العملية التعليمية والتربوية يتحدث عنها بعض المختصين من خلال ثلاثة محاور: الطالب والمعلم والمنهج - ولا يشك أحد في أهمية تلك المحاور فعليها يعتمد التعليم - وثمّ هناك محور آخر له دوره المهم والفعّال، ويعتبر ركيزة وأساسا في العملية التعليمية والتربوية، ولا ينبغي إغفاله ألا وهو (البيئة المدرسية). فالاهتمام بالبيئة المدرسية مطلب ضروري للعطاء والتفاعل الإيجابي بين المعلم والمتعلم داخل المدرسة، فالطالب يقضي وقتا طويلا داخل محيط المدرسة وهذا ما يدعو إلى ضرورة الاهتمام بالبيئة المدرسية، لأن الإنسان مفطور بطبعه على حب المكان الذي يمكث فيه فترة طويلة، فيتعلّق به، وينعكس أثره على شخصيته، خاصة إذا وجد فيه مقوّمات الراحة والجذب، فأهل البيئة الباردة تختلف شخصياتهم عن أهل البيئة الحارة، وسكان الجبال يختلفون عن سكان السواحل، وهذا الشاعر المعروف (علي بن الجهم) اختلف شعره لما تغيّرت بيئته، فعندما كان يعيش في البادية والصحراء وصف الخليفة (المتوكل) بخير ما يراه فقال: أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب وعندما تحضّر وسكن بغداد وأقام بجوار نهرها وجسرها - بأمر من الخليفة - قال قصيدته المشهورة: عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري والشاهد من ذلك أن البيئة تؤثر على الشخصية سلبا أو إيجابا، ومن هذا المنطلق كانت البيئة المدرسية لها دورها الفعّال في التأثير على شخصية الطالب وتحصيله العلمي، فمتى زاد حب الطالب وانتماؤه للمدرسة قوي تحصيله العلمي، واستفاد من برامجها التربوية، والعكس صحيح فمتى قلّ انتماء الطالب للمدرسة صعب عليه التكيف مع برامجها وضعفت استفادته العلمية والتربوية، وكان كثير الغياب والتذمّر، وإظهار كراهيتها، وهذا ما نلمسه من بعض طلابنا هذه الأيام. لذا كان الهدف من الاهتمام بالبيئة المدرسية هو السعي لتقوية انتماء الطالب بالمدرسة، والوصول إلى حبّه لها، وإيجاد الجو المناسب لشعوره بالأمن النفسي والاجتماعي، كي يتمكن من تفريغ طاقاته الكامنة، ويتفاعل مع الأنشطة المدرسية الصفّية واللاصفّية ويشارك فيها، ويستفيد من البرامج التربوية ويزداد تحصيله العلمي والمعرفي، فالواقع يؤيد هذا الكلام فكم من طالب تغيرت نفسيته وحالته عندما تغيرت بيئته المدرسية، وكم من طالب تردى وضعه عندما تغيرت بيئته المدرسية، لذلك من الخطأ حصر مفهوم البيئة المدرسية على المباني وملحقاتها فقط، بل هي أشمل من ذلك، فالاهتمام بالبيئة المدرسية يشتمل على عدة أمور: 1. الاهتمام بالمباني المدرسية وكل ما يتعلق بها من توفير المرافق مثل الساحات لمزاولة الأنشطة، والحدائق، والصالات الرياضية، وأماكن الترفيه، والمعامل المجهزة بأحدث الوسائل المرئية والمسموعة، ومصادر التعلّم، ودورات المياه ونظافتها وصيانتها المستمرة، وغرف الدراسة وإضاءتها وتهويتها بشكل جيد، والسعي الجاد لتقليل أعداد الطلاب داخل الصفوف، فمن الظلم وجود (40) طالبا في فصل واحد، حيث ثبت أن زيادة عدد الطلاب داخل الفصول من الأسباب الرئيسية في تدني مستوى الطلاب من الناحية العلمية والتربوية، وحدوث المشكلات الصفية، وسوء إدارة المعلم للصف، ومثل هذه الأمور لا تتوفر في المباني المستأجرة، الأمر الذي يتطلب من وزارة التربية والتعليم الاهتمام بزيادة الجهد والسرعة في تنفيذ خطتها للقضاء على المدارس المستأجرة، وتحسين القائم من المباني الحكومية بما يلائم المفهوم الشامل للبيئة المدرسية. 2. تكثيف البرامج التربوية والأنشطة اللاصفية، ووضع الخطط لها، وتفريغ الكوادر البشرية المؤهلة لمتابعتها، وتفعيلها، مع الإبداع والتجديد حتى يتم تشويق الطالب لها. 3. الاهتمام بالأساليب التربوية والعلاقات الإنسانية في التعامل مع الطلاب من قبل المعلمين، والإداريين، وفتح المجال لهم للتعبير عن آرائهم ومشاعرهم وتقبّلها واحترامها، والابتعاد عن أساليب العنف والتهديد، والاهتمام بحفظ النظام، ومتابعة الطلاب فيما بينهم لحفظ حقوقهم وإعطاء كل ذي حق حقه. 4. الاهتمام بالنّواحي الصحية، ورعايتها، وتكثيف زيارات الأطباء للمدارس، وفتح عيادات طبية في المجمّعات والمدارس المكتظة بالطلاب، وتحسين وضع الوحدات الصحية وزيادة أعدادها وإمكاناتها. 5. الاهتمام بالنّواحي النفسية حيث لوحظ في الآونة الأخيرة ظهور بعض الأمراض النفسية في صفوف الطلاب (كالقلق، والاكتئاب، والهم، والتوحد، وغيرها) والتي تحتاج إلى مختصّين نفسيين لعلاجها، ممّا يتطلب وجودهم في المدارس، أو على أقل تقدير في كل مركز إشرافي، مع زيادة عدد المرشدين الطلابيين داخل المدارس. إن الاهتمام بالبيئة المدرسية حسب هذا المفهوم الشامل هو الحل الأمثل لشعور الطالب بالراحة والانتماء للمدرسة، وعلى ضوء ذلك فالمسؤولية جسيمة على كل ٍ من: وزارة التربية والتعليم وإداراتها التعليمية لتوفير متطلبات البيئة المدرسية بمفهومها الشامل حسب خطط مدروسة، وبتقنيات عصرية، وبدعم متواصل، وعلى مدير المدرسة ذلك الجندي المجهول الذي يعمل بصمت في مجتمعنا. إدارة التربية والتعليم [email protected]