أعمال الملك عبدالعزيز يرحمه الله مدرسة فكرية مستقلة مبنية على شريعة الله والإخلاص لوطنه وأمته، هذا الخيار الذي أسسه فقيدنا يرحمه الله غالباً ما يكتب عنه من جانب واحد وهو الجانب الحربي لكن معطيات الملك عبدالعزيز يرحمه الله السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية يأتي التنويه عنها في سطور علماً أن هذه المعطيات تشكل مدرسة فكرية مستقلة لم نولها الكثير من الاهتمام والدراسة. ولعلنا في هذه العجالة نلقي بعض الضوء على التراث الفكري للملك عبدالعزيز المتمثل في كلماته وخطاباته وانتمائه لعروبته وأمته ومساندته الوحدة العربية ودعوته المخلصة والجادة بأن قوة المسلمين في تعاضدهم وتعاونهم وأن الأمة العربية تحمل مسؤوليات ذلك التضامن من منطلق ما شرفها الله تعالى به من حمل ونشر رسالة الإسلام حيث يقول رحمه الله: (أنا عربي وأحب قومي والتآلف بينهم وتوحيد كلمتهم وأبذل في سبيل مجهوداتي ولا أتأخر عن القيام بكل ما فيه مصلحة العرب وما يوحد شتاتهم ويجمع كلمتهم). ويقول أيضاً رحمه الله: (إن الذي يسر العرب يسرني والذي يؤلمهم يؤلمني ولكن مصيبة العرب في جميع بلدانهم وأقطارهم من أنفسهم ومن تخاذلهم والذي أتمناه أن يجمع الله كلمة العرب على الاتفاق فيما بينهم ليسلموا من شرور أنفسهم من الأذى). ونحو مؤتمر قمة عربي قبل أن يفكر العرب في ذلك يجيب الملك عبدالعزيز - يرحمه الله - على رسالة الوالي العثماني في البصرة الذي أرسل رسالته إليه عام 1330ه (1912م) يطلب فيها رأي الملك عبدالعزيز وما يراه (في أمور العرب وما اجتاح البلاد العربية من فتن وقلاقل) ليرد عليه بثاقب فكره النير وسعة أفقه وإدراكه العظيم لما يعنيه الوالي العثماني وما يرمي إليه، بعث إليه بالجواب الذي يهيج علة الوالي ويزيدها ألماً ويعرفه أن عبدالعزيز يعرف الكثير من خفايا الأمور بإذن الله ولقد ورد في الرسالة التي بعث بها الملك عبدالعزيز إلى الوالي (أما فيما يختص بالعرب فإليكم رأي فيه أني أرى أن تدعو رؤساء العرب كلهم كبيرهم وصغيرهم إلى مؤتمر يعقد في بلد لا سيادة ولا نفوذ فيه للدولة العثمانية لتكون لهم حرية المذاكرة والفرصة من هذا التعارف والتآلف... إلخ) (ورد هذا النص في كتاب شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبدالعزيز، المجلد الأول، صفحة 198). ولعلها كانت أول مرة في التاريخ العربي الحديث أن يدعو زعيم عربي إلى (مؤتمر قمة) بالمعنى الذي عرفناه بعد ذلك بسنين طويلة مما يعتبر مؤشراً عما كان عبدالعزيز يتمتع به من مواهب خارقة وفكر نير وثاقب رؤية بعيدة. ومما شغل فكر الملك عبدالعزيز وحدة الصف العربي الذي كان الاستعمار يخيم عليه وكان يحرص على الربط الوثيق بين التضامن العربي والتضامن الإسلامي باعتبارهما يكملان بعضهما بعضاً مشيراً دائماً إلى التمسك بدين الله واتباع شريعته، والأخذ بسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الصدد قال في خطابه في حفله السنوي سنة 1362ه (1943م) ما يلي: (... والاتحاد العربي أو الاتفاق العربي الذي يتكلم فيه الناس هو روح طيبة وعمل طيب وأقل مراتبه أن يجمع الكلمة ولا بد أن إخواننا الذين تكلموا معي عرفوا ما قلت من أنه يجب علينا نحن المسلمين أن نتخذ لنا جامعة من عقلائنا الذين ليست لهم مطامع حتى تلتئم الأحوال وهذا هو رأيي من الأول وبيناه في الاجتماع الأخير وإذا نحن أرجعنا الأمر إلى بابه فيجب أن نتمسك بما كان عليه السلف الصالح). وهكذا نرى أن وحدة الصف العربي كانت مما شغل عبدالعزيز طوال حياته ليقينه أن هذه الوحدة إذا تمسكت بشرع الله فسبيلها القوة والانتصار على أعدائهم، وأن ذلك الوقت كان هناك فكرتان فكرة بإنشاء الهلال الخصيب وأخرى بإنشاء الجامعة العربية. وكانت سياسة الملك عبدالعزيز واضحة ومتزنة وموجهة لصالح الأمة العربية ونظراً للاختلاف بين الدول المعنية بالهلال الخصيب واقتراح الجامعة العربية فكان الملك عبدالعزيز من المؤيدين لها وذلك عام 1945م. وبذلك تكونت الجامعة العربية من ست دول هي: 1- المملكة العربية السعودية 2- مصر 3- سوريا 4- شرقي الأردن 5- لبنان 6- اليمن وكان أمينها العام الأستاذ عبدالرحمن عزام باشا. هذه الملحمة الموجزة عن فكر الملك عبدالعزيز في السياسة الخارجية يعطينا مثلاً رائعاً لسياسته المحنكة والمبنية على خبرة عظيمة والمتمثلة في اتساع رؤيته ووضوح فكره المبني على كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.