هل نحن تقدمنا وتطورنا في وطننا (المملكة العربية السعودية) الغالية؟ هل أصبحنا مجتمعاً ووطناً عصرياً - بغض النظر عن بعض السلبيات المصاحبة للتطور السريع والعصرية المفاجئة بمقاييس الزمن؟! أعلم علم اليقين أن الإجابة لا تحتاج أصلاً إلى التدليل ولا التعليل، وأعلم كذلك بأن الإجابة أعداد لا تنتهي من (النَعَمات) إن جاز جمع نعم على نعمات. أما هذه المقالة الصغيرة جداً جداً فهي جزءٌ ضئيلٌ من الإجابة الكبيرة جداً جداً هي إجابة صادقة واقعية بعيدة عن المبالغة والتهويل. سأستعرض نزراً يسيراً من المستجدات التي لا تُحصى في مسقط رأسي، مدينة شقراء، مع ملاحظة أن هذه المدينة المتواضعة لم تأخذ نصيبها الملائم لها كمدينة تأريخية عريقة ذلك - والله أعلم - لتفرق أهلها، وهذا الاستعراض ليس لكل أوجه التطور في هذه المدينة بل هو لما أراه في طريقي من بيتي إلى مقر عملي (إدارة التربية والتعليم بمحافظة شقراء) فقط، وهذا الطريق لا يتجاوز الكيلين (2 كم). * من غرفة نومي إلى غرفة مكتبي كله مبلّط ومزفّت!! وهذه حقيقة مدهشة، وأمر يستحق الوقوف والتأمل، ولو أنه عند الكثيرين اليوم أمر معتاد ذلك أنهم ولدوا وهو صائر. أما من عمره فوق الأربعين فالأمر عنده مختلف تماماً. فقد كنت أعرف هذه الأرض التي يمر بها طريقي إلى عملي وبها بيتي الآن وهي أرض صحراوية وعرة خالية تماماً من أي مظهر للعمران صفراء حيفانة = أي ذات حيوف والحيوف أحجار في حجم كف اليد وأكبر وأصغر منزرعة في الأرض ولها حدود مرهفة كالفؤوس تفلح أقدام الإنسان والدواب. * ها أنذا أخرج من منزلي الذي لم يعد طينياً ضيقاً كدارنا القديمة فأركب سيارتي الفارهة (وهي فارهة في نظري وبمقاييسي على الأقل) نوعها (داتسون غمارتين ديزل طراز 2003م) صنعت في اليابان وشحنت إلى الوطن العزيز مهد العروبة ووصلتني في بلدي سليمة معافاة وما كنت قبل سنيات مضت أحلم بقيادتها فضلاً عن امتلاكها نعم كيف أتصور ذلك أو أصبو إليه وأبي -رحمه الله- لم يمتلك حتى الحمار؟! وقد قال لي صديق إن معنى (داتسون) شعاع الشمس والعهدة على الراوي. وبذلك تذكرت اسم الجد الجاهلي التميمي (عبّ الشمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم) فمعنى اسمه ضوء الشمس. وهو الذي عشق الهيجمانة بنت العنبر بن عمرو بن تميم. وإليه ينسب العبشميون. شغلت سيارتي ولبثت برهة تسخن محركاتها، فخرج ابن جيراننا وفي يده مدلاّة مفاتيح فضغط على زر فيها فأومضت أنوار سيارته وتضاحكت وكأنها تلقي عليه تحية الصباح وسيارته، ما شاء الله تبارك الله، صغيرة جميلة وهي حفيدة مدللة لسيارتي فهي جدة لها جدة وقورة هادئة لا تسرف في استهلاك الطاقة، وكأنها من كبار السن الذين يقدرون النعمة حق قدرها فهم قد أدركوا طرفاً من الجوع وشح المال والحال. * دخلت الشارع العام فتجاوزت سيارة للبلدية تمشي الهوينى كما يمشي الوجل الوحل تجر خلفها مكنسة آلية كبيرة في أسفلها فرش رحوية تدور بسرعة فتكشط القمامة والأتربة وتشفطها وتلقي بها في صندوق السيارة التي تجرها دون أن تتنحنح أو تسعل أو تشرق. وعمال البلدية مستريحون في أريكة السيارة الأمامية يحملقون في المارة. تعجبت من هذا التطور السريع الذي تحقق في وطننا المحروس بإذن الله، ومن هذه النعم والبركات التي حلت علينا من الله خير الرازقين؛ حتى عمال البلدية في مملكتنا المباركة استراحوا من عناء الكنس. * ثم أوقفتنا الإشارة برتقالية فحمراء، انصعنا جميعاً لأمرها ما أفضل النظام، كثير من الناس ولله الحمد تعودوا الانضباط وعرفوا أن مصلحتهم ومصلحة الآخرين في النظام إن هذا من مستجدات الأمور ومن آداب المرور إنه حس حضاري وتقدم نحو الأفضل والأمثل. * رأيت عن يساري برجاً للاتصالات شاهقاً في عنان السماء تتشابك فيه الأسلاك والهوائيات وعليه ما يشبه الأطباق أظنها بمعرفتي الضئيلة اذاناً لاستقبال الاتصالات. ولو رأى أجدادنا هذا البرج المرتفع لهالهم طوله وتصميمه ولقالوا فيه القصائد والألغاز والأمثال والحكم. * ثم مررت بمبنى الدفاع المدني ورجاله البواسل المتحفزين وسياراته وتجهيزاته، كله على أهبة الاستعداد لأي طارئ لا قدر الله. مركز حيوي مهمته الدفاع والتضحية بكل ما فيه من آليات ومستلزمات متطورة برجاله الأبطال الذين وهبوا أرواحهم لخدمة المجتمع والدفاع عنه، وبالمناسبة فقد تذكرت قصة تروى عن حريق مروع حدث في شقراء قديماً يوم ان كانت بيوتها طينية متقاربة - قبل افتتاح مركز الدفاع المدني بسنين عديدة - منذ أكثر من نصف قرن، فلم أك وقتها أعي شيئاً ربما كنت في سن الرضاع. المهم أن ولداً عابثاً معه كبريت = (ثقاب) وكنا نسميه (قفص ضو) وهو كبير بحجم الجوال الآن. أمسك ذلك الصبي الشقي بفأرة فأشعل عود الثقاب في شعر ذيلها فقفزت الفأرة المسكينة من يده ودخلت في حجرة كبيرة أسفل المنزل (نسميها قديماً صفة) مملوءة تبناً علفاً للبقرة. وفي لحظة أصبح التبن ناراً تتأجج وصاح أهل البيت وكساهم الدخان الكثيف وألسنة اللهب واجتمع الناس من كل البلد يطفئون الحريق بعضهم يحثون التراب على النار وبعضهم يمتحون الماء بالدلو من بئر (مسقاة) مجاورة للبيت المنكوب، ويصبون الماء في قدور ثم يركضون به فيسكبونه على النار التي استفحلت. فالدلو لا تتسع لأكثر من عشرين لتراً من الماء يذهب نصفها في البئر من جراء سرعة الجذب (الزَّعَب) وترجرجها في البئر. ونصف النصف الباقي يتنثر من القدور بسبب السرعة والركض بها. وهكذا التهم الحريق ذلك البيت وسقط جزء كبير منه لأن أسقف البيوت سابقاً كانت من خشب الاثل وجريد النخل قفزت في مخيلتي تلك الحادثة المحزنة وأنا أنظر إلى آليات الدفاع المدني ورجاله الأشاوس وأقارن بين تلك الجهود البسيطة وبين قدرات المطافئ اليوم، وأقول لنفسي: ألم نتطور كثيراً؟ فلا مقارنة إطلاقاً أين دلو الماء من مضخات (وأهواز) الحريق التقنية الرهيبة، وأين التراب الذي يحثونه على النار بأكفهم الضعيفة من هذه المواد الكيماوية؟! * ثم تجاوزت مبنى أحد البنوك بمظهره الأنيق وشعاراته المميزة وصرافه الآلي المفتوح على مدار الساعة يدخله الشخص في أي وقتٍ يشاء هنيهة ويخرج بمبلغ من الماء ومعلومات متكاملة عن رصيده؟! وعلى ذكر الصراف الآلي فأنا لم استعمله إلى الآن ذلك أني بطيء التعامل مع مستجدات الحياة. أين آباؤنا وأجدادنا -رحمهم الله- من هذا الخيال المحض الذي أصبح حقيقة يتعامل معها الناس. آلة صماء تعطيك نقوداً وتأخذ منك وتزودك بمعلومات لك وحدك بسرية تامة تتعامل معك كأذكى المحاسبين حسب مقدار رصيدك؟! ولو حدثتكم أن أبي أسكنه الله جنان الخلد لا يفرق بين أوراق العملة النقدية لأنه لا يحملها أصلاً لم تصدقوني!! وقد حدثني شيخ مسن لا يزال حياً يرزق قال لي وكأن صوته المتهدج انفعالاً يرن في أذني الآن قال: (والله إني واصل سن الأربعين ما أمرح الريال في داري)!! ويتابع حديثه ودموعه تتساقط ويديه تتجه إلى السماء (وهالحين يالله لك الحمد والشكر خيور وأرزاق وأمن وأمان ونعم ما لها حد ولكنها تبي شكر). اه. نعم صدق ذلك الشيخ الصريح الشكور فالله جل وعلا يقول{ (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) وأهلنا كانوا يقولون: (النعم تقيّد بالشكر}. * مررت بحديقة صغيرة للبلدية تسقى آلياً والرذاذات فيها تبث الماء كالبخار في أجوائها اللطيفة تنداح في رذاذها ألوان الطيف (قوس الرحمة) وأهل العلم الشرعي الأفاضل ينهون عن تسميته (قوس قزح) ويقولون إن (قزح) اسم للشيطان والعياذ بالله والرحمة هي المطر وهذه الحديقة في غاية التنظيم أشجارها منسقة ومقصوصة على نمط متساوٍ كأنهن عرائس خيالية يتلطفن بالندى ويتمتعن من شميم الورود المتناغمة الألوان وهذا مظهر حضاري يسر الناظر والخاطر ولاسيما في أجواء نجد وقيظها اللاهب لولا أن بعض من لا يقدر هذه المفاهيم الحضارية قد اتخذوها ملعباً لكرة القدم. * وها أنذا أصل إلى مقر عملي، إدارة التربية والتعليم للبنين ينفتح لي الباب الزجاجي آلياً، فأصل إلى المصعد وبلمسة زر ينفتح مرحباً فالمبنى مكون من ستة طوابق. وهنا أتوقف عن الكلام المباح كما تتوقف شهر زاد حينما يدركها الصباح لكيلا أتهم بأنني أمتدح مقر عملي. ولكن قبل أن اختتم الكلام أنقل لحضراتكم صورة في غاية التناقض والاشكالية، فعمال النظافة عندنا في الإدارة (من الجنسية البنغالية) يشتكون دائماً من الفقر والبؤس والعوز والحاجة ويدعون العدم ويقولون بأن رواتبهم ضئيلة وأنها لا تصرف لهم. وباختصار فهم كما يقول العامة عندنا (يتهلوعون) وهي كلمة عربية فصيحة. ومع ذلك كله فهم لا يتنادون إلا بالجوالات، فكل واحد منهم معه جوال من الأنواع الجيدة يلصقونها في آذانهم طول الوقت، ولقد رأيت الكثير منهم مرّات عديدة يمسح الأرض وينظفها وهو منهمك يتكلم بجواله وأسأل نفسي وبعض زملائي. كيف يتلاءم بؤسهم ومسكنتهم مع جوالاتهم؟! فأنا موظف على مرتبة لا بأس بها ويصرف لي راتبي قبل نهاية الشهر ولا ادعي البؤس والعوز من فضل ربي، ومع ذلك لا أحمل جوالاً ولا أعرف كيف يستعمل!! يا لطباع بعض الشعوب فأنا أجزم بأنهم لم يروا الجوال إلا في بلدنا بلد الخير والرفاهية ولكن..؟!. أليس ما استعرضته قطرة من محيط وفيضاً من غيض وذرة من رمال جزيرة العرب التي تختص بوفرة الرمال الذهبية..؟ أليس ما تحدثت عنه، فكيف بما لم أتحدث عنه، تطوراً لم يحدث على هذه الأرض المباركة منذ انفصلت الكرة الأرضية عن الشمس على نظرية من يقول إن الكواكب السيارة كانت جزءاً من شمسنا فانفصلت عنها. ألسنا غارقين في نعم لا تحصى كما قال الشيخ الذي ذكرت لكم يكللها الأمن والأمان والراحة، لقد صرنا قطباً لاهتمام العالم بعد أن كنا نسياً منسياً وأننا نسأل الله بعزته وقدرته أن يحفظ لنا بلادنا السعودية الغالية ويؤيد وينصر ولاة أمورها الأماجد، ويوفق شعبها الكريم ويزيدها خيراً وأمناً وطمأنينةً ويحرسها من كيد الكائدين الحاقدين آمين يا رب العالمين.