* اليوم الثالث في برنامج زيارة الوفد السعودي الى كوسوفا كان يوم الخميس الرابع عشر من شهر صفر لعام 1421ه. بدأ البرنامج عند الساعة الثامنة والنصف صباحا وكان مخصصا هذا لزيارة وتفقد مشاريع اللجنة السعودية المشتركة في مدن وقرى خارج العاصمة برشتينا. إنه يوم حافل بالنشاط، مليء بالحيوية والنشاط,, والتعب أيضا. لكن قبل الدخول في صلب برنامج اليوم الثالث؛ دعوني أتوقف معكم عند قصة دخول الاسلام الى هذا الاقليم، وصراع هذا الدين الجديد مع الصليبية، وهو صراع قديم قِدم ظهور الاسلام ذاته. في الليلة التي سبقت اليوم الثالث هذا، التقيت في الفندق برئيس المشيخة الاسلامية في كوسوفا الشيخ رجب بويا ودار حوار جاء فيه من قبله ثناء على دور المملكة والشعب السعودي في كوسوفا خاصة فيما يتعلق بإعمار المساجد والدعم السخي والتعليمي ودعم الأسرة, وقال بأن شعب كوسوفا يقدر كثيرا جهود المملكة وكرم الشعب الذي كان سبّاقا الى هذا الاقليم. الصراع بين الهلال والصليب * تعد الحروب الصليبية التي شنها المسيحيون ضد الشرق العربي المسلم النموذج الأمثل للعداء الذي تكنه النصرانية الأوروبية للاسلام فقد بدأت هذه الحروب في القرن الحادي عشر الميلادي ولم تتوقف إلا في القرن الرابع عشر الميلادي بعد تسع حملات شرسة. أما الأنموذج الأحدث لهذا العداء فهو يتكرر في البلقان منذ أكثر من سبعة قرون الى اليوم, وآخر صوره الهجمة العرقية التي قادها بدعم من روسيا ميلزوفيتش ومن ورائه كل الصرب في هذه المنطقة ضد المسلمين الألبان في كوسوفا. لقد بدأ اتصال الألبان بالمسلمين منذ حقبة تاريخية مبكرة تصل الى فترة تسبق قدوم العثمانيين الى شبه جزيرة البلقان, إلا أن الوثائق التاريخية تثبت أن غالبية الشعب الألباني اعتنق الاسلام خلال فترة ما بين القرن الخامس عشر والسابع عشر. وكان شيخ الاسلام عندئذ يشرف على العمل الاسلامي في الولايات التي كان يسكنها الألبانيون، وذلك عن طريق المفتي المسؤول في كل منطقة من مناطق الولايات العثمانية, وقد استمر هذا النظام الى ان تم الغاء نظام الخلافة, وعلى الرغم من ذلك فقد استمر العمل الاسلامي المنظم في هذا الجزء من البلقان وفقا للظروف الجديدة. بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ ما يسمى بالاتحاد الاسلامي في كوسوفا عمله في سنة 1948م, وقد كان هذا الاتحاد من أجل جمع شمل المسلمين الذين يعيشون داخل حدود جمهورية يوغسلافيا السابقة. بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1989م ظهر الاتحاد الاسلامي في كوسوفا مستقلا عام 1994م فهو يعمل طبقا للشريعة الاسلامية, ويقوم بتنظيم شؤون العامة دينية وتعليمية وادارية ووقفية، ويسعى الى تنمية الوعي الديني ويدافع عن مبادىء وأخلاقيات المجتمع المسلم وبتنمية وتطوير الجوانب الثقافية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية. ومن خلال النشاط الذي ينهض به هذا الاتحاد ابتداء من كلية الدراسات الاسلامية ومدرسة علاء الدين الثانوية وفروعها على وجه الخصوص فانه يثير حفيظة الجوار المسيحي المتشدد سواء داخل شبه الجزيرة البلقانية أو في دول مثل ايطالياوروسيا وألمانيا وفرنسا وسويسرا. ان مصالح الدول الأوروبية الصليبية في شبه جزيرة البلقان قديمة، ومحورها في كل وقت العداء للاسلام من أيام السيطرة العثمانية حتى اليوم. وهذه السياسة العدائية ضد كل ما هو مسلم على أطراف أوروبا الشرقية؛ يجسده قول شهير للورد سالسبوري:ما أخذه الصليب من الهلال لا يعود الى الهلال, وما أخذه الهلال من الصليب يجب ان يعود الى الصليب ,,! ووفق هذه المعادلة غير العادلة؛ فإن ما أخذه الصليب من الهلال في كوسوفا لا يمكن أن يعود,,! لأنه أصبح أجداثا بعشرات الآلاف تحت الثرى, أما ما سوف يأخذه في المستقبل فهذا علمه عند الله. في الطريق إلى جيلان تحرك الوفد من وسط برشتينا عند الساعة الثامنة والنصف صباحا في الطريق الى مدينة جيلان التي تبعد قرابة سبعين كيلا, وعلى الطريق كنا نشاهد بحيرات وأنهارا دفاقة, وعلى مدى النظر، تمتد الخضرة والغابات الكثيفة التي لا يمكن الدخول من خلالها قبل شق طريق خلالها وقطع الأشجار. وعلى مسافات متقاربة؛ شاهدنا قرى دورها متباعدة في الغالب، ويغلب على سكان القرى انشاؤهم للدور والمنازل وسط ممتلكاتهم الزراعية. وعلى طول الطريق كانت المظاهر العسكرية لقوات KFOR الدولية حاضرة عند مفترق الطرق ومداخل القرى والمدن, وحرص السائق الكوسوفي على إعلامنا بهوية كل قرية أو مدينة، نمر بها. هنا ألبان,, هنا صرب,, ويبدو أن الحواجز النفسية اصبحت أمتن وأقوى من الحواجز الجغرافية التي نراها تفصل بين سكان الاقليم الواحد,, فهذا السائق الألباني كان يشير بيده الى جهة قرية، صربية، ثم يردها الى رقبته مع اشارة تدل على الذبح والقتل وصوت ربما أراد منه تمثيل صوت خروج الدم بعد الذبح أو صوت الذبيح وهو يشخر قبل أن يموت!. يا للفظاعة,,! قلت: ما هي الصيغة التي يمكن أن تجمع في المستقبل بين جارين يتربص كل منهما بالآخر وبينهما قتلى وأموات وثأرات ونعرات تستند الى إرث حضاري من العداء عمره مئات السنين. الشيء الوحيد الذي كان يبدد هذه الصور السوداوية التي رافقتنا في الرحلة عبر طريق ضيق حفرته القنابل والقذائف تنبيه صادر من أحدنا يشير الى شلال جبلي أو سفح أخضر، أو غابة جميلة أو بقرات سمان ترعى في مروج خضر وخلفها صبيان وصبايا كأنهم وكأنهن فراشات تضيء بياضا فوق أعشاب برية, لكن هذا السائق لا يلبث أن يقلب الصورة المبهجة الى أخرى حزينة فيشير يمنة ويسرة وهو يمط شفتيه في أسف وأسى: هذه مقبرة جماعية لمئات الرجال الذين قتلهم الصرب. هذه قرية تم ذبح جميع سكانها على أيدي الصرب. طائرات الصرب ضربت هذه القرية، وهجرها من بقي حياً من سكانها. ونحاول ايقاف المسلسل المأساوي هذا بتوجيه الكاميرات الى منظر جميل، وطبيعة خلابة نمر بها. في جيلان في مدينة جيلان التي وصلناها قرب الساعة العاشرة صباحا شاهدت مدينة اسلامية شرقية، سمات البنيان وتخطيط العمران ينطقان بذلك, حتى وجوه الناس تذكرك بالمدن التركية وسكانها في أنقرة واستانبول وأرمير. وهناك تشابه كبير تشترك فيه جيلان مع مدن أخرى مثل فرزاي وشتيما وسوهاريكا وبرزرن وجاكوفا , المظاهر الاسلامية ظاهرة, والحجاب غالب, والمآذن ترى بوضوح، وصوت الأذان يسمع في أوقاته, والأسواق فيها من صور الشرق الاسلامي الشيء الكثير, وخاصة الشوارع والزنقات الضيقة والأبواب والنوافذ الخشبية والمقاهي على الأرصفة. ويشترك مع جيلان في هذا الطابع خارج برشتينا المدن التي ذكرت أعلاه, وعدد سكانها ليس كبيرا, فبرشتينا العاصمة فيها 270 ألف نسمة, وبريزرن 190 ألف نسمة, ومتروفيتشا 150 ألف نسمة وجاكوفا 21 ألف نسمة, وجيلان 120 ألف نسمة, وفريزاي 140 ألف نسمة وبيا 155 ألف نسمة. جيلان,, وكيلان ان اسم هذه المدينة التي تقع على التخوم المقابلة لايطاليا وسويسرا ملفت، كونه يتطابق مع اسم آخر مشهور في التاريخ الاسلامي وهو ما تكلم عليه ياقوت الحموي في معجمه فقال: هو بالكسر جيلان , اسم لبلاد كثيرة من وراء بلاد طبرستان, قال أبو المنذر هشام بن محمد: جيلان وموقان ابنا كاشج بن يافث بن نوح عليه السلام, وليس في جيلان مدينة كبيرة انما هي قرى في مرجع بين جبال ينسب اليها جيلاني وجيلي, والعجم يقولون كيلان, وقد فرق قوم فقيل: اذا نسب الى البلاد قيل جيلاني، واذا نسب الى رجل منهم قيل جيلي, وينسب الى جيلان هذه عبدالقادر الجيلاني من كبار شيوخ الصوفية, ومؤلف كتاب الفتح الرباني والفيفي الروحاني في التوحيد, وله كتاب: فتوح الغيب وتوفي سنة 561ه. وجيلان كوسوفا ليست جيلان طبرستان, فالأخيرة سابقة, والأولى أتت وقامت على اسمها، وربما يعود السبب في التسمية الى أحد معتنقي مذهب عبدالقادر الجيلاني من المسلمين العثمانيين الذين نشروا الاسلام في ربوع البلقان. نشاط سعودي واسع وفي جيلان هذه، كان للمملكة نشاط انساني وثقافي واسلامي واسع, فقد اقامت مؤسسة الوقف الاسلامي في هذا الاقليم مسجدا في قرية كوشاك كلفته أكثر من 70 ألف مارك، كما افتتحت عيادة طبية للختان وأقامت دورات شرعية وحاسباً آلياً. وفي برنامجنا لليوم الثالث هذا قام رئيس الوفد معالي الدكتور علي بن ابراهيم النملة بزيارة الى المركز الثقافي وأعمال ترميم المسجد التاريخي فيها وقد هدمته طائرات الصرب. وجاء دور مدينة فرزاي حيث قام رئيس الوفد والوفد المرافق بزيارة الى مسجدها الذي تعيد ترميمه اللجنة وكذلك المركز الثقافي فيها. وبعد فرزاي وصل الوفد الى قرية شتيما وقام بتفقد المستودع الكبير الذي اقامته اللجنة في مرتفع مطل على بعض الاودية، من بداخله شاهدنا مخزونات لأغذية وملابس وأدوية ومواد بناء وغيرها كثير مما يصل الى هنا من تبرعات أبناء المملكة العربية السعودية لدعم اخوانهم في كوسوفا. ثم قام الوفد بعد ذلك بزيارة الى أحد مشاريع اللجنة وهو مدرسة UNHCR في سوهاريكا وكان الوقت قد جاوز الثانية عشرة ظهرا. استقبال في برزرن تحولنا بعد ذلك الى مدينة برزرن ودخلنا الى وسط المدينة، من طريق ضيقة جدا غير مزفتة، وشاهدنا الناس يخرجون الى تحيتنا وهم وقوف في البلكونات وعلى الأبواب والنوافذ, وعندما وصلنا الى مسجد كوريلا الذي أعادت بناءه اللجنة، بشكل رائع وجميل وجدنا في الاستقبال مئات من الرجال والنساء والأطفال وهم يحملون الأعلام السعودية، ويقدمون باقات من الزهور الى أعضاء الوفد في ود صادق. دخلنا المسجد وأدينا صلاة الظهر مع جماعة وراء امامه الرسمي ثم قمنا بأداء صلاة العصر قصرا، وجرى في المسجد تبادل الكلمات بين علماء برزرن وأعضاء الوفد ثم جرى تكريم الدعاة والحفاظ وبعض الأيتام وسط ترحيب يردده السكان الذين اصطفوا لتحية الوفد. في جاكوفا تقع مدينة جاكوفا على طرفي نهر جار وبحيرة عذبة، يصاد منها السمك النهري اللذيذ وتلفها من جهاتها الأربع غابات الصنوبر فلا تسمع عندها إلا صوت شلالها الى الوادي الشرقي وتغريد البلابل وحفيف الأغصان. وصلنا اليها عصرا بعد زيارتنا الى سوهاريكا وبرزرن حيث تناولنا طعام الغداء في فندقها الذي يقع على طرف النهر، فندق باشترك، وبعد الغداء أردنا استخدام الماء ففوجئنا بأن الفندق الذي يقوم على طرف نهر جار ليس به ماء, في هذه اللحظة وجدت لنفسي مخرجا بأن حملت كاميرتي الخاصة، وتوجهت نحو النهر لأخذ بعض الصور التي أحبها خاصة عندما تكون في بيئة تجمع بين سماء صافية ومياه رقراقة وخضرة غالبة بعيدا عن كل مصنوع ومحدث. بعد الغداء، ذهبنا الى مسجد هادومي, وهو مسجد أثري قديم مقام منذ أكثر من مائة وستين عاما تقريبا, وقد تعرض للقصف الصربي، مثله مثل كل مبنى أو اثر له صلة بالاسلام في هذه الأرض، وقد امتدت الأيدي السعودية لاعادة بنائه وتأهيله لأداء دوره الديني والتاريخي في اقليم جاكوفا. وقبيل الغروب، انتظم عقدنا على رابية مطلة على بحيرة جاكوفا، فتناولنا الشاي وبعض الفاكهة, وراح البعض الآخر يسير في نزهة قصيرة على ضفة البحيرة الساحرة, بينما فضل بعضنا أخذ الصور بجانب الشلال من طرف البحيرة. في برشتينا مرة أخرى بعد يوم طويل استمر اكثر من اثنتي عشرة ساعة كلها عمل وحركة وتنقل؛ عدنا الى فندقنا في برشتينا، وبعد أداء صلاتي المغرب والعشاء في المصلى الذي أعد وفرش من قبل اللجنة في الدور الأول من الفندق، اجتمعنا مرة أخرى على مائدة العشاء الذي أعدته بلدية برشتينا تكريما للوفد السعودي. بعد العشاء مباشرة,, أي حوالي الساعة الحادية عشرة مساء؛ سارع كل منا الى غرفته لأخذ قسط من الراحة والنوم بعد يوم طويل وشاق قضيناه بين عدة مدن وقرى وأودية وقطعنا أكثر من مائتي كيلو هنا وهناك. وقبل ذلك وجدنا أن تعليمات اللجنة المنظمة تقضي باعداد كل شيء للسفر قبل الخروج في برنامج الغد، وهو يوم الجمعة آخر أيام الزيارة وموعد السفر الى المملكة.