الداعية هو القدوة، والأنموذج الذي يحتذي به الآخرون في زمن كثرت فيه الفتن، ووسائل الإلهاء، والإغراء، وكلما كان الداعية أكثر تمسكاً بدين الله - عز وجل - وبحدوده، وشرعه، كان أثره أكبر بين المدعوين؛ لذلك يجب على الداعية أن يكون عالماً عارفاً بأحوال الناس ملماً بقضاياهم أسوةً حسنةً لهم؛ حتى يتأسوا به. وفي هذا التحقيق نستعرض آراء بعض المشايخ حول قضية كيف يكون الداعية قدوة وأنموذجاً لغيره؟ القدوة أهم وسيلة في البدية يؤكد د. فالح بن محمد الصغير الأستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أن القدوة من أهم وسائل التربية والتعليم، درساً ومحاضرة، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وقد جاء الأمر بها في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ)، وقوله - سبحانه -: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ)، وهكذا جميع الرسل أمروا بالبلاغ بالكلمة الطيبة، ووصف بلاغهم، ومن تبعهم بأحسن الكلام؛ قال الله - جل وعلا -: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، والناس بحاجة ماسة إلى من يتمثل الصورة القولية في واقعه العملي في صفاته وأخلاقه؛ حتى لا يتصوروا أن ما يدعون إليه غايات لا يمكن الوصول إليها، وقد جعل الله - عز وجل - دينه تعاليم سهلة ميسورة، وأرسل رسله بها قولاً وتمثلوها عملاً؛ فكانوا قدوة القدوات في التعليم والتربية. ويضيف د. الصغير قائلاً: ولما كان الأنبياء هم القدوات العليا للبشرية فإن نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو أفضل القدوات، وأعلاها، وقد أرسله الله - تعالى - بشيراً، ونذيراً للناس كافة، وشرفه - سبحانه - بكونه الأسوة الحسنة لكل من آمن بالله واليوم الآخر بقوله - سبحانه -: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)، كما وصفه ربه - عز وجل - بالخلق العظيم في قوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وقالت عائشة - رضي الله عنها - تصف تمثله - صلى الله عليه وسلم - لأعظم ما تكون عليه القدوة بقولها: (كان خلقه القرآن)، وكانت سيرته العملية - صلى الله عليه وسلم - واقعاً حياً لهذا كله في جهاده، وكرمه، وتواضعه، وعفوه، فكان يعطي عطاء مَن لا يخشى الفقر، ويعفو عن كفار قريش، وهو فاتح منتصر قد أمكنه الله منهم، ويكون في بيته في مهنة أهله، إلى غير ذلك من شمائله الشريفة - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو أمي - قدوة القدوات، وخير الناس - صلى الله عليه وسلم -، ويطمح كل ذي همة عالية، وطموح رفيع إلى المعالي، إلى أن يكون قدوة مؤثرة في الناس، وهو مطلب نفيس، لكنه لا يتأتى إلا لمن قام بحقه، وبدت فيه معالمه، ومنها: أولاً: قوة الصلة بالله - جل وعلا - وقوة اليقين، والثقة به - سبحانه - ومن كان هذا شأنه هان عليه كل ما سواه - سبحانه - من أمور الدنيا في سبيل مرضاته - عز وجل - بل إن هذا هو جزاء المولى لمن قويت به ثقته، وعظم عليه توكله، كما أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس - رضي الله عنهما - بوصيته الجامعة: (احفظ الله يحفظك)، وها هو - صلى الله عليه وسلم - باطمئنانه العجيب في الغار يقول لأبي بكر: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟) ثم يعد سراقة بعد ذلك - وهو ما زال مهاجراً يبحث عن النصرة - بسواري كسرى. ثانياً: التحلي بالأخلاق الحسنة والسلوك المستقيم؛ مصداقاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وأمره - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ وأبي ذر وكل مسلم: (وخالق الناس بخلق حسن)، ومن أهم الأخلاق، بل على رأسها: الإخلاص لله - تعالى - في كل الأقوال، والأعمال، والأحوال؛ فهو سبب الرضا، والقبول من المولى - جل وعلا -، ولا قيمة لعمل من دونه، وكذلك الصدق فإنه كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (يهدي إلى البرّ، والبرّ يهدي إلى الجنة)، وقد شهد العدو والمحب للنبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الصفة العظيمة، حيث كان خير من تمثلها. ومن الصفات المهمة كذلك، الصبر، فبه تنال الإمامة في الدين، وتتحقق القدوة، قال - تعالى -: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ). ثالثاً: العلم الشرعي، وهو من أهم معالم القدوة وزادها في تربية الناس، وبث الخير فيهم. وأنّى لمن تصدى للناس، وكان في محل القدوة أن يؤثر فيهم بلا علم شرعي يهديه، ويرشده في هداية الناس وإرشادهم؟! بل إن نبينا الذي هو أعلى القدوات لم يؤمر بطلب المزيد إلا في العلم، فقال له ربه: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا). رابعاً: موافقة القول للعمل؛ فبخلاف ذلك تنهار القدوة، وينعدم التأثير، كما أن وجود القدوة العملية المطابقة للقول قد يكون تأثيره أحياناً أقوى من القول نفسه، بل قد يحقق الآثار العظيمة بدون القول. القدوة في الدعوة واستطرد د. الصغير بقوله: إنه يتبين بوضوح أثر القدوة، وأهميتها البالغة في الدعوة إلى الله تعالى، وذلك أن تعليم الناس، وإرشادهم من أفضل الأعمال وأزكاها؛ فوجب على كل من تحمل مسؤولية في هذا الميدان العظيم أن يحقق ما يريد بثه في الناس واقعاً حياً، فهو كالثوب الأبيض تظهر فيه أدنى نقطة سوداء، كما يجب على الداعية أن يبين مقاصده للناس سهلة جلية، فيبتعد عن الغموض، والتعقيد، ويخاطب الناس على قدر عقولهم، ويراعي أفهامهم، ومنازلهم، وتفاوتهم، وعليه أن يقوي صلته بمولاه - جل وعلا - الذي يدعو الناس إلى طاعته، ومرضاته، فيحافظ على عباداته في أوقاتها وبصفاتها، فإن الناس يقتدون به، ويتأثرون، وفي مجتمعه ينبغي أن يكون من أفضل الناس قياماً بأماناتهم وصدقاً في عهودهم، في عمله ومعاملاته، ومن أهم ما يؤثر في الناس: جعل الداعية همه الآخرة وإيثارها على الدنيا وحظوظ النفس وأهوائها، وما ينبغي كذلك للداعية المحافظة عليه الظهور بمظهر حسن نظيف، ليتوافق ذلك مع نظافة الباطن، وليحذر الداعية كل الحذر مما يخدش إيمانه، أو عبادته، أو مروءته، فإن أثره يتعدى إلى غيره، والمسؤولية في حقه أكبر من غيره من الناس. ولأهمية القدوة، وعظم أثرها في كل وقت وحين، فالحاجة إليها أشدّ في هذا الوقت الذي تعددت فيه المشارب، والطرائق في الحياة، وتنوعت فيه الاهتمامات، وكثرت فيه مصادر التلقي؛ فهذه كلها تحتم على المربين من آباء وأمهات، ومعلمين ودعاة، أن يكونوا على مستوى القدوة في المظهر والمخبر، في القول والعمل، في الكلام والتصرفات، في البيت والشارع والمدرسة، فمن المهم استشعار هذا المبدأ العظيم، والوعي به بعمق، وتمثله في الواقع بجد؛ فالمسؤولية مضاعفة، والأمانة كبيرة. التطبيق العملي ويؤكد الشيخ محمد بن بقنه الشهراني عضو الدعوة والإرشاد في منطقة نجران أن الدعوة بالفعل كالدعوة بالقول، بل قد تكون الدعوة بالفعل في مواطن كثيرة أبلغ من الدعوة بالقول، وهذا ما يسمى القدوة، أو الأسوة، قال الله - تعالى -: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)، قال القرطبي - رحمه الله - في جامعه عن هذه الآية: (الأسوة القدوة، والأسوة ما يتأسى به أي يتعزى به فيقتدي به في جميع أحواله)، وقال السعدي - رحمه الله -: (الأسوة نوعان: أسوة حسنة وأسوة سيئة؛ فالأسوة الحسنة في الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأما الأسوة بغيره إذا خالفه فهي الأسوة السيئة، كقول المشركين حين دعتهم رسلهم للتأسي بهم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ)(22) سورة الزخرف، وجاء في فتح الباري 13-251: (وأخرج عبد بن حميد بسند صحيح عن قتادة في قوله - تعالى -: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)، أي قادة في الخير ودعاة هدى يؤتم بنا في الخير. إذاً القدوة في الدعوة إلى الله تعالى أساس من الأساسات التي يجب على الداعية أن يهتم بها؛ ولذا نجد ابن القيم - رحمه الله تعالى - ينبه على أهمية القدوة في (الفوائد - ص 61)، ويقول: (علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقاً كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء وفي الحقيقة قطاع طريق). إن التطبيق لما ندعو إليه يثير في نفس المدعوين الإعجاب به واستحسانه، وتطبيقه، ويعطيهم قناعة بأنه يمكن أن يعمل بهذا الذي يؤمر به وينهى عنه ضده، إلا أن أفهام الناس تتفاوت لما يسمعون، ولكنهم لا يتفاوتون فيما يرون فيه يتأثرون، ولذلك نهتم بمسألة القدوة في الدعوة إلى الله تعالى. ويشير الشهراني إلى أن الثبات على المنهج الحق والإيمان بالمبدأ من أهم شروط القدوة، فإن كان منهجاً صحيحاً سوياً سليماً ومبدأً يرضي الله - تعالى - فإن صاحبهما هو القدوة الحسنة، وعدم التنازل في زمن المتغيرات عن الثوابت، وعدم التساهل في أحكام الله تعالى، وعدم التأثر بالمرجفين والمثبطين، كل هذا الثبات من أبرز سمات القدوة الحسنة في هذا الزمان. ومن الأصول التي ينبغي أن يكون عليها الداعية إلى الله تعالى؛ ليكون قدوة حسنة، عدم الانقطاع عن العمل دون مبرر شرعي، فهو يدخل حينها في زمرة الذين قال الله - تعالى - فيهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)، فلينتبه الداعية من أن يطيع هوى نفسه، ولو طرفة عين؛ فيسقط من أعين المدعوين، ويكون قدوة سيئة، والعياذ بالله. أساسيات القدوة ويضيف الشهراني أن الداعية القدوة يتميز - أيضاً - بصفة أخرى هي أساس في كونه قدوة، ألا وهي عدم انتصاره لنفسه؛ فهو داعية متجرد من حظوظ نفسه، متجرد لله تعالى الذي يدعو إليه، يتسامح مع الخلق، إن هم أخطأوا فيه، ويعفو، ويصفح من أجل أن يغفر الله له، ويعترف بخطئه إن أخطأ، فيصل بذلك إلى درجة راقية من التعامل مع الخلق فيقتدون به آنذاك، فها هي عائشة - رضي الله عنها - تقول: (ما انتصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه قط)، وفي قصة تأبير النخل، وتراجعه - صلى الله عليه وسلم - عن الخطأ أعظم دليل على تجرده لله - سبحانه وتعالى -، وهذا الذي يجب أن يكون عليه الداعية إلى الله تعالى، ولن يصل الداعية إلى هذا المستوى من الرقي في التعامل مع الناس حتى تكون فيه صفة هي أيضاً أساس من أساسيات القدوة الحسنة ألا وهي حسن الخلق، لقد كان - عليه الصلاة والسلام - خلقه القرآن؛ فكان خير من يحتذى به، ويقتدى به - عليه الصلاة والسلام -. الداعية إلى الله يحتاج في دعوته إلى هذا العنصر الفعال عنصر الخلق الحسن الذي به يستجيب الناس له، ويتبعون قوله؛ لأنهم يرون حسن خلقه. الداعية إلى الله هو القدوة في الصبر، والرحمة، والرفق، والتواضع، وحسن المخالطة، يضع أمام ناظريه دائماً وأبداً قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وما ينبغي أن يكون عليه الداعية حتى يكون قدوة حسنة (أن يصون نفسه)، وذلك بالابتعاد عن كثير من المباحات التي تقلل من شأن الداعية في نظر المدعو.