عمل المشروع الصهيوني في فلسطين على محورين أساسيين: أولهما تغيير التضاريس الجغرافية للأرض، وثانيهما إزالة التضاريس البشرية للشعب بتفريغ فلسطين من أهلها لتصبح أرضاً بلا شعب. وإذا كانت الأرض سلبية المقاومة إزاء التغييرات، فإن البشر يمتلكون كل عناصر المقاومة الإيجابية إذا توقدت لديهم إرادة التحدي والإيمان بالحق. إن المشهد الفلسطيني الجاري الآن يوصف ب(إذابة شعب) و(اختلاق شعب)؛ فقد تحول 60% من الشعب الفلسطيني من أصحاب أرض إلى لاجئين مشتتين في أنحاء العالم، ويجري التخطيط لتوطينهم حيث حلوا ليصبحوا في مرحلة قريبة (متوطنين متجنسين) لا حق لهم في العودة، بينما تحول الصهاينة من محتلين.. إلى مستوطنين.. إلى مواطنين.. إلى جيران.. إلى شركاء السلام والنماء! قد يكون من نافلة القول التذكير بأن قضية اللاجئين الفلسطينيين كانت الرافعة التي حملت قضية فلسطين منذ نكبة عام 1948م. فمنذ البدء كان المخيم رمزاً للوجود الفلسطيني وتعبيراً عنه، وكان الحديث عن قضية فلسطين لا يتم إلا من خلال الحديث عن المخيم، وحق العودة للاجئين هو المدخل للحديث عن الحقوق الوطنية الفلسطينية بكاملها. وحين كانت إحدى وسائل الإعلام العالمية تتذكر وجود مشكلة اسمها مشكلة فلسطين كان المخيم أو اللاجئ الفلسطيني هو المثال الناصع لهذه المشكلة. لقد حمل اللاجئون المهجرون من قراهم، والمبعثرون في بطون الطرق، والمكدسون في الشاحنات وطنهم معهم أنّى رحلوا، وغرس هؤلاء اللاجئون أرضهم في كيانهم نفسه، وأصبحوا البدائل المؤقتة لهذه الأرض. وكانت مأساة اللاجئين الفلسطينيين وبؤس مخيماتهم هي المادة المتاحة بين يدي المؤسسات العربية الإعلامية والسياسية لتقديمها للرأي العام العالمي كدليل على أن الكيان الإسرائيلي ما زال يغتصب أرض فلسطين وحقوق شعبها. وحتى في الجمعية العامة للأمم المتحدة ظل القرار 194 لعام 1948م الذي يؤكد حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة لوطنهم هو القرار الذي يجري تأكيده سنوياً دون اعتراض أحد غير الكيان الإسرائيلي، ومن خلاله فقط ولسنوات عديدة ظل اسم فلسطين حياً يتردد صداه في أروقة الأممالمتحدة وتحتفظ به سجلاتها. لقد ظل المخيم الفلسطيني هو الذاكرة التي تختزن فلسطين بكل تفاصيلها.. أرضاً وشعباً وتاريخاً وذكريات، ويلقنه دروساً يومية للأجيال المتعاقبة فتحفظها عن ظهر قلب، وكانت هذه الذاكرة هي النبع الذي غرف منه كل مبدعي فلسطين، ومحبي فلسطين؛ ليصوغوا أجمل إبداعاتهم شعراً وروايةً وتراثاً. وكانت قضية اللاجئين الفلسطينيين تجسد كل هذه الدلالات في الحفاظ على القضية الوطنية والهوية الوطنية حتى انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في يناير 1965م، فمن هذه المخيمات ومن أبناء اللاجئين جاءت الإرهاصات الأولى للعملية الكفاحية الفلسطينية المتواصلة حتى اليوم، بدءاً من المظاهرات الهادرة التي انطلقت في قطاع غزة عام 1955 ضد مشروع توطين اللاجئين في سيناء فأسقطته، وكتائب الفدائيين التي انطلقت من قطاع غزة أيضاً عامي 1955 و1956 بقيادة الضابط المصري مصطفى حافظ لزرع الرعب في صفوف الصهاينة ولترسم الملامح الأساسية لطبيعة العملية الكفاحية التي توجت بقيام منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964م، وانطلاقة الثورة المسلحة عام 1965م. وقد برز المخيم واللاجئ كشاهدين رئيسيين على المأساة التاريخية التي تعرض لها الشعب الفلسطيني، ومن نفس الألم الذي أوجدته النكبة ظهرت بشائر المقاومة والفعل والثورة، وفي حارات وأزقة مخيمات اللاجئين صاغ وأبدع الفلسطيني استراتيجيات بقائه ومقاومته على كل المستويات النضالية والاجتماعية والثقافية؛ فالمخيم واللاجئ هما بكل تأكيد من أهم النتائج المستمرة عبر الزمن للنكبة، ووجودهما يمثل وجود مشكلة لم تحل بعد. وطوال سنوات الثورة والنضال تحملت مخيمات اللاجئين العبء الأساسي في صمود وديمومة الكفاح المسلح: فيها شرارة الثورة.. ومنها زادها البشري.. لها الغارات والمجازر.. ومنها الشهداء واليتامى والأسرى والأرامل والثكالى.. بدمها كتبت شهادة ميلاد فلسطين من جديد.. وبصورة شهدائها أعطت النضال الفلسطيني الزخم الثوري المتواصل. ومثلما كان دور مخيمات اللاجئين في الخارج أساسياً في صناعة الثورة وصمودها واستمرارها، كان دور مخيمات الداخل في قطاع غزةوالضفة الغربية مميزاً من حيث الأداء الكفاحي والعطاء والتضحيات طوال سنوات الاحتلال البغيض للأراضي المحتلة، وتوج هذا الكفاح والنضال بانطلاق الانتفاضة الشعبية المباركة في كانون الأول (ديسمبر) 1987م، وفي انتفاضة الأقصى في أيلول (سبتمبر) 2000م، وفي جميع الحالات كان حلم العودة هو الذي يحرك هذه الجموع ويحشدها ويوحد بينها، كذلك كان الأمر عند كل أبناء الوطن في كل مواطن الشتات. ومثلما حمل اللاجئون مشعل القضية في البدايات، فلهم أيضاً شرف صيانة راية النضال من السقوط على مدى عمر القضية، ومواصلة رفعها حتى النهايات. نذكر كل ما سبق للتذكير بقضية اللاجئين الذين يربو عددهم على ستة ملايين لاجئ بين الداخل، وعلى حدود الوطن (فلسطين)، وفي الشتات، ولا تبدو في الأفق بارقة أمل في عودتهم إلى وطنهم.. وطن الآباء والأجداد، في ظل مطالبة رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت الفلسطينيين بالتنازل عن حق العودة! إن حق العودة للاجئين يحظى باهتمام خاص من قبل الشعب الفلسطيني الذي يرى في تحقيقه منح مصداقية لاتفاق السلام الفلسطيني - الإسرائيلي، وكل الاتفاقات الموقعة معه؛ فالسلطة الفلسطينية ترى أن إرساء السلام وتثبيته على الأرض يستلزم بالضرورة إيجاد الأساس القانوني والسياسي لحل قضية اللاجئين وفقاً لبنود اتفاق السلام، وقرارات الأممالمتحدة المتوالية، واتفاقية جنيف الرابعة التي تنظم العلاقة بين الدولة المحتلة والمدنيين في ظل الاحتلال، وتطالب بعودة أي نازح عن أرضه تحت ضغط الاحتلال. وترى هذه السلطة أن عودة اللاجئين ستشكل سنداً فعلياً لاستقرار الأسس السكانية والاقتصادية والسياسية للسلطة في المستقبل، وتبرهن على جدية ومصداقية عملية السلام، وأنه في الوقت الذي تقوم فيه إسرائيل باستجلاب عشرات بل مئات الآلاف من المستوطنين اليهود من الخارج، ومنحهم حق الإقامة والاستيطان في الأراضي المحتلة بلا أي سند قانوني شرعي، فمن باب أولى عودة هؤلاء اللاجئين المتمتعين أصلاً بحق العودة من أصحاب البلاد الأصليين. أما بخصوص الجانب الإسرائيلي وهو الطرف المطلوب منه تسهيل عودة اللاجئين وحل مشكلتهم، فإن وجهة نظره حيال القضية تتمحور حول عدم وجود الظروف الملائمة لاستيعاب اللاجئين، مع إمكانية تهديد عودتهم للنظام العام والاستقرار، مع الادعاء بأن العودة ستقوض كيان إسرائيل، وتساهم في زيادة أعمال العنف، علاوة على تهديدها للوجود الديموغرافي للسكان وتطوره، وكذلك ادعاء الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أن اللاجئين الفلسطينيين قد اختاروا الحرب وخسروها..!! وتبدو وجهة النظر الإسرائيلية مردودة؛ لأنها متناقضة مع الأسانيد القانونية والمبدئية للشرعية الدولية وحقوق الإنسان واتفاقات السلام. والغريب أنه رغم الاتفاقات الفلسطينية - الإسرائيلية المتتالية منذ توقيع إعلان المبادئ المعروف باتفاق أوسلو وإلى الآن، إلا أن المؤسسة السياسية الإسرائيلية بمختلف اتجاهاتها السياسية تتجاهل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وضرورة إيجاد حل لها وكأن الأمر لا يعنيها! أما المجتمع الدولي فقد تعامل مع القضية الفلسطينية كمشكلة لاجئين بحاجة إلى مساعدة للاستمرار بالبقاء على قيد الحياة، وليس كأساس لمشكلة الشرق الأوسط، إلا أن اعتراف الأممالمتحدة بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، مؤكدة حق العودة غير القابل للتصرف، واعتبار أن أي حل لا يستند إلى هذا الحق مصيره الفشل، في القرار 3236 الصادر في 22 تشرين الثاني - نوفمبر 1974م، أعاد بعض المصداقية إلى هذه المنظمة؛ فلأول مرة أقر المجتمع الدولي مفهوماً خاصاً هو حق العودة غير القابل للتصرف للشعب الفلسطيني. وكان القرار 194 الذي أصدرته الأممالمتحدة في دورتها الثالثة في 11 كانون الأول - ديسمبر 1948م، والذي استند إلى تقرير الكونت برنادوت السويدي الوسيط الدولي في فلسطين الذي كان سبباً من أسباب اغتياله من قبل العصابات الصهيونية، نص على ما يلي: (تقرر أن اللاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم بسلام مع جيرانهم يجب أن يسمح لهم بذلك في أقرب وقت ممكن، وأن تدفع التعويضات عن الأملاك للذين يختارون عدم العودة، على أن تقوم بالتعويض عن الخسائر والأضرار بالملكية الحكومات والسلطة المسؤولة تبعاً للقانون الدولي). وأوصى القرار كذلك بإنشاء لجنة توفيق فلسطينية مهمتها تحقيق هذه العودة، وإيجاد نظام حكم دولي للقدس، إلا أن اللجنة فشلت في إعادة أي لاجئ فلسطيني؛ وذلك بسبب الرفض الإسرائيلي. والمضحك أنه عندما أعلنت الوكالة اليهودية قيام دولة إسرائيل، أعلنت التزاماتها بأنها ستكون وفية لمبادئ الأممالمتحدة. وبالرغم من هذا الإعلان، رأت الجمعية العامة أن ذلك لا يكفي بقبول إسرائيل كعضو في الأسرة الدولية؛ ولذلك فقد أجبرت إسرائيل على المثول أمام لجنة سياسية مؤقتة لاستيضاح موقفها من ثلاث قضايا قبل الموافقة على قبول انضمامها، وهي: - قبول إسرائيل قرار التقسيم (181). - تطبيق حق العودة للاجئين الفلسطينيين (194). - وضع القدس وجوارها كمنطقة دولية. وقد وافقت إسرائيل في البداية على تطبيق القرارين 194 و181 إضافة إلى توقيعها على بروتوكول لوزان الذي أخذت فيه على عاتقها إعادة اللاجئين واحترام حقوقهم وحفظ ممتلكاتهم وأراضيهم. وحين رفضت إسرائيل السماح للاجئين الفلسطينيين بالعودة وبتطبيق القرار 194 أصدر مجلس الأمن في 11 آب - أغسطس 1949م القرار رقم 37 الذي طالبها فيه بالتطبيق الفوري للقرار 194 واضطر مجلس الأمن مرة أخرى إلى إصدار قرار آخر يحمل الرقم 93 في 18 أيار - مايو 1951م مطالباً إسرائيل هذه المرة بإعادة اللاجئين الذين طردوا من المناطق التي كانت ستؤول للدولة العربية حسب خطة التقسيم. وكعادتها رفضت إسرائيل الانصياع لإرادة المجتمع الدولي، وبعد حرب 1967 أصدر مجلس الأمن قراره 237 في 14 حزيران - يونيو دعا فيه الحكومة الإسرائيلية إلى إعادة اللاجئين الذين لجأوا من المناطق التي جرت فيها عمليات عسكرية، لكن مصير القرار لم يكن أفضل مما سبقه..! وعاد مجلس الأمن وأكد في قراريه 242 و338 عامي 1967 و1973 على ضرورة حل مشكلة اللاجئين بشكل عادل. وفي عام 1975 تم تشكيل اللجنة التي تعنى بممارسة الشعب الفلسطيني حقوقه غير القابلة للتصرف، وذلك تحت إشراف الأممالمتحدة، ومن أولويات هذه اللجنة العمل على تطبيق حق العودة. وبعد توقيع اتفاق أوسلو (غزة - أريحا أولاً) تم تهميش موضوع حق العودة وتأجيله إلى مفاوضات المرحلة النهائية التي كان من المفترض أن تبدأ في مايو (أيار) 1999م. إن حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة ليس موضوعاً اقتصادياً بالنسبة للشعب الفلسطيني، كما يحلو للبعض تصويره، بل قضية تتعلق بحقهم في أرضهم، وبهويتهم الوطنية، وبمفهوم الدولة، وبترابطهم الاجتماعي؛ فالمشكلة سياسية في الدرجة الأولى، كان نتيجتها تحويلهم من شعب إلى لاجئين، بما تعنيه هذه الكلمة من فقر وعدم إحساس بالأمان، والنقص في الحقوق المدنية والاجتماعية والسياسية. إن الحديث عن انسحابات إسرائيلية من أجزاء واسعة من الضفة الغربية مقابل التنازل عن حق العودة، أو (القدس مقابل اللاجئين)، أو التعويض والتوطين لا يمكن أن تكون بدائل لحق العودة، وهي خيارات طرحتها إسرائيل لتكون وسيلة للتهرب من تنفيذ حق العودة، هذا الحق الذي يجب ألا يكون فلسطينياً فقط، بل هو مطلب عربي ودولي؛ لأن أية عملية سلام لا تأخذ بالحسبان تطبيق هذا الحق لن يكتب لها النجاح، ولأن العنوان الأساسي والصحيح للسلام هو حق عودة الشعب الفلسطيني إلى وطنه. وهكذا ينبغي علينا الاعتراف بأن تسوية (فلسطينية - إسرائيلية) لا تحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين من الأساس، وتقر بحق العودة، لا يمكن أن تكون حلاً فعلياً للصراع، وفي هذه الحال لن يكون نشوب موجة جديدة من الصراع والعنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين سوى مسألة وقت، وهو ما أكده استطلاع للرأي أجرته هيئة الاستعلامات الفلسطينية من أن 90.8% من اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة يرفضون التنازل عن حق العودة مقابل قيام الدولة الفلسطينية. إن قضية اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة لوطنهم من أهم القضايا التي يتمسك بها الشعب الفلسطيني، ولا يمكن أن يتنازل عنها أو يساوم عليها، رغم تجاهل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة الاعتراف بأنها جوهر القضية الفلسطينية والشرق الأوسط، وهي العنوان الأساسي والصحيح للسلام في الشرق الأوسط، وبدون عودة اللاجئين إلى أرض آبائهم وأجدادهم في فلسطين لن تحل القضية الفلسطينية، وستبقى قضية اللاجئين قنبلة موقوتة ستنفجر في أي لحظة في وجه إسرائيل والعالم، وسيحمل هذا السلام المتهالك معه بذور الحرب القادمة.