمادا كبيرا على آليات متعددة تكسبها الفعالية والمصداقية. فما أن يتم نشر مثل هذين التقريرين، إلا وترتفع وتيرة مساهمات من أفراد ومؤسسات بحثية وإعلامية، تخرج علينا بالكثير من التغطيات والتحليلات والمنتديات، في كثير من الوسائل عبر سياسيين وعسكريين متقاعدين، وأكاديميين وصحافيين، وباستمرارية تلائم حجم الحدث، بما يحقق لها الأثر المطلوب. وليس من شك، أن منطقة الخليج العربي تشكل مركزا حيويا على المستوى العالمي؛ لكونها مصدرا استراتيجيا للطاقة التي تؤثر في الاقتصاد والاستقرار العالميين. إلا أن مكانة الخليج هذه، وتعدد أزماته، قد جعلت المهتمين بمتابعة الشؤون الاستراتيجية للخليج، يميزون بين مضامين حملات حرب المعلومات التي تنشط في الأزمات. واكثر من ذلك، قدرتهم على تحديد هوية أولئك الاستراتيجيين المنتفعين على هامش مغالطات الأزمات ودعاياتها. ويستطيع المتابع لشؤون القضايا الإقليمية، حين تتحول إلى أزمات، أن يفرق بين فصائل المحللين الاستراتيجيين، عبر وسائل الإعلام. كما يسهل رصد بعض معطيات حرب المعلومات، من السائرين في ركبها عن قصد، وأولئك المتأثرين بسببها؛ وأيضا أولئك القادرين على وزن وتمييز الأمور ووضعها في نصابها الصحيح. وإذا ما سلمنا، بأن إجراءات صناعة القرار، لشن الحرب الحديثة، لم تعد (تستخدم القوات المسلحة لإجبار العدو على الخضوع لإرادتنا) كما في التعاريف التقليدية، وإنما تستخدم كل الوسائل بما فيها القوة المسلحة، وغيرها من وسائل فتاكة وغير فتاكة، لإجبار العدو للقبول بمصالحنا، فإن ذلك يمثل تغيرا في فن الحرب وتغيرا في طريقة شنها بسبب ذلك. وبسبب سباق المعلومات، واستخدامها كعنصر حرب، فقد أصبحت قوة لا يستهان بها، ولا يقل أثرها عن القوة العسكرية. ولذلك، فإن بنية تحتية هائلة من القوى البشرية والوسائل والحوافز، تقرر مستوى تحقيق النتائج، وطبيعة التغيرات في مجال القوة المضاعفة. ومن هنا، فإن تخطيطا حكيما يعتمد على الدهاء، وعمق المعرفة الحضارية والحربية والتقنية المتقدمة، يعد الأساس الأول، لاستخدام المعلومات في أشكالها المتجددة، كأحد عناصر القوة. ولا توجد آلية سهلة، أو محددة اليوم، لإمعان النظر أو التدقيق والتحليل، لما تتضمنه وسائل ومضامين حرب المعلومات، لمعرفة مدى صدقيتها. ويتوقف ذلك على خبرة ومهارة المراقبين، وما يتوافر لهم من معلومات عن الأحداث مجال التغطيات. ومن المؤكد أن حرب المعلومات، بغض النظر عن عدالتها، أو أخلاقيات محتوياتها، تتم ضمن استراتيجيات وطنية، ولمصالح وطنية. وتعرف الاستراتيجية الوطنية بأنها: (فن وعلم تطوير واستخدام القوى الوطنية الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية والمعلوماتية للدولة أثناء السلم والحرب لتحقيق الأهداف الوطنية). وفي الحقيقة يركز معظم المخططين على القوة، بوصفها الوسيلة أو القدرة أو الأهلية، التي تكفل (القدرة للتأثير على سلوك فاعلين آخرين وفق أهدافنا). وعند التعامل مع مفهوم القوة الوطنية، كما يقول كلاوزفيتز عن الحرب (: كل شيء في الحرب بسيط جدا.. ولكن أسهل الأشياء صعب). وهنا أشير إلى أن القوة المستمدة من المعلومات، ليست إلا رمزا لمفهوم (القوة الناعمة). وقد كان جوزيف س. ناي، نائب وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، ابرز من وضعها في إطار محدد، وشرح مكوناتها في كتابه القيم بعنوان: (القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية). وتعتمد حرب المعلومات على موارد القوة الناعمة، التي لخصها جوزيف ناي في ثلاثة موارد هي: الثقافة، والقيم السياسية، والسياسات الخارجية. وعند لجوء حكومة معينة، للعمل السياسي أو الحربي، لمواجهة أزمة محددة، أو تحقيق أية أهداف، فإنه يتم العمل على تضافر القوى الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية والمعلوماتية، بحسب ما تقتضيه المواقف، لتعزز تلك القوى بعضها البعض. وحين تقرر إحدى الدول أن تشن الحرب لأي سبب عادل أو غير عادل، فهي تسبق الحرب بحملة دبلوماسية تشرح فيها مواقفها، وتشحذ الدعم من الأطراف ذات العلاقة. ويتزامن مع تلك الحملة الدبلوماسية، حملة إعلامية أخرى، قوامها الضخ المعلوماتي، لتهيئة الرأي العام المحلي والخارجي؛ وكل تلك الحملات الدبلوماسية والمعلوماتية والاقتصادية، توجه لتعزيز المواقف وتحقيق المكاسب المهمة، ومن أبرزها التأثير على صناعة القرار في معسكر الخصوم. وعطفا على ما تقدم، فإنني أتوقع أن بيننا الكثير ممن يشاطرني القناعة، بأهمية الوعي بخطورة القوة الناعمة، حين تسخر مكوناتها في حملات حرب المعلومات. وأن الأزمات التي تنشأ حولنا اليوم، لا تخلو من تسخير محكم لفعاليات حرب المعلومات، للتأثير على صناع القرار وعلى اتجاهات الرأي العام. وأن الحملات الإعلامية التي تنشط أثناء الأزمات، وما يصاحبها من مؤتمرات وتحليلات لخبراء ومتحدثين في الملتقيات والمحافل، يكون بينها الكثير من المجهودات المحددة والموجهة، التي تؤديها كوادر، تنفذ أجزاء من التزاماتها، لخدمة هذه الحملة أو تلك. ولهذا النوع والسبب من التكامل لقوى (دولة ما) حينما تكون طرفا في أزمة أو حرب، فإن علينا أن ندرك ونميز مضامين المعلومات التي ترسل إلينا، عبر آليات إعلامية، وأخرى أكاديمية؛ وكلها تصب في خانة الحملة النفسية والإعلامية، التي ترافق صوت المعركة؛ بل يمكن أن تحقق الغرض للسيطرة على إرادة الخصم دون حاجة إلى شن الحرب أحيانا. عضو مجلس الشورى