إن الأفكار التي تسهم في صناعة مستقبل أمة لا ينبغي أن تكتنز في أوعية محدودة من العقول حتى تضيق بها. بل ينبغي أن نشجع كل عنصر حيوي في الأمة على المشاركة في البناء من خلال رؤية شاملة للمستقبل، وإذا كنا نحث من لم يتعلم على التعلم.. فإنه من الواجب على كل صاحب علم ألا يكتمه وإلا فإن هذا الكتمان لا يقتصر على إلجام صاحبه بلجام من نار.. بل يتهدد المجتمع كله بسوار من الأخطار. وليس ثمة تحد نظري في مجال التسابق بين الأمم والمجتمعات المختلفة، ولا يثبت فيه ادعاء قول بلا عمل، وليس ثمة محاباة لمجرد الانتماء، بل إنه استيفاء للشروط الحضارية، يضمن النجاح بإذنه تعالى.. وقد جعل الله تعالى لمشيئته قوانين، فمن يتبعها في مجال تكتب له نتائجها وفي الافتتاحية المضيئة لهذا الدين نتأمل رحلتين أو مسيرتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الأولى: حين أسرى الله بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم ارتفع به في ملكوت السماوات متجاوزاً قوانين المكان والزمان التي يعرفها البشر.. فيها ذهابا وعودة فقد كان ذلك في مجال إبلاغ الرسالة. أما الثانية فقد تمثلت في رحلة الهجرة، فإن الله سبحانه وتعالى يدع الرسول يخطط ويدبر بينما يطارد.. فيلجأ للغار فيتخفى.. وهو مع صاحبه يواسيه.. (لا تحزن إن الله معنا). ولو شاء ربك لنقله من مكة للمدينة بمثل ما فعل سبحانه في رحلة الإسراء.. ولكنها دروس في مجال السعي في الأرض واتخاذ الأسباب لإعلاء كلمة الله في الأرض. وفي زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي غزوة شهيرة، ترك المسلمون موقعاً استراتيجياً، وذهبوا لجمع الغنائم، فما كان من عدوهم إلا أن انقض عليهم فنال منهم وبين صفوفهم رسول الله، وهو أعز خلق الله على الله، حتى جرح وسالت دماؤه، فكان درساً أي درس، فيمن يترك موقعا لا ينبغي أن يترك. يلفت ذلك نظرنا إلى (مواقع عصرية) لا ينبغي أن تترك في مجالات البحث والتعلم والتربية والإنتاج بمقاييس عصر دقيق متعجل متنافس. نبدأ.. وفي الذهن والإرادة أن ما لم يدرك كله لا يترك جله.. وبنية تدارك الكل إن لم يكن اليوم.. فغداً بينما يسيطر علينا أن كل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وفي مجال التربية وهو مجالنا، وما يمكن أن نؤديه، وهو ثمة مجال يبتكر فيه كل راشد في هذه الأمة جديداً في موقعه وبأدواته المتاحة؟ وقد يكون كل ذلك مؤدياً إلى محاولة الإجابة عن فن الممكن في التربية، ماذا يمكن أن أصنع في موقعي من جديد مبتكر في سبيل التربية؟ وأنتظر من هذا الطرح أن يثير الأرق في ضمائرنا، وأن يصدر ترقبا وحذرا يدفعنا لتأمل (حركة المستقبل) وهو يندفع إلينا بكل شدة وعنفوان الأمم التي قد فرغت من رسم مستقبلها على خريطة الدنيا لبضع عشرات من السنين المقبلات.. بل وتوشك أن تنتهي من تنفيذ ما يؤدي إلى جعل هذا المستقبل محتملا ممكنا. وأود لو اتجه تفكيرنا لرصد الأخطار المنتظرة خلال العشرين سنة المقبلة على ضوء التطورات العلمية الخاطفة وهي لمن امتلكها أداة الحكم الجبارة في الحاضر والمستقبل.. أما القابعون في مواقعهم فليس لهم من مواطن في السفينة العالمية -المبحرة للمستقبل- إلا القاع.. يجدفون.. أما التوجيه والتحكم والسيطرة والخيرات وشمس الله الساطعة فهي لشاغلي الدرجة الأولى. لقد ألقي اليوم على عاتق المخلصين واجب دقيق يقضي بأن نتابع أفراداً وجماعات وأجهزة التطورات العلمية المتسارعة التي تعمل عملها في وسائط الإعلام والتربية وأساليب توجيه العقل البشري بل وغسيله متى شاء المسيطرون. يمتد ذلك لغرس الرغائب وتسعير الغرائز الذي يتمثل في مستجدات كالسيول الداهمة، وتقنيات كطوفان عصري.. ونحن نرجو باستثارة قدرات الرصد والتحليل أن ننتقل من منطقة (ردود الفعل) إلى الفعل القادر المصدر للمستقبل دون وجل منه أو مفاجأة.. يؤدي لاضطراب نلج به متاهة مداخل الفروع لتغيب عنا ملامح الحل النابع من الأصل في خضم اللجج السوداء المصطنعة التي لا تبين فيها علامة ولا تظهر فيها منارات لشاطئ. أرتجي من وراء ذلك أن تأتي توجهاتنا التربوية سديدة راشدة لا تولي وجهها قبل المشرق أو المغرب. فهي التي تزود في النهاية أرواحنا وعقولنا بعدة الدفاع والوجود في زمن عصيب. كما أرتجي أن يكون لهذه التوجهات ما للقرار الاقتصادي الراشد من دقة وما للقرار العسكري من مرتكزات على استراتيجيات شاملة.. بحيث نتصرف في الأزمة التربوية برؤية توضح كافة مواردنا المتاحة للخروج من الأزمة، وتتمثل هذه الموارد أساسا في العودة لأصولنا العقدية الإسلامية عودة تتجاوز المناداة بالشعار إلى النهج الذي بنى به رواد هذه الحضارة الشامخة أنفسهم أولا بها.. فبنوا من بعد ذلك دولا عظمى حفظت لإنسانها علما رفيعا في الخارج كما تمتع في ظلال تلك الأعلام الكبرى بكرامته وأمنه ورخائه. كما أود أن أزيد الأمر إيضاحا في ثلاثة أمور ينبغي أن تركز عليها أي محاولة صادقة للخروج من الأزمة. وهي وإن كانت تشكل (بدهيات) إلا أنني أود أكثر وأكثر أن أجليها وأبرزها وأرفعها. إذ إنها مثل (أعلام الدول) تعرفها الملايين.. ومع ذلك فلا بد من الإعلان عنها ورفعها فنؤكد بذلك مكانتها سواء كانت هناك مناسبة خاصة لرفعها أو لم يكن. أمور ثلاثة أو (لاءات ثلاثة) بلا تراجع أو مراجعة أو التواء وهي: أولا: لا وجود ولا مستقبل لأمة بلا عقيدة تجمع عليها ثم تتجمع حولها اعتناقا وتمضي بها سلوكا لا يعرف الازدواجية. وهذا يقتضي منا تفهما منهجيا لعقيدتنا الإسلامية ينحي النمطية المميتة للقلوب في تعليمها، والتربية عليها حتى تمتلئ بها صدور بنيها، وتشرف بتفاصيلها في السلوك اليومي للفرد والمجتمع ومن قمته لأدناه دون تناقض بين معطيات الأجهزة من تربية وتعليم وإعلام وتجارة ومؤسسات حتى لا تهدم شمال المجتمع ما تبني يمينه ولا يجب الشارع ما يبنيه البيت والمدرسة. ولا مجال للاعتذار إذا انحرف السلوك بدعوى جهل العقيدة. إذ كيف يتصور أو يقبل أصلا أن يدعي أناس اعتناق عقيدة يجهلونها؟ ووجود الأمة واستمرار بقائها مع منافسة القوى الأخرى وتزاحمها مرهونان سلما أو حربا بتلك البدهية. فإذا حنطت العقيدة في توابيت وتحولت المكتبات لقبور ثم صارت وصايا تزخرف بها اللوحات في البيوت والمصانع والمدارس، فلا بد أن تمتلئ القلوب والعقول التي فرغت أو أفرغت منها بفعل فاعل بعقائد أخرى.. ومن هذا الموقع تتوالد كل المسميات التي نشكو منها والتي عقدنا وسنعقد لها مؤتمرات وندوات أخرى.. تحت مسميات: الغزو الثقافي- الاستعمار العقلي- الاستلاب- الانتماء الضائع -تبدد الدوافع العظمى لبناء الأمة أو حتى الدوافع الصغرى لإتقان الأعمال اليومية. إن القلب والعقل المشغولين بعقيدة اقتناعا وعاطفة لا يمكن أن يزاحما بعقيدة أخرى في الوقت نفسه. ولذا لا بد في المواجهة أن يصبح من هموم كل أسرة ومن واجبات كل راع لها أن يتولى عبء الدفاع عن عقيدته وتعليمها انطلاقا من هذا الموقع لكل موقع آخر في أنحاء الأمة كلها.. ثانياً: لا وجود ولا مستقبل لأمة بلا تاريخ تحبه وتعتز به أجيالها، محميا من انتقاءات المستشرقين ومن تبعهم في مناهجهم من التلاميذ والأتباع. إن لكل أمة تاريخا، ولا بد لكل أمة من معرفة تاريخها.. فإذا تعلمت أمة تاريخها من أعدائها أو من المتعاونين أو المتأثرين بتوجهات هؤلاء الأعداء فلا بد أن (يسقط) هذا التاريخ (ويشوه) و(ويغمز) و(يجرح) في عقول وقلوب أبنائها تمهيداً لإعجاب الأمة بتاريخ آخر.. ولقد بلغت هذه العداوة المعادية للمنهج العلمي والتي كشفتها الدراسات المتزنة إلى الحد الذي رأينا فيه أعلاما مرموقة من المؤرخين يتجاهلون المنهج العلمي ويسايرون أهواءهم إذا ما تناولوا التاريخ الإسلامي بالذات وبعيداً عن كل أصول علمية متعارف عليها. ثالثاً: لا وجود ولا مستقبل لأمة بلا لغة واحدة تفهم بها عقيدتها، وتزن بها تاريخها، وتتفاهم بها أجيالها، بعيداً عن استفحال الشتات الذي تشجع عليه الرطانة واللهجات المحلية. تركيزاً في القلب والمركز حيث نشأت اللغة وانطلقت العقيدة. إذ كيف نتصور بناء سليما للعقيدة في العقول والقلوب مع تدهور اللغة. وكيف ندرس تاريخنا ونعتز به ومناهج اللغة تؤدي إما لاغتراب الأجيال عنها أو كرههم لها النابع من قصور طرائق التدريس. لابد إذن من غرس محبة اللغة أولا واحترام معلميها والإبداع في مناهجها في مستوى التعليم في المدارس والجامعات، كما ينبغي إعلاء شأنها في الأجهزة التي تتولى تلقين وتعليم لسان الملايين من التي لا تعرف القراءة أو الكتابة وهم غالبية أهل أمتنا وهي أمانة في عنق أجهزة الإعلام صاحبة اليد العليا في هذا المجال الدقيق. ولابد لنا من استرداد الثقة بمستقبلها في مجالات التقنيات والعلوم والآداب.. ولا ننسى أن قوما بعثوا لغة اندثرت منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام فصارت لغة تدرس بها العلوم والذرة والتقنيات في جامعاتهم. وإذا كنا نعلم ما نعلم من ترابط اللغة مع قضية العقيدة والتاريخ في الثلاثية الأصولية لبناء الأمة.. فلا بد أن يتضح هدف تلامذة المستشرقين ومن تبعهم لتشجيع لهجات الشتات العامية وهو أمر مقصود ضمن استراتيجية ثابتة.. تلتحق بها دعوات مسخ كتابة لغتنا العظيمة بالحرف اللاتيني وبما يعقبها من تعاظم الهوة بيننا وبين كل تراثنا اللغوي والتاريخي والعلمي والفقهي، بل من الانقطاع والغربة عن كتاب الله (القرآن الكريم). كيف يكون الرد؟ لا بد من بداية جماعية خفاقة متحمسة داخل كل بيت وعى هذه القضية لتكون لغة الحديث والتفاهم اليومية المعتادة. ولا بد أن يتسرب هذا الحرص والحماس في التعامل في الشارع والسوق والحقل والمصنع بإصرار لا يعرف التردد والنكوص.. ولا بد أن تتبنى الهيئات والحكومات من خلال أجهزتها- ولا يستهان بها إن صدقت النوايا - بث الاحترام والتصحيح والاستخدام لأرفع أساليب التخاطب والمعاملة اليومية، وهذا يستدعي عاجلا- للإنقاذ اللغوي العام على مستوى جماهير أمتنا التي تجاوزت المائتي مليون يغلب عليهم كما قلنا أمية الحرف قراءة وكتابة- أن نحل مشكلة تعليم لغتنا وتثبيتها وإتقانها بالوسائط الإعلامية الجماعية المتفوقة في البث وحسن العرض. وذلك في غابة دولية تصطرع فيها اللغات على السيادة والانتشار مقدمة لما هو أجل وأخطر من غزو ثقافي واحتلال روحي واستسلام بكل ولكل ما تعطيه اللغات السيادية، هذا مع التنبه للخطر الماحق لنمو الرطانات واللهجات المحلية ولكل ما يدعو لتمجيدها والاعتزاز بها وإشاعتها. تلك لاءات ثلاثة.. ينبغي أن تسري مثل سريان الروح في جسد أمتنا وأن تمتزج بكل عقل مستقبلي مخلص منتم للأمة.. وبكل قلب رشيد شهيد لما يحاط ويراد بنا.. لاءات ثلاثة... نتشبث بها بكل الصدق والإصرار.. تمتزج بالعبادة.. وترتبط بنا وبمعطياتنا اليومية ارتباط الروح بالجسد.. حيث تعطي الروح حركة الأشواق والتطلع والتنفيذ التي بدونها يؤول الجسد في الأمة إلى العفن السريع.. * لاءات ثلاثة تمثل كل منها وكلها حركة الصعود من القاع للقمة. * وحركة الخروج من الهزائم للنصر. * وحركة الخروج من اليأس المستحكم للآمال الساطعة الأكيدة بإذنه تعالى. ويزيد الله الذين اهتدوا هداً، وهو يتولى الصالحين.