كلما تمعن المرء في الدراسات الأدبية التي خلفها لنا العصر الإغريقي اليوناني القديم ، اكتشف جديداً رغم الكم الهائل من الكتابات العديدة والثرية التي تناولت تلك الفترة التجريبية التي وُلد فيها الأدب الدرامي الإغريقي, وسيحاول هذا المقال تجنب ما كُتب عن الفترة ليدفع بقرائه إلى جديد المعلومات. من الطبيعي ان المسرح لا تقوم له قائمة إلا على أكتاف الآداب الدرامية, وعلى هذا نعتبر ميلاد المسرح الاغريقي أول حركة تجريبية في العالم ضمنت لجماهير أثينا العاصمة اليونانية عروضاً مسرحية شغلت أوقات الجماهير، واعدّتهم لاستقبال نفحات من تاريخ بلادهم ومن أمور ومشكلات حياتهم آنذاك رغم عدم إغفالنا لكل محاولات الميلاد المسرحي التي قامت في حضارات عالمية سابقة خلفتها لنا الرسومات الأثرية والمصورات والخربشات القديمة SCRATCH على السطوح الخشنة منذ عام 30,000 قبل الميلاد في الكهوف والمغارات, في عام 15,000 قبل الميلاد عُثر في كهف الأخوة الثلاثة TROIS FRERES على ناي مرسوم على حجر داخل الكهف، وفي عام 8000 قبل الميلاد تم العثور على عازف موسيقى على آلة موسيقية وهو يحمل على رأسه قرن الوعل LANTLER من رسم كل هذا؟ ومن أين استقى فكرة رسمه؟ لابد أن يكون هناك عالم معين، أو لنقُل مجازاً مجتمع بدائي معين بصرف النظر عن مدلول كلمة المجتمع وفق معايير عصرنا الراهن . واذا كان صيد الحيوان هو أول مراحل التمثيل البدائي الصامت، حيث الكهف هو مكان صالة الجمهور المعاصرة اليوم، فإن ذلك يوحي لنا بأن هناك حدثاً كان يجري في النصوص القديمة، حتى اختفت رسومات الحيوان والإنسان عن الجدران منذ عام 8,000 قبل الميلاد تقريباً، بعد أن حلّت مكانها رسومات أخرى اتسمت بالتخطيطية والخطوطية والهندسية, وتبقى الإرهاصات الدرامية والمسرحية الأولى في حضارات سومر، بابل، آشور، الفرعونية المصرية هليوبوليس، سقارة، الجيزة، طيبة، حمفيس الحضارة الهندية بكل ما خلفته من اساطير أسطورة ايزيس وأوزوريس، ورقص إيمائي MIMIC، ودرامات ضعيفة بادئة لا تتجاوز الصورة الحوارية مثل دراما ممفيس، دراما ورق رمسيس البردى وغيرها, يبقى هذا التاريخ الدرامي والمسرحي أضعف كثيراً من التجريب في المسرح الذي ولد في بلاد الإغريق. نوعيات الأدب الدرامي 1 المأساة (التراجيديا): يذكر الدكتور إبراهيم حمادة التراجيديا أو المسرحية المأساوية هي أحد الجنسين الأساسيين في الفن الدرامي، وأرقى أنواعه كلها وأصعبها كتابة وتعريفاً (1) فيها تتصادم الصراعات وتقود في النهاية إلى موت أو سقوط البطل الدرامي، رغم محاولاته الانتصار على المحُرك الأساس لتراجيديات الاغريقيين, ومع ذلك فهي تصل بالمتفرج إلى الكاثارسيس CATHARSIS التي تعني تطهير العواطف بالفن عند أرسطو, وتعود نشأة التراجيديا الى مرمجلات قادة جوقات الأناشيد الديثرامبية DITHURAMBOSL ترتيلة تنشدها جوقة من خمسين رجلاً مُقنعين بجلود الماعز تمجيداً لديونيزوس , وأجزاؤها كما حددها أرسطو ستة أجزاء هي: الحبكة، الشخصية، اللغة، الفكر، المرئيات المسرحية، الغناء, ناصاً على أن الشخصية التراجيدية يجب أن تتوفر فيها الصلاحية الدرامية، الاتفاق مع الواقع، صدق النمط والملاءمة لما تتحدث به، الثبات في غير تذبذب. 2 الملهاة الكوميديا : يُطلعنا كتاب أرسطو الشهير فن الشعر على شذرات في فصليه الرابع والخامس عن رأي أرسطو في الملهاة بحثه عن الملهاة لا يزال مفقوداً حتى اليوم , في الملهاة تتخلى الشخصيات عن عظمة البطل المأساوي لتضع بدلاً منها شخصيات مضحكة رديئة ضيقة النصيب في الحياة, تشتهر كوميديات ميجارا MEGARA بين جماهير أثينا في سرعة فائقة، بعد أن أشعلت مشاهد المهرجين clowns حماس الجماهير اثناء العصر الديمقراطي في ميجارا، ثم انتقلت إلى العاصمة لتقف جنباً إلى جنب مع كوميديات العاصمة, خاصة شخصية ميسون Maiszon ذو القناع، أصلع الشعر والفم الثرثار الرغاي ، التي استمرت طويلاً في كوميديات الاغريق مؤخراً. 3 الساتير SATIRE وهي الأهجوة أو الدراما الهجائية، التي ظهرت متأخرة في تاريخ الأدب الاغريقي بعد الانتهاء من درامات ديونيزوس وزوالها من المسرح على يد الكاتب براتيناس PRATINASZ أول مفجري الساتيريات, وللأسف لم يبق منها الا ساتيريتان لاسكيلوس وسوفوكليس، والثالثة المعنونة كيكلوبسا KUKLOPSZA ليوريبيديس،. 4 الميموس MIMOSZ: جاءت درامات الميموس لتحتل مكانها كنوع أدبي درامي في القرن الخامس قبل الميلاد إلى جانب الدرامات الكبرى, نوع أدبي فكاهي يُدخل الترفيه إلى نفوس الجماهير من خلال تركيبة أدبية للأحداث اليومية في حياة البشر, استطاعت الميموس وآدابها الدخول إلى كل من الدرامات التراجيدية والكوميدية دون أن تفقد طابعها الشعبي الحياتي اليومي، وهو ما سمح بامتدادها في الآداب الأوروبية مؤخراً. وهي درامات وأشكال أدبية وفنية اعترف بها أبيكارموس EPIKHARMOSZ الصقلي أحد أعمدة الآداب آنذاك كتب 37 دراما من نوع الميموس القصيرة قدم فيها شخصية الطفيلي الذي يكسب رزقه بالتملق ويغشى موائد ومجالس الأثرياء دون دعوة PARASITE تطورت آداب الميموس بعد ذلك لتدخل أحداثها الضاحكة الى متناقضات الحياة اليومية بشحمها ولحمها, لذلك لم يستعمل هذا النوع من الدرامات القناع الذي كان مظهراً أساسياً للشخصية المسرحية الاغريقية، ولم يرتد الممثلون إلا الملابس العادية الحياتية، إبرازاً للحياة بلا رتوش، وإمعاناً في اثبات الحياة مثلت النساء أدوار الجنس الناعم في درامات الميموس, انطلق تطور الميموس على يد سوفرون szophron من أهالي سيراكوزا، ثم أدخل ابنه إكسنارخوس xenarkhosz من بعده أهدافاً سياسية للمرة الأولى في أدب الميموس. 4 أدب المسرح العرائسي Marionett: ظهر هذا النوع من الآداب في العصر الإغريقي منحازاً إلى الفعل الدرامي للنشء والصغار مستعملاً تقنية الحبال الرفيعة والأسلاك الدقيقة التي تشد العرائس الخشبية, شارك في مسرح العرائس اللاعب اكسانوفون xenophon الذي حقق شهرة واسعة في تحريك الشخصيات العرائسية دون أن يظهر على المسرح . * الأعياد الدرامية في أثينا: ضمن اهتمامات الدولة بشؤون الأدب، مثل تسعة من كبار رجال الدولة الأرخون arkhon وهو ما يعادل مصلحة أو مؤسسة فنية في العصر الحديث مهمته الإشراف على تجهيز واعداد المسابقات الشعرية الدرامية كل عام, صدر قرار تكوين الأرخون في الشهر الأول من شهور التاريخ الاغريقي شهر هيكاتومباين - يناير عندنا - HEKATOMBAQN على أن تجرى هذه المسابقات سنوياً في مارس وأبريل حسب تاريخنا الجريجوي الميلادي الموافق للشهر الإغريقي ايلافيبليون ELAPHEBOLION وهي المسابقات التي ربح فيها كبار دراميي الإغريق اسكيلوس، سوفوكليس، يوربيديس الجوائز عدة مرات. وفي إعداد الدرامات الفائزة يُعيد الأرخون الخورجيس KHOREGOSZ وعادة ما يكون من بين الأثرياء المُحبين للفن المسرحي, يصرف على متطلبات الكورس في العرض المسرحي، بينما تدفع الدولة تكاليف الممثلين وأجورهم، وثمن النص المسرحي حقق جماهيرية أم لم يُحقق, أما التدريب وتعليم فن الأداء التمثيلي ومؤلف الألحان ومصمم الرقصات فكلها أعمال كانت من اختصاص المؤلف الشاعر الدرامي نفسه ولزحمة الأعمال الفنية في بلده وحده، فقد تطور الأمر فيما بعد وأُسندت بعض الأعمال الى متخصصين وفنيين لمساعدة الشاعر الدرامي، إلا أن اختيار الممثلين كان من عمل شاعر الدراما. هذه الصورة الجادة والنظرة السامية الى المسرح، المتمثلة في اهتمام حكومة أثينا الديمقراطية بفن كان يعد تجريبياً للمرة الأولى في حياة شعب الأغريق، تؤكد العلاقة بين الديمقراطية والمسرح. منذ عشر سنوات تقدم المخرج السويدي إنجمار برجمان INGMAR BERGMAN من مواليد 14/7/1918م وهو ممثل ومخرج مسرحي وسينمائي عالمي تقدم الى حكومة السويد بطلب جريء طالب فيه حكومة السويد بفتح مسارح الدولة الحكومية للجماهير بالمجان، نشرا لثقافة المسرح ودورها في تكوين ونشأة الشباب السويدي, ورغم وجاهة الطلب وقيمته التربوية، فإن الحكومة رفضته، وكان من نتيجة الرفض استقالة انجمار برجمان من وظيفته الإخراجية، ودار العالم ليملأه بإخراجاته الفذة التي جعلته من أصحاب الملايين, معذرة لهذا الخلط الزمني في المقال لكنني أردت ان أدلل به على رؤية اغريقية للعمل المسرحي، ورؤية عصرية مشابهة لها في القرن العشرين. فن التمثيل الإغريقي: حظي فن التمثيل بعدة دور للمسرح سواء كانت من الرخام في صفح الجبل في البداية أو خشبية بعد ذلك, مسرح حجري يسع 30,000 شخص مع ان تعداد الشعب آنذاك لا يتعدى 400,000 نسمة نصفهم يسكنون العاصمة أثينا، ثم مسرح ديوينزوس، مسرح الأوديون ODEION في عصر بركليس، مسرح ليكور جوس LUKURGOSZ جرت العروض المسرحية في الصباح لتستمر طوال النهار ثلاث تراجيديات وكوميديا واحدة تناول الجمهور المأكل والشراب أثناء العرض، ومن بين الجماهير من ذهب الى بيته في الاستراحة للغداء ثم عاد ليتابع العرض المسرحي، تحملت الحكومة دخول الفقراء الى المسرح من بند خُصص في الميزانية تحت اسم ميزانية مشاهدي المسرح ,تُشير المراجع التاريخية إلى اسم الممثل تسبس theszpisz كأول ممثل في التاريخ, اصطحب عربته المعروفة بعربة تسبس ليجول بها كل أقاليم اليونان القديمة، ممثلاً لكل شخصيات المسرحية الاغريقية طبعاً هذه الصورة من فن التمثيل كانت تمثل لبساً للجماهير المشاهدة . في البداية كان دخول المسرح بالمجان، وفرضت الدولة غرامة مالية على المتقاعسين عن مشاهدة المسرح، بعد فترة حددت تذكرة الدخول باثنين أوبولوس OBOLOSZ أجرة العامل اليومي 3 أوبولوس في ذلك الوقت . أدخل الدرامي اسكيلوس ممثلاً ثانياً حتى يتبادل اثنان تمثيل المسرحية، بعدها أدخل الدرامي سوفوكليس الممثل الثالث لتيسير فهم المضامين الدرامية على المشاهدين، وبعدها تأكدت العلاقة العضوية والفكرية الدرامية بين الممثلين والمتفرجين, جماهير تنفعل بالنصوص إما سلباً أو ايجاباً، وترفع أصواتها بالترحيب أو السخط وعدم الرضا,وساعتها تستعمل الجماهير الطماطم والبيض لتقذف به الممثلين، ورغم هذا المستوى المتواضع للجماهير فلم تتغير أو تتبدل وظيفة المسرح كما رسمتها الدولة وارتضتها وهي أن يعمل كُتاب الدراما الشعراء على النهوض بعقليات الجماهير الشعبية وأخلاقياتها وسلوكياتها، كدراميين تقع على اكتافهم مهمة التربية الجماهيرية بالفن والتنوير بالمسرح وآدابه، بإلقاء الضوء الباهر على الرؤية الديمقراطية التي تمثل الجسر بين الدولة والشعب لتضمن نظاماً اجتماعياً نافعاً, أين مسرحنا العربي اليوم من المسرح الاغريقي القديم؟ *هامش:د, ابراهيم حمادة معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، دار المعارف، القاهرة 1981م ، ص 196.