جرى حديث عن الأسلوب القصصي في القرآن الكريم، وعن تميُّز القصة القرآنية بجمال العبارة، وقوة الصياغة، وصدق الخبر، وعرض الأحداث عرضاً حقيقياً مؤثِّراً، والإشارة إلى الأشخاص إشارة بليغة مناسبة للمقام، وترفُّعِها عن أي نوع من أنواع الخيال، مع ما فيها من جمالٍ وجلال وإمتاع وتأثير، وكان هذا الحديث يجري في لقاءٍ ثقافي يحضره عدد من طلاب العلم الذين عاشوا وقتاً جميلاً مع جوانب الإعجاز البياني في القرآن الكريم من خلال الحديث عن الأسلوب القصصي فيه، وبعد استكمال جوانب الحديث في هذا الموضوع، كان ختام المجلس حديثاً عن الرسولين المشار إليهما في سورة (يس) والرسول الثالث الذي عزّز الله به موقف الرسولين، والرجل المؤمن الناصح الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ناصحاً قومه المكابرين باتباع المرسلين، وتناول الحديث عن هذه القصة جانب بلاغة الأسلوب القرآني في عرض القصة مع الاختصار الذي يكتمل معه المعنى المراد، وذلك من خلال قصة الرجل المؤمن الناصح الذي سرد القرآن الكريم قصته في سياق قصّة دعوة المرسلين، وعناد الكافرين بصورة مؤثرة مختصرة، جاءت على النحو التالي: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ (21)وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ (23)إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (24)إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}. سياق قرآني بليغ، تحقق فيه التأثير في الإيجاز، وهذا هو الإعجاز البياني الذي لا نظير له، فقد رأينا هذا التسلسل البديع في موقف الرجل المؤمن في هذه الآيات المتعاقبات، ثم رأينا في إطار هذا التسلسل تلك النقلة البيانية العجيبة إلى النتيجة المهمة بعيداً عن التفاصيل الصغيرة التي لا مكان لها هنا {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ}هنا تأكيد لنتيجة مهمة جداً أفضى إليها الموقف الدعوي الإيماني المشرِّف من ذلك الرجل المؤمن ألا وهي دخول الجنة دخولاً حقيقياً لا يمكن لأحد أن يؤكده مثل هذا التأكيد في أي قصة من القصص لأنه من علم الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى، ويتمثل الاختصار في عدم ذكر ما جرى من قتل الكفار لهذا الرجل المؤمن بسبب ما نصحهم به ودعاهم إليه، وغير ذلك من تفاصيل الموقف. هنا سأل أحد الطلاب عن هذا الرجل المؤمن مَنْ يكون، وأجبته بقولي: هذا ما ورد في كتب المفسرين تفصيلاً لهذا الإجمال الذي رأيناه في القرآن الكريم، أما الآيات البيِّنات فقد اعتنت بجانب الموعظة والنتيجة في هذه القصة لأنها هي الخلاصة المهمة، دون انشغال باسم الرجل وتفاصيل ما حدث له. ومع ذلك فقد ذكرت كتب التفسير أن اسمه (حبيب النجَّار) ويقال: إنه كان نصرانياً، وعندما بعث الله إلى قومه رسولين هما يحي ويونس ثم عزّزهما بثالث هو شمعون ليدعو الناس إلى عبادة الله عز وجل، ولكن الناس كفروا وكابروا وتوعَّدوا الرسل بالقتل إن لم يكفوا عن دعوتهم، عند ذلك جاء هذا الرجل الذي يقال إن اسمه عند قومه (أغابوس) وقد سمع بما جرى فأقبل مسرعاً من أقصى المدينة وأعلن أمام الناس إيمانه ودعا الناس إلى الإيمان وعبادة الله عز وجل، ولكنهم كابروا وقتلوا هذا الرجل الصالح وهم يستهزئون به قائلين: ادخلْ أنت الجنة، فأخبرنا الله سبحانه وتعالى أنه دخل الجنة، وأنه لمّا ذاق نعيمها قال: يا ليت قومي يعلمون بهذا النعيم، ويشير المفسرون إلى أن حبيب النجَّار هذا كان يصنع الأصنام، ثم آمن عندما شاهد معجزات الرسل وكان من أمره ما كان، وكان جزاء قومه أنْ أخذتهم الصيحة فإذا هم خامدون، وهذه هي نتيجة المكابرين دائماً. وأقول: إنَّ ربط الشباب ببلاغة القرآن الكريم والسنة النبوية من أهم وسائل تطوير ذواتهم، والرقيِّ بتفكيرهم، فما أحوجنا إلى ذلك! إشارة صور من الإعجاز في قرآننا ما شك فيها ذو اليقين ولا امترى