تعريف بالكتاب: هذا كتاب جديد للوزير الأديب الدكتور عبد العزيز بن عبد الله الخويطر عنوانه: (وسم على أديم الزمن) وتفسير ذلك في جملة (لمحات من الذكريات) والوسم في الأصل هو وضع علامة خاصة على جلد الدابة توضِّح أنها مملوكة لجماعة معينة من الناس أو قبيلة توسم وسماً خاصاً بها لا يشاركها فيه غيرها.. وذلك بوضع الميسم وهو قضيب دقيق من الحديد على النار ثم كي جلد الدابة به لينطبع ذلك عليها فيكون العلامة المذكورة. والوسم على الدابة يبقى حتى تموت إلا إذا كان على أذن العنز أو الشاة وكان الوسم مبالغاً فيه بحيث إذا خرق الجلد فإنه قد يتخرق ويذهب. وكلمة أديم الزمن التي عنون بها الكتاب تعني جلد الزمن على الاستعارة؛ لأن الأديم هو الجلد.. فكأنما أراد الدكتور الأديب أن يشبه ما كتبه في كتابه بالوسم لكن ليس على جلد دابة يفنى بفنائها، بل على جلد الزمن الذي لا يعلم متى ينقضي إلا الله.. وهذا تعبير أدبي راقٍ واستعارة موفقة لأن الكتب تبقى في خزائن الكتب وفي بيوت الناس إلى ما شاء الله أن تبقى وقد تطبع طبعات جديدة تكون لها بمثابة العمر الجديد. أما المؤلف الأديب الدكتور عبد العزيز الخويطر فإنه وزير شغل منصب وزير مدة زادت على ربع قرن.. ولم يقتصر على وزارة واحدة، بل كان يشغل أحياناً أكثر من وزارة بالنيابة عن الوزراء الذين يتغيبون عن وزاراتهم لعمل آخر خارج البلاد أو بإجازة أو نحوها حتى رأيته مرة شغل أربع وزارات في آن واحد إحداها وزارته التي كانت (وزارة المعارف) والثلاث الأخرى بالنيابة عن وزراء آخرين في وزاراتهم.. فاستحق بذلك لقب (ذي الوزارات) وإن كان ذلك بالنيابة.. وله في هذه الوزارات التي شغلها بالنيابة أخبار يتناقلها الناس، منها أنه شغل مرة (وزارة المالية) بالنيابة حيث كان وزيرها آنذاك الأستاذ محمد بن علي أبا الخيل، وكان الدكتور عبد العزيز الخويطر قد أرسل قبل ذلك إلى وزير المالية طلباً باعتماد مبلغ من المال من أجل الإنفاق منه على شراء تذاكر لمدرسين مصريين - وكان الوقت آخر السنة الدراسية -.. وصادف أن سافر وزير المالية وأناب عنه وزير المعارف الدكتور عبد العزيز الخويطر فكان من المتبادر للذهن أن يغتنم الدكتور عبد العزيز الخويطر الفرصة للموافقة على الطلب الذي تقدم به هو نفسه وهو يعرف قبل غيره كما يعرف الناس عنه أنه لا يتقدم بطلب اعتماد مبلغ من المال لوزارته إلا إذا كانت هناك حاجة ماسة إليه.. لكنه لم يفعل، بل رد المعاملة بتوقيعه المتضمن أنه لا يوافق على اعتماد هذا المبلغ وقد سار هذا في الناس وتناقلوه في المجالس. وعندما بلغني لم أرَ أنه واقع فسألت الدكتور عبد العزيز الخويطر عنه فقال: الواقع أن الأمر ليس كذلك، وإنما الذي حصل أنني رأيت في المعاملة توقيعاً لوزير المالية بعدم الموافقة، وليس من المعقول أن أخالفه وأنا نائبه فأوافق على ما لم يوافق عليه. واشتهر الدكتور عبد العزيز الخويطر بحرصه على مال الدولة وشدته في شراء ما يريد شراءه لها ومن ذلك الكتب التي تشتريها الوزارة لمكتبات المدارس. أذكر شاهداً على ذلك وقع لي وهو أنني كتبت للدكتور عبد العزيز الخويطر وقت أن كان وزيراً للمعارف عرضاً لشراء نسخ من كتابين من كتبي وهي من أوائل ما طبعته. فكتب الدكتور على الطلب: (يُعفى من العرض على اللجنة) وهي لجنة فنية لتقويم الكتب، وبعد شهور ومراجعة قال لي الموظف المسؤول في الوزارة إن الوزير أمرنا أن نعرض عليك أن توافق على أن يكون سعر الكتاب نصف السعر الذي تقدمت به أي أن أخفض للوزارة 50% من قيمة الكتابين! فوافقت على ذلك، لكن الوزير لم يوافق أيضاً. وبعد مضي شيء من الوقت بعد تأكدي من أن وزارة المعارف لن تشتري نسخاً من الكتابين ولو خفضت نصف القيمة عرضتها على أخٍ صديق محب للكتب في وزارة أخرى فقال: الدولة تبذل الملايين من أجل توفير المعرفة للشعب والكتاب من كتبكم سلعة وطنية وكثير من الدول تدعم مؤلفات أبنائها وقد اشترى لوزارته ألف نسخة من كل واحد منهما وهي النسخ التي كنت تقدمت بها لوزارة المعارف. وبعد ذلك وقبل ذلك أذكر أن صاحب المعالي الدكتور عبد العزيز الخويطر لم يشترِ مني لوزارة المعارف ولا لغيرها من الوزارات أية نسخة من أي كتاب مع أن الذي أفهمه ويفهمه كثير من الناس أن مكتبات المدارس بحاجة إلى الكتب. وماذا عن الكتاب؟ هذا الذي نتكلم عليه هو الجزء الأول للكتاب الجديد للدكتور عبد العزيز الخويطر، ويقع في (410) صفحات سيتلوه طبقاً لما ذكره جزءان هما الثاني والثالث. والكتاب نفيس، بل غاية في النفاسة لأنه يحكي بصدق وعمق فترة من حياة أديب رقيق الإحساس، وصادق التعبير عن فترة مهمة من فترات حياته ونحن في أمسّ الحاجة إلى معرفة كل ما يتعلق بأدبائنا والنابهين من بني قومنا والدكتور عبد العزيز الخويطر في مقدمتهم بدون شك. تحدث المؤلف في أول كتابه (من ص3 إلى ص 8) عن سبب تأليف هذا الكتاب وأهم ذلك ما ذكر أن مما يحس به الأديب، بل والإخباري النبيه من أسف على كونه لا يعرف حق المعرفة ما كان عليه أجداده وأسلافهم لكونهم لم يكتبوا تعريفاً بهم وهذا أمر يشعر به كل أديب أو مفكر من بني قومنا في الوقت الحاضر. ونضيف إلى ذلك أسفاً آخر وهو أن الذين كانوا متعلمين منهم قادرون على الكتابة هم مع قلتهم كان بإمكانهم أن يكتبوا شيئاً مفيداً لنا عن ذلك، لكنهم لم يفعلوا لكونهم لم يدركوا أهمية ذلك في المستقبل.. إضافة إلى أن الناس كانوا في تلك العصور في فترة كسل فكري، أو لنقل: إنه كسل علمي أساسه الجهل بأهمية ما قد يكتبون، وعدم المعرفة بقيمة ذلك عند المتأخرين إذا كتبوه. ثم تحدث الدكتور عبد العزيز الخويطر عن حياته في مدينة عنيزة ودخل في ذلك الحديث عن والدته ثم عن خالته وعمته، وكل ذلك بأسلوب سلس، وعبارات مفصلة تذكر صغائر الأحداث فيحس القارئ أنها مهمة ويعلق المؤلف عليها حتى يفهم القارئ أهميتها ويغوص في أعماق نفوس الأشخاص الذين ورد ذكرهم في الكتاب. ثم انتقل إلى الحديث عن انتقاله من عنيزة إلى مكةالمكرمة بعد أن بلغ عمره الثالثة عشرة وذلك في حديث واضح وبأسلوب يستهوي القارئ، ويشده إلى الكتاب حتى لا يستطيع أن يتركه حتى يقرأه كله. وقد بلغ في ذلك إلى (ص 58) من الكتاب حيث أشار إلى ذهابه مع بعثة الطلبة السعوديين إلى مصر وأن ذلك كان في عام 1365ه. وهو يفصل في أثناء كتابه أموراً معتادة ويذكر أموراً مهمة منها ما حكاه أنه حدث في مجلس للملك خالد بن عبد العزيز - رحمه الله - قال: (ص66 وص67) رحلة صيد للملك خالد: في الحديث عن (الدويفة) (الرغيدة) في مجلس الملك خالد - رحمه الله - قبل إحدى الوجبات أو بعدها، تطرق الحديث إلى أسباب عدم التلذذ اليوم بما كنا نتلذذ بما هو أقل منه من قبل، أيام الشباب، فتركز الحديث على البحث عن أسباب ذلك، واتجه على أن ظروف المعيشة اختلفت، وللشباب شهية تقل مع تقدم السن، فقصَّ - رحمه الله - قصة تؤكد ذلك: قال: كنا في (المقناص) وكنا أربعة في سيارة واحدة، وكنت أنا السائق، برفقة الأمير فيصل بن عبد العزيز، والأمير فهد بن سعد، والأمير فيصل بن سعد، وانفصلنا عمن معنا، وبَعُدنا عنهم، وصِدنا حبارى، وهي سبب انحرافنا عن خط السير، ومن حسن الحظ أن معنا مع الماء أرزاً، وكان البرد قارساً، وأمضَّنا الجوع.. وكان معنا تنكة ملأى بالبنزين (احتياطاً) فأفرغنا ما فيها في (التانكي)، وقصصنا أعلاها، ولضمان أن لا يبقى فيها للبنزين رائحة كفيناها على لهب النار، ثم وضعنا الماء والحبارى والأرز فيها، وأوقدنا تحتها النار، فلما استوت أكلناها من تنكتها، ولا أذكر أكلة أطعم من تلك الأكلة إلى اليوم: شباب وجوع، وبرد، وتعب، وأرز ولحم حبارى وفي البر، ورفقة هنية - رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته -. ثم بدأ الدكتور الخويطر في (ص68) الحديث عن والده (عبد الله بن علي بن عثمان بن حماد الخويطر) ووالده شخصية معروفة في وقته وقد شغل وظائف مهمة منها (المدير العام للمالية في مكةالمكرمة) ثم (مدير مالية الرياض) وآخر وظائفه كانت في مكة أنه كان (مديراً للمستودع)، لكن الدكتور الخويطر لا يذكر وظائف والده بصفة مجردة جافة أو بطريق التمدح والتبجح، بل ويتحدث عن طفولته ومجريات حياته كما يتحدث المرء عن والده الذي لم يتوظف أو لم يكن له حديث يتعلق بالوظيفة وكل ذلك تلمس فيه الصدق، وعدم التزيُّد، والبعد عن المحسنات التي يضيفها الولد إلى الحديث عن والده كما اعتاد الناس أن يكيلوا النعوت المحببة لوالديهم بدون حساب، والحديث مفعم بالذكريات للدكتور الخويطر، ومفعم أيضاً بالطرائف، بل والفوائد التاريخية الاجتماعية. ثم تحدث المؤلف بعد ذلك عن جده (علي الخويطر) من (ص126) إلى (ص 174) وتخلل الحديث حكايات وطرائف ووقائع لا يعرفها الجيل الجديد، بل لا يتصورها.. ثم استمر الدكتور الخويطر في الحديث عن طفولته وفي الحديث عن أخباره مع جده. وفي (ص186) بدأ الحديث عن جدته (نورة المنيع) وهي والدة والده، وهو حديث أيضاً طريف ومفيد ومفصل في أكثر الأحيان ، ثم تحدث عن أقارب آخرين. وهذا نموذج لما ذكره عن جدته والدة والده وهي (نورة الإبراهيم المنيع، قال (ص187 -191): جدتي نورة المنيع: اسمها نورة الإبراهيم المنيع، والدة والدي - رحمهما الله - كانت متقدمة في السن عندما بدأت أدرك من حولي، ورغم أني لا أعتمد اليوم على مقدرتي على القياس في تلك الأيام إلاَّ أني أعتقد أنها تميل إلى الطول، وقد يكون ذلك عائداً إلى نحافة جسمها، وأذكر أنها كذلك تميل إلى بياض البشرة، وصورتها دائماً مقترنة عندي بجلوسها في مصلاها في صفّة الرحى، أو في روشنها أو في سطحها، ولا أكاد أتصورها في مكان آخر غير هذه الأماكن الثلاثة، كانت دائماً على خصافها (خصفتها) مستقبلة القبلة، تُسَبِّح، وتورد، ولا أذكر أني رأيتها مع جدي أبداً جالسة، ولا أذكر أنه ذهب إليها في غرفتها، ولا هي ذهبت إليه في القهوة حيث يقيم، وأكاد أجزم أنه في أول الأمر كان أنشط منها حركة، وقد زارها، على ما أذكر عندما مرضت، وقد يكون مرض الموت، وقد توفيت في يوم جمعة، وكان ذلك عام 1356 ه، وهي السنة التي دخلت فيها المدرسة السعودية عندما فتحت في ذلك العام. وأذكر أن إحدى يديها - رحمها الله - أصيبت بداء قالوا عنه: (عنكبوت) وهو مرض يبدو أنه يؤثر على أعصاب اليد، مع بعض القروح، وكانت يدها مبسوطة، ولا تستطيع قبضها، بعد أن شفيت، وبقيت يدها هكذا إلى أن توفاها الله، وكالمعتاد، لمعالجة مثل هذا الأمر أحضروا لها (عثمان الونين)، فكواها، وقد يكون الكيّ قضى على القروح، لكن اليد بقيت معيبة. لقد تغيرت بعض الأمور بعد وفاة جدتي، وأصبحت عمتي تقوم بدورها مع دور والدتها مع قلته في آخر حياتها، إذْ لم يعد لها دور إلاَّ في المشورة، ومباركة ما يتفق عليه، وأمر آخر تغير بعد وفاتها - رحمها الله - فالأماكن التي كانت تقيم فيها، وبالذات روشنها وسطحها كان محرَّماً علينا الصغار أن نقترب منهما، لأن أرجلنا قد لا تكون نظيفة مما لا يبيح لنا دخول الأماكن الطاهرة، وهي حريصة على طهارة ما حولها. بعد وفاتها أصبح سطحها مسرحاً لجولاتنا، وما أنظفه وأوسَعَه، ولم يعد هناك خصاف الصلاة، وصرنا ندخل من السوق حفاة، وقد نمر بحوش البقرة، وندخل السطح دون مراعاة للنظافة، فهي الشيء الذي لم يكن في برنامجنا اليومي، وأهلنا معنا في جهاد على غسل الأيدي قبل الأكل، ولم نعرف أهمية النظافة إلاَّ بعد أن انتظمنا في أداء الصلوات. كانت - رحمها الله - من أسرة كريمة وموسرة، وترك لها والدها بيتاً واسعاً كبيراً، فسيح المرافق، وفي حي القاع الراقي، مع جيران متميزين، قريباً من مسجد القاع، بعد بيت النعيم وأمام بيت عقيل المحمد، وكان والدها - كما سبق أن ذكرت - كثير الضيوف، يقيم الكثير من الدعوات الكبرى، وكانت صينيته (الكور) التي يقدم فيها الأكل كبيرة لا تدخل من باب القهوة، فوُسِّع في الباب فتحتان على الجانبين، ليتمكن حاملوها من إدخالها.. لقد آلت هذه الدار إلى جدتي نورة، وإلى ورثتها من بعدها، وقد سبق أن تحدثت عنها عند حديثي عن عمتي موضي). ويتحدث في (ص308) إلى (ص310) عن أول دخوله للكتاب (المدرسة) فيقول: بعد أن تحدثت عن بعض أحبائي أعرض على بعض ما أذكره ما يخصني، وأبدأ بأول كُتَّاب دخلته، وهو كُتَّاب (الحيدان)، واسمه (عبد الله) ولا أعرف اسم أبيه ولعله سالم، وهو ملاصق لبيتنا، وكنت متشوقاً للدراسة فيه، لأني كنت أرى أولاداً كثيرين يدخلون هناك ويخرجون، وكان يجذبني ويعجبني ويشدني بالذات (لجَّة الطَّلعة)، وهي ضجة تأتي عند انتهاء وقت الدراسة من أصوات التلاميذ عندما يأمرهم المدرّس بأن (يلجُّوا لجّة الطلعة)، فيقرؤون بصوت عالٍ جداً الآية التي وقف عندها كل واحد منهم، وهم لا يصدقون عندما يسمعون طلب معلمهم ذلك، فترتفع أصواتهم مجلجلة، وكان ارتفاعها مقياساً لمدى فرحتهم، وكان اندفاعهم إلى الخارج منظراً لا يُنسى. كان كل ذلك يطربني ويشدني، ولم أفكر فيما يحدث داخل المدرسة بين الدخول والخروج، فلما أدخلوني المدرسة، ومعي لوحي، وقعدت مع الصغار، رأيت المعلم يعاقب تلميذاً أكبر مني، فأزعجني المنظر، وأخافني، ولعلي شعرت أني ربما أتعرض لموقف مماثل، فلم يعجبني الأمر، فأخذت لوحي، وخرجت إلى بيتنا، وأخذت أطرق الباب باللوح، لأني لا أصل إلى (المطقّة)، فهي عالية بالنسبة لطولي، ففتحت والدتي الباب، ورأتني واقفاً هناك، ومعي لوحي، فسألتني: هل انتهيتم؟ فقلت لها: أنا انتهيت. ولم أعد لهذه المدرسة، ويبدو أنهم أخروني عاماً آخر، وهذه المرة أدخلوني كُتَّاباً بعيداً عن بيتنا، كتّاب (ضعيّف الله)، (عبد العزيز الحمد الدامغ) بحي (أم حمار)، وأظن أن الحيدان قفل مدرسته في ذلك العام، لأنه سكنها أسرة أخرى، مكونة من رجل وامرأة. وقد حفل كتاب الدكتور الخويطر بتعريفات بأشياء وتسميات ومسميات لا يعرفها الجيل الناشئ الآن ومثال ذلك (الروَّايات) جمع رَوَّاية - بتشديد الواو - وهو لا يشير إلى مثل هذه الأشياء التي صارت الآن مجهولة إشارات مبتورة، بل هو يبسط القول فيها بسطاً ويوضحه إيضاحاً يفهمه القراء من الشبان، ومثال ذلك كلامه على الروَّايات (ص 233 - 236). قال: ولعله يحسن هنا أن أتحدث بشيء من التفصيل عن (الرَّوَّايات).. فالرَّوَّايات نساء يحملن الماء على ظهورهن نهاراً من بئرين عُرفتا بحلاوة مائهما في عنيزة، إحداهما اسمها (القُسيم) والأخرى (الحويطة)، وكانتا متقاربتين، ليس بينهما إلا مسافة محددة، وكانتا من أوسع الآبار، ويبدو أن هناك جانباً من جوانب البئر تُرك سبيلاً للرَّوَّايات، ومنظر الرَّوَّايات وهن يحملن القِرَب فريد، تراهن ذاهبات خفيفات، وعائدات ثقيلات، تئن الواحدة منهن تحت حملها، خطوها قصير، ومشيها وئيد، كأن هذه المهنة وقفٌ عليهنَّ، وتكاد كل واحدة منهن تكون من أصل إفريقي، ولهن من قوّة البنية ما يجعلهن قادرات على حمل القِربة بما فيها من ماء كثير ثقيل. وعُرف عن الرَّوَّايات أنهن خير ناقل للأخبار، فهن كمحطات إذاعة، يشعن الخبر سواء كان نافعاً أو ضاراً، ليس للبيوت اللاتي يدخلنها سر، ولا يفرغن عن حمولتهن دون أن يجلسن بعض الوقت للراحة، وتناول ما يستحققنه من الضيافة، إما تمراً وماء أو تمراً ولبناً، أو شاياً.. وحالهن هذه تجعلهن يقُمن أحياناً بدور الخاطبات، لأنهن يرين البنات وهن يرضعن، ثم يرينهن وهن يكبرن، حتى يصلن إلى سن الزواج، ودخولهن البيوت بهذه الصورة يجعلهن قادرات على إعطاء فرصة الخيار لمن يبحث عن زوج. ومن الطرائف التي تُروى عن عدم دقتهن في نقل الأخبار، وخطفهن الخبر خطفاً دون تمعن وتحقق، أن جيش الملك عبد العزيز كان يزحف متجهاً إلى مكة، فسمعت إحداهن أخرى تقول: (البارحة قرصتني بقة) أي ناموسة. فظنتها الأخرى تقول: (البارحة فُتحت مكة). وسرعان ما طار الخبر في عنيزة بأن مكة فتحت، ودخل هذا الخبر كل بيت بكفاية يحسدها عليها الإعلام اليوم. ولم يورد الدكتور عبد العزيز الخويطر المثل السائر في القصيم حول الروَّاية واحدة الروَّايات وهو (أبرد من ظهر الروَّاية) وذلك أنها تضع القِربة على ظهرها فيكون بارداً. كما حفل كتاب الدكتور الخويطر بحديث، بل أحاديث عن أشخاص وأسر فضلاً عن أقاربه وجداته ومعارفه، وهي أحاديث طريفة ومفيدة خالية من التعقيد أو من المعلومات الجافة أو المبتورة. وقد حاولت أن أعرض بعضها هنا فوجدتها أكثر من أن تتسع لها ساحة العرض في هذا التعريف بالكتاب، ويمكن الاطلاع عليها من قراءة الكتاب نفسه. وفي الخاتمة أقول: إن كتاب الدكتور الخويطر (وسم على أديم الزمن) (الجزء الأول) كتاب ممتع مما يحملنا على التطلع إلى الجزءين الثاني والثالث حتى نستمتع بقراءتهما أيضاً، وفقه الله وسدد خطاه.