تتواصل أزمة الصناعة النووية الإيرانية مع الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة، فيما تبقى دول المنطقة واقفة على فوهة بركان ثائر. اللافت للنظر أن التوجه الإيراني لبناء تقنية نووية حتماً تساعد على بناء صناعة نووية دفع ببعض دول المنطقة وخصوصاً مصر وتركيا إلى اتباع ذات المسار وتبني ذات السياسة. المعنى واضح فالتاريخ والجغرافيا والمصالح القومية والوطنية للدول تفرض على معظم دول المنطقة ضرورة سلوك مسالك التقنية النووية، ليس وحسب كرد فعل طبيعي للفعل الإيراني، وإنما كنتيجة حتمية لهاجس الأمن ومتطلبات الردع المتبادل الذي لم تعه واشنطن حتى الآن في مواجهاتها السياسية الداخلية الإيرانية هي قضية نسبية، بل ولربما هامشية طالما أن جميع الأطراف التي يسمح لهم بالدخول في صميم عملية صناعة القرارات والسياسات الداخلية والخارجية الإيرانية، هم من ذات المنبع والمصدر والخلفية.. الجميع يهمهم بالدرجة الأولى تحقيق والحفاظ على المصلحة العليا للدولة الإيرانية والشعب الإيراني. ونظراً لأن النظام السياسي في إيران يتمتع بقدرات عجيبة على المناورة والمراوغة السياسية والأيدلوجية على كافة المستويات الداخلية والإقليمية والدولية، فقد تمكن من تفادي العديد من المخاطر والتحديات الدولية التي كانت تراهن على تفعيل سلبيات الداخل الإيراني لخدمة مصالحها وأهدافها. بل أثبت النظام الإيراني امتلاكه لمهارة التدريب السياسي الميداني للرموز والكوادر والكفاءات القيادية والميدانية بدايةً من توزيع الأدوار والمهام على مختلف اللاعبين من ذات الفريق (الذين يتقنون فنون اللعبة ومهاراتها)، ونهاية بمن لديهم القدرة على امتصاص الضغوط والهجمات العامة والخاصة أياً كانت مصادرها. لهذه الأسباب والمتغيرات أثبتت (اللامركزية السياسية) الإيرانية على مستوى رئيس الدولة من جهة، ومن جهة أخرى، (منظومة المركزية السياسية المركزة) في رموز النظام المناط بهم صيانة الدستور والنظام والدولة والشعب، بأنها قادرة على استخدام مختلف أنواع الحراك القومي والتحركات السياسية العقدية ناهيك عن التمويه السياسي المتطور للحفاظ على منجزات ثورة الدولة، وسياسات دولة الثورة الإيرانية. بمعنى آخر أكثر دقة لا يوجد في النظام السياسي الإيراني من يمكن أن يصنف ضمن منظومة الإصلاحيين بالمنطق والمنظور الغربي، وإنما يمكن ذلك بالمنطق والمنظور الإيراني نظراً لكون جميع اللاعبين درسوا في مدرسة واحدة وتتلمذوا على يد أستاذ واحد وتلقوا علومهم ومعارفهم من مرجعية واحدة وتخرجوا من ذات المدرسة. وبمنطق آخر أكثر صراحة فإن الغاية السياسية في إيران كانت وما زالت واحدة وهدفها واحد وإن اختلفت الوسائل الداخلية الإيرانية لتحقيقها، فليطلق العالم ما يشاء هل يمكن القول تبعاً لذلك أن إيران اليوم تختلف تماماً عن إيران الأمس؟.. وهل يمكن الاعتقاد بأن معتقدات وقيم إيران الثورة لن تعود إلى الساحة الداخلية الإيرانية أو الخارجية الدولية مرة أخرى لأنها باتت غير صالحة للزمان ولا للمكان وبالطبع لا يمكن أن تستخدم لاستهلاك الإنسان؟.. وهل حقاً أن العلاقات السياسية بين مختلف الأطياف والأحزاب والجماعات السياسية الإيرانية وصلت إلى مستوى مرحلة متقدمة من الاستقرار والثبات، لذا لم تعد تتحرك كلية بتوجيهات الأيدلوجيا المتطرفة أو حتى المتشددة بقدر ما تحركها أيدلوجيا المصالح وإبستمولوجيا الأهداف القومية الإيرانية؟. تلكم الأسئلة مهمة لصناعة سياسة خارجية أو عربية حيال إيران، بيد أن أهم ما يمكن أن توظفه تلك الأسئلة تحريك مقومات التحليلات السياسية العلمية التي تستنبط ساسات وتحركات تحقق أقصى منفعة ممكنة بأقل تكلفة ممكنة. فالرؤية السياسية التحليلية تؤكد أن تطبيق الأدوات السياسية التحليلية الصحيحة لا ينتج عنا إلا الرؤية السياسية الصحيحة، وبالتالي القرارات السياسية الصحيحة. ولا شك أن الواقعية السياسية قد أثبتت فعالياتها وصحتها وجدارتها بل ومصداقيتها أمام هشاشة المثالية السياسية سواء في شكلها الدياليكتيكي أو في جانبها الأخلاقي الذي يعتمد على أخلاقيات الإنسان التي تختلف تماماً عن أخلاقيات الدول وبالتحديد أخلاقيات السياسة الدولية. لذا يمكن القول إن حركة الإصلاح في إيران ما هي إلا نتاج لوجود إرادة الإصلاح السياسية الإيرانية ومن أعالي القمة السياسية وبالتالي لا تحتاج تلك الحركة القومية الحتمية (التي لا مناص من تفعيلها بحكم الواقع والجغرافيا والمصالح) إلى وجود فئوية إنسانية معتدلة أو محافظة أو متشددة، وإن كانت بالفعل نتائج الإصلاح تختلف تماماً من فئة لأخرى. من هنا فإن وحدة الإستراتيجية القومية الإيرانية العليا بجانبيها الأمني والسياسي يشترك في الإيمان بها جميع الأطراف والفئات الإيرانية القيادية التي تتقارب إلى حد كبير في المعتقد السياسي والأيدلوجي الرئيسي الذي تمخض عن أحداث الثورة الإيرانية. بناءً عليه فإن الخلاف أو الاختلاف في الوسيلة لا يعني الاختلاف أو الخلاف على الغاية طالما أن الغاية واحدة وطالما أن الصراع في حيثيات الفروع لن يؤثر إطلاقاً على ثوابت الأصول.