إن (الإفتاء) شأن مهم، ووظيفة شريفة يكفي فيها أن الله عز وجل تولى بذاته العلية أمر الإفتاء في عدد من المسائل يقول الله سبحانه:{قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ}، وقال جل وعلا: {قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}، وهي مهمة قام بها الأنبياء، وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم وتولاها من بعده الخلفاء الراشدون والصحابة الكرام، فأهميتها في الإسلام واضحة لكل المسلمين الممارسين منهم للشأن الشرعي أو مطلعين عليه أو غيرهم؛ لأن الدين الإسلامي ينظم ويهيمن على شؤون الحياة كلها فيحتاج الناس إلى معرفة حكم الله ورسوله أو مقاربة ذلك في كثير من المسائل الدقيقة والجليلة، وقد كشفت الدراسات الإعلامية أن برامج الفتوى هي أكثر البرامج قبولاً وإقبالاً. وجدير بالملاحظة أن (الفتوى) الشرعية المعاصرة مع هذا القدر من الأهمية والتأثير إلا أنها لا تنفرد بقيادة الأمة المسلمة؛ لأن (الفتوى) ليست كل الشريعة الإسلامية، بل هي أحد تجلياتها ومظاهرها، وليست السبيل الوحيد لذلك، فالتطبيق الشرعي قد يكون متنوعاً جداً تقوم به أطراف عديدة، ولذلك أقول: إن التي ينبغي أن تقود الأمة هي الشريعة بكل سعتها وتجلياتها، وهذا أمر فهمه في غاية الأهمية؛ لكيلا نضيق واسع الشريعة، وحتى لا نتهم أحداً أو نبالغ في تقدير الأمور. والفتوى مهما كان اعتبارها ومصدرها ليست ملزمة ما دامت ليست نصاً شرعياً من كتاب الله أو سنة رسوله، فهي فهم بشري محض, والناس لهم قناعاتهم الذاتية في المفتين، وتتفاوت درجة الثقة بين مفت وآخر، والمفتي المسؤول قد يجتهد في مسألة فيقول برأيه ولا يتعصب لهذا القول، فيأتي من بعده التلاميذ فيأخذون هذه الفتوى ويوسعونها ويعممونها ويبالغون فيها حتى تصبح هذه الفتوى ديناً يحاكم الناس إليه وتصير معقد الولاء والبراء، والحب والبغض، والصداقة والعداء، ولا شك أن ذلك خلل في التربية العلمية والفقهية، يقول ابن عباس -كما في المسند-: (أراهم سيهلكون، أقول لهم قال رسول الله ويقولون: قال أبو بكر وعمر)، هذا.. وأبو بكر وعمر هما من قال عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا)، فما بالك بغيرهما وبمن بعدهم من الأئمة والعلماء والفقهاء والمفتين. إن البعض قد يحملون المفتي ما لا يطيق فيظنون أن إشارة من المفتي قد تقلب وجه الحياة أو تغير مجرى الأحداث، بيد أن المفتي سواءً كان فرداً أو دائرة هو جزء من المؤسسة الشرعية العامة للبلد الإسلامي كله، وهو واحد ضمن الكثير من المؤثرات الشرعية والعلمية، والمؤسسة الشرعية بدورها جزء من المجتمع، ومن النظام العام للبلد، والنظام العام كله -أيضاً- يعاني صوراً من الضعف والتراجع وقلة الحيلة، ومن غير الطبيعي أن مجتمعاً كل دوائره السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تعاني من الترهل والضعف والوهن ثم نستثني المؤسسة الدينية منها ونعتبرها متكاملة في كل جوانبها وأجزائها، إن هذا مغالطة للواقع، وتوهم بعيد. إن على المفتي المعاصر أن يعرف النصوص الشرعية ويدرسها وإلى جانب هذا عليه أن يعرف أحوال الواقع وفقهه - كما نص على ذلك أحمد ونقله ابن القيم وغيره-، وأن يكون متصوراً للحال المعاصرة، فاقهاً لشؤون العامة حتى يصدر أحكامه بوعي وبصيرة، ولذلك أرى أن من الضروري أن يكون هناك إعدادٌ كامل وتأهيل شامل للمفتين بحيث ينالون نصيباً كافياً من الثقافة العامة والحالة المعاصرة، والواقع الإسلامي والعالمي العام التي يحسنها الكثير من الناس الذين تلقوا قدراً من المعرفة والاطلاع لتكون فتواه ملائمة للواقع، ومعززة بالأدلة، إضافة إلى الصفات العامة كالتقوى وخوف الله الذي يحجب عن الخوض في وحل القول على الله بغير علم أو الفتوى بالهوى والتشهي. إن الفتوى الإسلامية المعاصرة تحتاج إلى عنصر الاستقلالية عن السلطة السياسية والثقافية والاجتماعية، وإن الذي أتمناه وأحس بضرورته الواقعية والحضارية هو وجود جمهرة من المفتين سواءً كانوا أفراداً أو مجموعات تتخفّف من الضغط بكل أشكاله؛ ضغط السلطة السياسية، وضغط السلطة الاجتماعية، وتتحرر من التبعية للسلطة الحزبية أو الحركية في الجماعات الإسلامية، وهذه المطالبة هي دعوة واقعية لترفّع المفتي بحيث يستفيد منه الناس جميعاً بكل أطيافهم، وليكون سبباً في حفظ توازن الأمة وعدم انشقاقها أو تباعدها،في خطاب شرعي محترم ومعتبر، يتحقق به الاستقرار للبلد الإسلامي والحالة الإسلامية المعاصرة. المفتي الذي يقوم بواجبه هو الذي يرد الخطأ ويعدّله كائناً ما كان مصدره، ولا يرتب على ذلك اتهاماً لقائله أو إطاحة به. وإن اختلاف الفتاوى سنة طبيعية لحفظ التوازن وللتوسعة على الأمة ومراعاة حاجاتها، وطبائع المفتين تختلف بين اللين والشدة كما أن بيئاتهم وخلفياتهم المعرفية وظروفهم وأعرافهم وتقاليدهم تتفاوت، وهناك لون من المفتين اعتاد على مكانه وإقليمه فأصبحت فتواه إقليمية لأهله وأصحابه الذين قد يكونون مختلفين عن سائر العالم الإسلامي؛ لأن كل بلد له وضع مختلف من الجو والثقافة والتربية، كما تتباين البلاد المسلمة من حيث قربها من المحافظة أو بعدها، وطبيعي أن تختلف هذه الفتاوى - أيضا ً- بسبب المذاهب الفقهية فحتى هذه المذاهب نشأت في عواصم إسلامية مختلفة من أهل العراق وأهل الشام وأهل الحجاز بين أهل الحديث وأهل الرأي، وكل ذلك تراث زاخر يفتح باباً رحيباً لتقديم الفتوى المعاصرة بشكل يتحدث بلغة عالمية تليق بهذا الاتصال السريع الذي ينقل كل شيء دون مشورة أو إذن. فعلى المفتي في القنوات الفضائية والوسائل الإعلامية أن يخاطب العالم الإسلامي، بل العالم كله عبر فتواه وليس يخاطب إقليمه أو بلدته فإن ذلك بخس للناس وللمفتي، وبلاء عظيم، فعليه أن يدافع ذلك بالاستشارة ولزوم الحلم والأناة والتريث. وإن بعض المهتمين يظن أن الحياد والموضوعية والعقلانية صفات خاصة للباحث العام أو غيره، لكني أظن أنه ضرورية للمفتي لنعطي الفتوى المعاصرة حقها من العناية والرعاية والوجود، ولنؤدي دورها كما يراد لها، فبعض المفتين تكون فتواه أشبه بالنتيجة الطبيعية لمقدمة يعرضها المستفتي ويسميها سؤالا !، فدور المفتي -هنا- هو ملء هذا الفراغ والتوقيع على ذلك ليس إلا، أما الإكثار حول أمر من الأمور وإلحاح السؤال عنه فهو سمة ملازمة لبعض المستفتين مع صراحة النهي عن ذلك في القرآن الكريم حتى لا يقع الناس في التشدد والتكلف والتنطع , يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} (101) سورة المائدة، يقول أنس: (نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء) رواه مسلم، وفي الحديث المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال وكثرة السؤال. رواه البخاري ومسلم، فأحد معاني كثرة السؤال أن يطرد الإنسان وراء التفاصيل، وتفاصيل التفاصيل، ويسأل عن كل شيء، وقد تجد البعض عندهم دفاتر يسألون فيها عن كل ما عنَّ بخواطرهم، ويصل الأمر إلى التنطع؛ ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا توجد قنوات فضائية ولا إنترنت ولا جوال ولا تليفون ولا بريد ولا اتصالات، كان المسلمون يؤمنون بالإسلام، ويذهبون إلى قبائلهم، ثم يأتون بين الفينة والأخرى يسألون عن بعض القضايا أسئلة محددة، بينما أسئلة الناس اليوم تعد بالملايين فهل فُتِنَ الناس بكثرة السؤال حتى أصبحوا يلقون على الفقيه كل شيء؟ الإنسان عنده عقل يستطيع أن يرجع إليه في بعض المسائل، وقد يكون عقلك مثل عقل الفقيه، أو دونه بيسير، أو أفضل منه بيسير، وبعض هذه الأشياء قد تفهم بدون حاجة إلى سؤال أيضاً. فعند الإنسان مبادئ الشريعة والمعلومات العامة التي يستطيع أن ينتفع بها. أيضاً يستطيع أن يسأل من هو قريب منه، ممن فيه التقوى والدين والعلم، أما التقعر والتنطع فمذموم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّمَا شِفَاءُ العِيِّ السُّؤالُ). أخرجه أبو داود، لكن الإفراط في الأسئلة مما نهى عنه الشرع. فالسؤال يناقض مقصداً رئيساً وهو: التوسعة والتيسير، وهذا ما تفتقده بعض الفتاوى المعاصرة للأسف التي تلجأ إلى قواعد مدرسية مهزوزة، وتترك أصول الدين ومحكماته في الحث على التيسير والتبشير، فهي تأخذ بالأحوط، وهذا النزوع نحو الاحتياط هو دليل عدم العلم؛ لأنه مجرد ملجأ للهروب من الفتوى الواضحة، تقول عائشة رضي الله عنها: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما) رواه البخاري. إن الناظر في واقع الاستفتاء المعاصر يلحظ نوعاً من الفتاوى العامة التي لا تقيم وزناً لحقوق الناس وكراماتهم ودمائهم، فمن الناس من يتورع عن الفتوى الخاصة التي تتعلق بفرد وشخص حول أمر ديني أو دنيوي، ثم هو يتقحم الفتاوى العامة ويتجرأ عليها، وقد ينتقد العلماء والمفتين والفقهاء أيضاً في مثل هذه الأمور الكبار التي ترتبط بها مصالح أمة وشعب ودولة، دون أن يكون لديه التصور الكامل لهذه المسائل وملابساتها. فالفتوى العامة تعتمد على معرفة المصلحة والمفسدة وفقه الموازنات ومراعاة الأولى والأصلح، وحفظ حقوق الناس وكراماتهم ودمائهم وحرياتهم، وهذا لا يحصل لكل أحد، بل يتطلب قدراً عالياً من المعرفة والاطلاع على الأحوال، وعقلاً واسعاً يقترب من الصواب، إني حينها أتذكر مقولة ابن عمر الشهيرة رضي الله عنه حين سأله أحدهم وهو محرم عن دم البعوض، فقال: ممن أنت؟ فقال: من أهل العراق. قال: ما أجرأكم على الكبيرة، وأسألكم عن الصغيرة، تقتلون الحسين وتسألون عن دم البعوضة؟!