الشاب ناصر، الممتلئ نشاطاً وحيوية، يشق طريقه بثقة وثبات، تخصص بدراسة الحاسب الآلي وأبدى تفوقاً ملحوظاً، لما يتمتع به من ذكاء وسرعة بديهة. وكان يتصف بقوة جسدية هائلة، فهو عندما يسلم على الناس بيده يمتعضون ويتألمون، وحين يداعب الصغار يبكون ويصرخون، بل حتى البهائم تشكو من قوة قبضته! ولم يبال بهذا الأمر فهو يعزو ذلك للرخاوة والهزال الذي أصاب الناس بسبب سوء التغذية وطول السهر. بينما أسرَّ له والده حديثاً ونصحه بإرخاء قبضته، حيث لاحظ أن الأدوات التي يمسكها تتعرض غالباً للتلف!! أدرك ناصر قوته الجسدية الهائلة فانطوى على نفسه حين شعر بخطورته على من حوله!! وقد أحدث هذا الانطواء في نفسه انكساراً ظاهراً بينما تضاعفت لديه القوة الجسدية مع فرط ذكاء وثقة بالنفس كامنة!! وكان يمكنه توجيه هذه النعمة لأمور نافعة، كأن يتجه للرياضة فيكون لها دور في تهيئته ليصبح رياضياً بارعاً في أحد مجالات الرياضة التي تتطلب كمال الأجسام!! في أحد الأيام، أوقف أحمد سيارته للتزود بالوقود، إلا أن عامل المحطة تجاهله وصار يخدم بقية السيارات، ولما طلب منه سرعة إنجاز العمل شتمه العامل وقذفة بقطعة قماش كانت بيده وفتح باب السيارة وانهال عليه بالضرب دون سبب مقنع!! حينها ثار الشاب ثورة عارمة وأمسك بيد العامل ودفعه عنه بقوة فسقط على الأرض وكان سقوطه هو النهاية حيث خرَّ العامل صريعاً.. انهار ناصر وحمل العامل بين يديه ووضعه على كتفه وجرى به في الشارع وتوجه نحو المستشفى حيث أبلغه الأطباء بوفاة الرجل! بكى كالأطفال، ولكن بشجاعة ومروءة الرجال توجه نحو الشرطة وسلّم نفسه مطمئناً حيث أودع السجن، وكلمات والده الحنون تجلجل في مخيلته: (يا بني وهبك ربك قوة جسدية فلا توجهها إلا للخير). أيُّ خير وقد مات الرجل؟! أيُّ خير وأنا أقبع في هذا السجن الكئيب؟! أي خير وأنا الذي استعجل السنوات لأنهي دراستي وأعمل واختصر الزمن لأجل مستقبلي ونهضة بلدي وازدهاره؟! أيُّ خير في هذه القوة الجسدية الهائلة؟!! فلقد حاول أن ينطوي على نفسه ويترك الناس ليتركوه ولكنها إرادة الله ولا راد لقضائه. بكى بحسرة وألم، إلا أن القنوط واليأس لم يتسربا إلى نفسه! فهو يعلم أن الله الذي وهبه هذه النعمة لن يتركه، فتوجه لخالقه بكل القوة الجسدية التي يملكها، وبكل الإيمان الذي يسكن جوانحه فيضيء ظلام السجن، حيث أقام ليلة صلاة ودعاء، طالباً عفو ربه عن هذا العمل السيئ بقتل نفس بريئة! وقضى نهاره صياماً ليُضعف جسداً أبى إلا أن يهزم النفس! وجاهد نفساً يملؤها الفخر والاعتزاز حتى الكبرياء لتميزها بالتفوق والذكاء والشهامة والمروءة حتى لا يكاد ينافسه أحدٌ بها!! وخلال وجوده بالسجن أدرك أن القوة الفكرية بإمكانها السيطرة على القوة الجسدية باعتبار أن تغلب الجسد على الروح سببه ضعف فكري!! فكان لابد من إرواء الفكر بالقراءة والاطلاع والتفكر والتأمل والاسترخاء!! طلب زيارة مكتبة السجن فالتهم كتبها قراءة وفهماً، ودرساً وبحثاً بل تفكراً وتحصيلاً، وأثبت أنه شخصٌ مثالي في تعامله مع من حوله في السجن، وشرع بحفظ القرآن الكريم وفتح الله عليه ملكة الحفظ فأنهى حفظ عشرين جزءاً، فصار إمام مسجد السجن. وكان للنادي الرياضي دور في حياته، فتوجه للألعاب الخفيفة وأجاد لعبة تنس الطاولة، فكان يتعامل مع تلك الكرة الصغيرة برفق وحنو حتى كأنها إحدى عينيه، أو قلبه يتدحرج على الطاولة الملساء!! رأى، فيما رأى، أن الفكر أصبح يتغلب على الجسد، فصار حين يخلو بنفسه يحاول مسك الأشياء من حوله كطفل متوجس خيفة، فيجد أنها لا تزال تحتفظ بشكلها فلا تتكسر، تماماً كما يحتفظ هو بتوازنه وثباته ورقته وحنانه!! كما وعى، فيما وعى، أن السجن ليس قضباناً، بل هو مربٍّ للنفس والجسد والفكر والمشاعر. وإن كان قد دخل السجن تحت مسمى (قاتل) فهو حتماً ليس (مجرماً) لأنه قطعاً لم يتعمد قتل الرجل بقدر ما كان يدافع عن نفسه! وكان يتساءل دائماً: ترى ما الذي دفع العامل لاختياري أنا واستفزازي أنا دون البشر؟! بعدها أدرك، فيما أدرك، أنها حكمة الله تعالى أن يدخل السجن ويروض نفسه على الصبر واللين حيث كان عجولاً كاستعجال (موسى) عليه السلام، قوياً بجسده كقوة (موسى) فكان لابد من تربيته على التأني والرفق والصبر! ها أنت في السجن تقضي العقوبة التي قد تتحول إلى القتل إن طلب ذوو القتيل القصاص وهو حقهم.. فماذا أنت فاعل؟! لم يتذمر قط من وجوده في السجن حين فهم الحكمة الإلهية من هذه الخطة الربانية المحكمة، حيث استفاد من وقت فراغه بالقيام بأمور كان يمنعه الاستعجال من الإتيان بها. فأصبح يتأنى بالصلاة ويكثر الصيام ويصبر عليه ويطيل التأمل ويسبح في فضاء الكون حيث يتقلب أنى شاء في شتى الفنون والآداب. ابتسم وهو يحدث نفسه: حفظت ثلثي القرآن، من يصدق هذا؟ وقرأت بعضاً من شعر الحكمة والغزل، وتعلمتُ كيف أناقش وأحاور. ورفع أكمامه برفق عن عضديه ونظر إليهما وحرك حاجبيه وتنهد ليقول: وهزمت عضلاتي بفكري!! لماذا لم يقل لي أبي أهزم عضلاتك بفكرك؟! هل لابد أن أخرج من السجن الكبير لأدخل السجن الصغير لأعي هذا الأمر؟! هل هذا هو السجن، أم أنها الحرية؟! قطع عليه حارس السجن حواره مع نفسه ليبلغه أن لديه زيارة استثنائية لهذا اليوم!! أسدل أكمامه على ساعديه وتوجه لغرفة الزيارة حيث كان هناك رجل كهل يتكلم العربية بصعوبة، سلم عليه وأجلسه بجواره ثم قال له: يا بني.. إن ابني الذي مات وأنت تقضي العقوبة بسبب قتله كان مريضاً بالقلب، وقد أثبت تشريح جثته أن وفاته بسبب هذا المرض، ونحن مسلمون نرفض الظلم، وقد تنازلنا عن حقوقنا.. عندئذٍ أدرك ناصر حكمة وجوده خلف قضبان الحرية!!. ص.ب: 260564 الرياض: 11342