* ليس من المعروف على وجه التحديد كم هي الأفعال التي كانت تعد جريمة في بداية تشكل المجتمع الإنساني،ويبدو أنها كانت قليلة جدا، وربما تجلت الجريمة في الماضي السحيق في بعض مظاهر السلوك العنيف، بين شخصين مثلا، يهدف احدهما إلى القضاء على الآخر، وهو لاشك هدف وحشي، سببه اعتقاد أحدهما أن بقاءه يعتمد على فناء الآخر، واليوم يصعب حصر الأفعال المحظورة شرعاً وقانوناً وعرفاً، لكثرتهاوتعدد أنماطها، وتفاهة أهداف بعضها. من الواضح أن الإنسان في تاريخه القديم، كان متحفزاً وجاهزاً في كل وقت، لرد فعل قاتل تجاه مايحيط به من حيوانات متوشحة، بما فيها الإنسان نفسه، وكذلك الطيور الجارحة والمخلوقات الزاحفة وغيرها، فالطبيعة كانت مليئة بالأعداء ولاسبيل للنجاة إلا بالعنف المتبادل، لذلك فالقرار بالاعتداء كان مفاجئاً، والرد كان سريعاً، لأن الهدف واحد وهو البقاء على قيد الحياة، وكانت فاعلية الوسائل الدفاعية محصورة في القضاء على الخصم أو الإفلات منه والهرب للاختفاء في الأدغال والغابات, أما اليوم فإن الإنسان يخطط لأفعاله على مهل، وإذا كانت هذه الأفعال إجرامية فإنه قد ينفذها بوسائل لاتعتمد على العنف، كما أن الأهداف الإجرامية كثرت وتنوعت، وبالمقابل فإن وسائل الدفاع تعددت، وأصبح هناك مؤسسات تشارك الإنسان وتسانده في الدفاع عن حقوقه، وتتولى ذلك نيابة عنه أحيانا, يضاف إلى كثرة الأهداف الإجرامية وتنوعها، أن أسباب السلوك الإجرامي أصبحت مركبة ومعقدة تبعا لماشهدته ثقافة الإنسان من تمايز وتطور، فالإنسان لم يعد يرضى بالاساسيات فحسب، بل اتجه في سعي حثيث إلى حيازة الكماليات ومختلف مكونات المظاهر والشكليات، الأمر الذي رفع من درجة التطلعات وزيادة الهوة بينها وبين إمكانات غالبية الأشخاص في أي مجتمع. وإذا كان للإنسان أن يعيد تصور مشهد رآه في الماضي، فإن له أن يتخيل مايعتقد أنه حدث ولم يشاهده، أو سيحدث مستقبلا, فمن المتخيل أنه لم يكن لدى الإنسان في بداية حياته على هذه الأرض سوى نمط ثقافي محدد، يشترك فيه مع كثير من المخلوقات الحية الأخرى، ولعل هذا النمط كان محصورا في غرائزه ككائن حي، أما الحاجات المكتسبة فيبدو أنها ظهرت نتيجة لما ميز الله به الإنسان على سائر المخلوقات من عقل، فاستطاع أن يفكر ويجري المحاكمات العقلية ويطور من أساليبه في التعامل مع الطبيعة ببيئاتها المختلفة، وربما أن الخط الثقافي الذي أدى إلى تمايز الشعوب بدأ من هذه النقطة على وجه التحديد,, فالحضارة أشبه بمذنَّب في سيره بلا توقف، وربما في شكله أيضا، كل أمة قد أخذت موقعا لها على هذا المذنَّب، ومن المفترض أن هذا الموقع غير ثابت، وينبغي على الأمم التي أبطأت في تحركها وظلت تدور حول مفاهيمها ومكوناتها الثقافية القديمة قابعة على ذيل ذلك المذنب، ينبغي عليها أن تضاعف من جهودها، وأن يظل سعيها حثيثا لأخذ موقع لها على مقدمته، حتى يتحول من شكله الانسيابي المذنَّب، إلى شكل دائري تتناغم فيه الأفكار وتتجاور الثقافات في سلام ، طالما أنه ليس من الممكن، في المستقبل القريب، ان تسود الجنس البشري ثقافة واحدة، على الرغم من أن الأدلة السماوية والعلمية تقطع بأن البشر ينحدرون من صلب واحد، وما جعلهم الله شعوبا وقبائل إلا لتكون هناك حركة دائمة من التعارف والتآلف والاستفادة من خبرات بعضهم البعض. ومن المفترض ، جدا، أن هذا المذنَّب الافتراضي كان ذا شكل دائري في بداية حياة الإنسان، ومن المفترض، أيضا، أن التمدد الذي جعله على شكله الحالي حدث بسبب التطور الثقافي والعلمي، وبخاصة في مجال الفكر والمعرفة، ذلك التطور الذي أصبح قاب قوسين أوأدنى من التدخل في التركيب البيولوجي والفسيولوجي للإنسان. انظر الشكل التوضيحي لذلك فإن من المسلم به أن التغير سمة لازمت الإنسانية منذ وجودها، بل لقد اصبح البعض يَعُد أن التغير ضرورة لبقاء الجنس البشري، وقد ترسخ هذا الاعتقاد بعد أن أثبتت الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة خطأ الاعتقاد بأن ثقافات المجتمعات البدائية كانت ساكنة، فقد كشفت تلك الدراسات عن حدوث تغيرات ثقافية في تلك المجتمعات، ولكن بطئها الشديد أوحى للباحثين بأنها ثقافة ساكنة. وهناك خطأ آخر تشترك فيه جميع الدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية، التي قرأتها، وهو الاعتقاد أن تغير المجتمعات كان يتجه دوما إلى الأفضل، فمع أن المجتمعات الإنسانية قد تغيرت إلى الأفضل، فعلا، إلا أنه يبدو أن بعض الكوارث التي شهدتها الإنسانية قد جعلت هذا التغير أمرا نسبيا وغير مطرد، فالحقائق العلمية والتاريخية تزخر بأمثلة صارخة على ان هناك مجتمعات تغيرت إلى الأفضل، بشكل ما، ثم تغيرت إلى الأسوأ، أو أصيبت بالركود، في الجانبين المادي والفكري أو في أحدهما دون الآ ر, وعلى هذا الاساس ينبغي النظر إلى التغير الاجتماعي على أنه إطار تحدث بداخله ثلاث عمليات هي: التطور، والركود، والتقهقر أو الانتكاسة, ويمكن للمراقب بالتعايش (الزماني) أو المراقب بالتتبع أن يستنتج حقيقة أخرى ، مهمة جدا، وهي أن التطور أبطأ من الانتكاسة لأن التطور تعترضه وسائل كبح تلقائية وأخرى متعمدة، أما الانتكاسة فتتميز بانفلات السيطرة، والفجائية أحيانا إذا ما قيس الزمان اللازم لحدوثها بالزمان اللازم لحدوث التطور, ويستنتج، كذلك، أن الركود هو إحدى وسائل كبح التطور في سياسات كل النظم خلال العصور الوسطى وبعض النظم خلال العصور الحديثة، تلك النظم التي رأى أصحابها أن تقتير التطور على مجتمعاتهم والإبقاء على الأمر الواقع، أطول مدة ممكنة، يخدم مصالحهم وبخاصة في الجانب الفكري، فأصابوا الفكر الإنساني باضرار مازال يعاني من بعض نتائجها حتى اليوم,ومادام لم يعد هناك خلاف على مسألة مسايرة التغير لحياة الإنسان منذ القدم، فإن الخلاف لايزال قائما حول ما إذا كانت عوامل تغير نظم المجتمعات، من نموذج إلى آخر، داخلية أم خارجية، وهل الأسباب نفسية أو سياسية أو اقتصادية أو دينية أو ثقافية أو تكنولوجية، أو كل ذلك معا. هناك من العلماء من يفترض أن التطور الحاصل في جانب واحد من تنظيم المجتمع ينعكس في كل الجوانب الأخرى،ومنهم العالم (كونت) ومع صحة هذا الافتراض إلا أن هذا الانعكاس يظل أمرا نسبيا ويزداد بطئه إذا كان التطور في الجانب المادي أكبر منه في الجانب الفكري،ولو أخذنا مفهوم السلوك الإجرامي وأهداف العقاب، كمثال، لوجدنا أن هناك مجتمعات حازت على كثير من مؤشرات التقدم المادي ولم ينعكس ذلك، بالقدر الكافي، علىمفاهيمها ونظمها العقابية. ولقد اتجه الباحثون والعلماء في دراساتهم وتحليلاتهم للنظم الاجتماعية إلى اعتبار التطور الحاصل في مجال المؤسسات العقابية (السجون والإصلاحيات) انعكاس لما حصل من تطور في مجال العقاب من حيث فلسفته وأهدافه ونظرياته، ولاشك أن هذا الربط منطقي، إذ انه عندما كانت أهداف ردود الفعل تجاه الجناة ترتكز على إيذائهم والتنكيل بهم، لم تكن السجون تعير أي اهتمام للاعتبارات الإنسانية والاجتماعية، فهدف العقاب أو وظيفته حينئذ هي الانتقام البدني من الجاني, وإذ لم أجد مايحول دون التسليم بصحة هذا الربط بين تطور العقاب وتطور المعاملة في المؤسسات العقابية فإن سؤالا مهما ظل يسيطر على تفكيري مدة طويلة حول ما إذا كان تطور العقاب نفسه مرتبطا بتطور طرأ على مجال آخر، وهوما ستتضح الإجابة عليه لاحقا. من الواضح أن مفهوم السلوك الإجرامي وأهداف العقاب مكونات ثقافية قديمة قدم الجريمة ولكنها لم تكن مهمة لدى المجتمعات القديمة كي يتضمنها أدبهم وإنتاجهم الفكري بالقدر الكافي لنقلها بشكل دقيق وواضح إلى الأجيال والعصور التالية، ويمكن لعدم الأهمية والوضوح هذا أن يدفع البعض إلى الاعتقاد بعدم وجود أي مفهوم للسلوك الإجرامي أو أي هدف عقابي لدى تلك المجتمعات، في حين أنه يمكن، ولكن بصعوبة، أن يتم الحصول على معنى حقيقي لذلك المفهوم وتلك الأهداف من خلال تحليل الفكر الذي كان سائدا آنذاك استنادا إلى العوامل والأسباب التي كانت المجتمعات القديمة تؤمن بأنها مسؤولة عن حدوث الجريمة، والأساليب العقابية التي كانت تتبعها إزاء الجناة, لقد تميز مفهوم السلوك الإجرامي وكذلك أهداف العقاب بدرجة عالية من الجمود فاستطاع أسوأ مافيها أن ينتقل إلى كل المجتمعات ويتغلغل في فكرها طيلة العصور القديمة والوسطى، وبعض فترات من العصور الحديثة، وبصورة نسبية بين المجتمعات المعاصرة,,وبسبب هذا الاستمرار والتواجد في كل العصور فإن الفصل بين الأزمنة الثلاثة لايعدو أن يكون فصلا زمنيا افتراضيا أو عشوائيا، فليس هناك تحولات أو تطورات ثقافيا مطردة أو مفاجئة انتظمت الجنس البشري بفائدتها أو ضررها حتى يمكن التعويل عليها للفصل بين الأزمنة الثلاثة فصلا ثقافيا تاما تعرف به نهاية كل زمن وبداية الزمن الذي يليه على وجه الدقة لدى كل الشعوب، اللهم إلا بداية العصور القديمة إذا اعتبرنا أن اختراع الكتابة في عام 3000ق,م هو الحدث الوحيد الذي أثر على البشرية جمعاء وهو كذلك بالفعل أما نهاية العصور القديمة وبداية ونهاية العصور الوسطى فقد اعتمد الغربيون لتحديدها على أحداث تخص مجتمعاتهم لوحدها مثل حادثة سقوط روما بيد البرابرة سنة 476 للميلاد، فقد جعلوا يوم هذه الحادثة حدا زمنيا انتهت به العصور القديمة وبدأت به العصور الوسطى,, ولا اجد حرجا إذا قلت ان هذا الأسلوب الغربي في الفصل بين الأزمنة غير صحيح، وأنه يشكل مثالاً جيدا علىطرائقهم في الهيمنة والتعصب، ولنا على ذلك أدلة وحجج منها: 1 عند سقوط روما كان هذا الكوكب مسكونا بمجتمعات اكبر في حجمها وافضل في ثقافتها وفكرها من المجتمعات الغربية في ذلك الزمن، ولادخل لها بسقوط روما كما أن لديها محدداتها الثقافية الخاصة التي تفرق بها بين عصورها,, وعلى هذا فمن التعسف وهو الابن البار للهيمنة أن يلزم كل البشر باعتبار هذا الحدث نهاية للعصور القديمة وبداية للعصور الوسطى. 2 إذا كانت وحشية هذه الحادثة هي التي أوحت للغربيين بجعلها آخر حادثة يمكن نسبتها إلى العصور الحديثة فهذا خطأ في الفهم والتقدير لأن العصور الوسطى والحديثة شهدت كوارث أكثر وحشية على البشر من هذه الحادثة، وربما أكثر وحشية من أي حادثة شهدتها العصور القديمة، إلى درجة يمكن معها أن يصنف الزمن الذي سقطت فيه روما ضمن أواسط العصور القديمة. 3 من الراسخ في الفكر الغربي أن العصور تتفاضل حسب ترتيبها الزمني، بمعنى ان العصور الوسطى افضل في حضارتها من العصور القديمة، وأن العصور الحديثة أفضل من العصور القديمة والوسطى، واذا صح هذا التفضيل بالنسبة لفترات من العصور الحديثة وفي مجالات ومجتمعات بعينها، فإن تفضيل العصور الوسطى على العصور القديمة غير صحيح باستثناء الإنتاج الزراعي ففي أواخر العصور القديمة كان الفكر الإغريقي مزدهرا، وكان الحكم عندهم ديمقراطيا والسيادة للقانون، ثم انهار كل ذلك وسقط بسقوط روما، ولم تشهد البشرية عودة التزامن أو التجايل بين ازدهار الفكر وديمقراطية الحكم وسيادة القانون إلا بعد مرور ثلاثة عشر قرنا ونيف، فضلا عن كون بعض المجتمعات المعاصرة ما تزال تعيش وفق مفاهيم تعود إلى بدايات العصور القديمة في المجالات المرتبطة بهذه الصفات الإنسانية الثلاث. 4 حين يعمد الغربيون إلى توثيق الأحداث المادية والفكرية التي شهدتها مجتمعاتهم بصورة انتقائية ثم يفسرون تلك الأحداث وفق منهج يصورها على أنها أحداث كونية، وأنها الأحداث الأكثر أهمية وتأثيرا في مسيرة البشرية جمعاء فإن ذلك يدل بوضوح علىحالة الشبق التي تدفعهم لسحق ثقافات وحضارات الشعوب الأخرى واحتقار وتغييب منجزاتها من خلال دمغ الحياة كلها بالصبغة الغربية. * ص,ب2893 أبها