في مثل هذه الأيام البازغة يتجاذب فئام من الناس أطراف الحديث عن أمر مهم يشترك في مطارحته معظم المجتمعات بمجموعها، كما أن الألسنة تلوك الحديث عنه على اختلاف مشاربها إيجاباً وسلباً، خلافاً وضداً؛ لأنه في الحقيقة أهل للحديث عنه وكثرة المطارحات فيه عبر مجالات متنوعة ووسائل عديدة. ذلكم هو الحديث عما يسمى بالعطل الصيفية والسياحة فيها التي أصبحت حقبة من الدهر لا يمكن الاستغناء عنها بوجه من الوجوه. إن حاجة الإنسان إلى الراحة بعد الكد، وإلى الهدوء بعد الضجيج، لهو من الأمور المسلمة التي لا ينكرها إلا غرّ مكابر. فالإسلام في حقيقته لم يفرض على الناس أن يكون كل كلامهم ذكراً، أو كل شرودهم فكراً، أو كل أوقاتهم عبادة. كلا، بل جعل للنفس شيئاً من الراحة والترويح المنضبطين بحدود ما شرعه الله محكوماً بآداب الإسلام وحدوده، بل إن حنظلة بن عامر رضي الله عنه قد شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم تخلل بعض أوقاته بشيء من الملاطفة للصبيان والنساء، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ساعة وساعة)، رواه البخاري ومسلم. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه حول واقع كثير من الناس هو: إلى أي مستوى يصل معاشرو السياحة في العطل الصيفية؟ وما الآلية الإيجابية التي تستثمر بها الأوقات وتراعى فيها قائمة الأولويات؟ وما المفهوم الحقيقي للعطلة الصيفية: أيكون في النوم، أم هو في اللهو، أم يكون في الأفراح، أم هو في السياحة، أم هو في الإخلال بالنواميس الكونية من حيث انقلاب الليل نهاراً والنهار ليلاً، أم في المطالعات الحثيثة لما تبثه وسائل الإعلام الفضائية أو شبكات ما يسمى بالإنترنت الغازية؟ إنها أسئلة متعددة، مصدرها فؤاد كل مؤمن ومؤمنة ينازعهم الضمير الحي المتيقظ والغيرة على الفراغ والصحة والشباب. إن الترويح على النفس بما أباح الله لها هو مسرح للاستئناس البريء الخالي من الصخب واللغط على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكن ساعة وساعة)، لا كما يقول أرباب التحرر: (ساعة لك وساعة لربك، واستعن بالهزل على الجد، وبالباطل على الحق، أو دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر). كلا، فالبيت والمجتمع والإعلام كلهم خاضعون لحدود الله، ومتى تجاوزوا تلك الحدود فما قدروا الله حق قدره، وما شكروه على آلائه ونعمه. إن المرء الجاد الخائف من ربه وولي نعمته لديه متسع من الوقت أو الجهد لينفقه فيما يعود عليه بالوبال والحسرة. ولقد حرص كثير من الناس على تضخيم الترويح على النفس والبدن حتى ظنوا بسبب ذلك أنهم مسجونون في بيوتهم وبلدانهم، استصغروا ما كانوا يكبرون من قبل، واستنزروا ما كانوا يستغزرون، أقفرت منازلهم من الأنس، وألقوا السياحة على مفهومهم القاصر والجلوس في المنتديات حال الاغتراب حتى أصبح المرء منهم في داره حاضراً كالغائب، مقيماً كالنازح، يعلم من حال البعيد عنه ما لا يعلم من حال القريب منه. إننا - أيها الإخوة - نحتاج حقيقة إلى مصارحة مع أنفسنا، وإلى استحضار عقول وقلوب ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. قبل الإجازة يعقدون الجلسات عن معاقد عزمهم في شد الرحال إلى خارج البلاد للتمتع بمجاري الأنهار وشواطئ البحار، يفرون من الحر اللافح إلى البرد القارص، وما علموا أن الكل من فيح جهنم ونفَسها الذي جعله الله في الشتاء والصيف.. ولكن ويا للأسف تأتي حقيقة بعض تلك السياحة كرحلات عابثة تفتقر إلى الهدف المحمود والنفع المنشود.. أدنى سوئها الإسراف والتبذير، ناهيكم عما يشاهدونه هناك من محرمات لا يدري كيف يبيح المرء لنفسه أن يراها. البعض من السياحة هناك نهارهم في دجنة وليلهم جهوري، ألذّ ما عندهم سمر العشاق، عبادتهم نز، وغوايتهم غمر، يأكلون الأرطال، ويشربون الأسطال، ويسهرون الليل وإن طال، حتى يصير الصبح ليلاً، والليل صخباً، فيختل الناموس الذي خُلق الليل والنهار من أجله، فلا يرخي الليل سدوله إلا وقد سحب اللهو ذيوله، تمشت البلادة في عظام المرء حتى تترقى إلى هامه، وتثلم العقل فيخلع ثوب الوقار، ويلاطف بعبث مشين في سفسف أو باطل من الأمر، ومن ثم تعد تلك السجايا من السياحة الجاذبة، وكم يقال حينها: هل للساهر بمثل هذا من نُجح؟! وهل لليله من صبح؟ هيهات ثم هيهات، فتلك ليالٍ قص أجنحتها، وضل أصحابها، وكيف يُرجى تقطيع ليال وافية الذوائب ممتدة الأطناب بين المشارق والمغارب؟! فتمتد ألوان لهوهم إلى أوقات متأخرة من الليل ولسان حالهم يقول: يا ليل هل لك من صباح؟! أم هل لصبحك من براح؟! ضل الصباح طريقه والليل ضل عن الصباح ثم ينجلي أمرها فإذا هي هشيمٌ تذروه الرياح وبعد.. فثَمَّ سؤال آخر يطرح نفسه ليبين من خلاله وجه التناقض بين مآرب وأرباب السياحة الخارجية وبين ما ألفه بعضهم من جو الحفاظ والتدين، وصورة السؤال هي: يا أيها السائح، هل أنت ممن سيقرأ دعاء السفر إذا أردت السياحة إلى هناك؟ فسيجيبنا: (نعم.. أقول: اللهم، إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى). فنقول له: حسبك، قف. لقد قلت: البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، فأين محل البر والتقوى والعمل المرضي في سفرك؟ أيكون مشاهدة المنكر براً وتقوى؟ أيكون الجلوس أمام ما يغضب الله براً وتقوى؟ أيكون ذلك كله مما لا يرضي الله وأنت تسأله من العمل ما يرضي؟ ألا تدرون ما البر؟ إن أجمع ما يصوره هو قوله جل وعلا: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}. ألا تدري ما التقوى؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}. ألا تدري ما العمل الذي يرضي؟ {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}. ألا فلنتق الله أيها الإخوة، ولننظر في واقع اليوم تجاه هذه العطل والسياحة فيها، وليكن لكل عاقل موقف جاد في إيجاد الكيفية المناسبة للإفادة منها وحفظ الأوقات فيها وجعل الحديث عنها لا يقل أهمية عن أي أحاديث أخرى في برامج الناس العامة؛ لأن البيت والمجتمع والإعلام كلهم خاضعون لحدود الله، ومتى تجاوزت الأمة في بيتها وإعلامها هذه الحدود يوماً ما فما قدرت الله حق قدره. ولأجل أن ندرك أهمية هذه المسألة فإنه يجب علينا أن نعلم أن مواقعي تلك السياحة في هذه العطل الصيفية أو في غيرها لن يخرج أحد منهم عن سؤال من خمسة أسئلة إن لم تسأل عنها كلها، ألا وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ)، والله تعالى أعلم.