آية كريمة من كتاب الله في فضائل رسول الله وما أعدَّ الله له في الدنيا من عزٍ وتمكين، وفي الآخرة من نعيم مقيم وتفضيل له ولأمته، وما يحاوله الحاسدون والمبغضون، في كل زمان ومكان، النيل من مكانته عليه السلام، والتَّعرض لدينه، والإضرار بأمّته، سواء بالأعمال أو بالألسنة المأفونة أو بواسطة الأقلام المستأجرة، فإن ذلك لا يزداد به محمد إلاَّ رفعة، ولا الدين الذي جاء به - الإسلام - إلاَّ تمكيناً، ولا أمته عليه الصلاة والسلام إلاَّ تماسكاً. ألم يُعْطِ الله جلَّ وعلا في حادثة الإفك التي أراد بها عصبة من المنافقين وأشاعوها فاحشة في بيت النُّبوة قاعدةً تطمئن الرسول وصحابته، ومنوالاً تسير عليه الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. هذه القاعدة توضِّح أن ما يريده الأعداء شراً ينقلب خيراً لمحمد وأمّته الصّابرة المحتسبة، وشراً على من أشاع ذلك الأمر، حيث يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}(النور: 11)، وما يدور اليوم على السّاحة الدولية والمحليّة من نيل وشر موجَّه للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أصبح عملة ذات وجهين: وجه أراده أعداء دين الله الحق (الإسلام) الذي لا يقبل سبحانه من البشر ديناً سواه، محاولةً منهم لطمس معالمه بالإساءة والسفاهة ضد حامل رسالته. ووجه آخر: من جانب مليار ونصف المليار مسلم في أنحاء العالم كلّه, حميّةً لرسول الهداية وحامل لواء الخير للبشرية كلّها؛ لينقذهم من الظلم إلى العدل، ومن الشرِّ إلى الخير. غلى الدم في قلوبهم، وغضبوا لنبيّهم، حباً له واتباعاً لما جاء به، وتعبيراً عن ردّ الفعل لمن حاول الإساءة بأساليب قذرة تنبئ عن مكنون مَن فعل ومَن ساعد وسعى.. ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس شخصاً عادياً حتى يكون مضغة على الألسن، ولعبة بأقلام أهل الأهواء، نظير أجر مدفوع باسم حرية الرأي وديمقراطية الصحافة.. إنه صفوة الخلق وسيِّد ولد آدم، اصطفاه الله لحمل أعظم رسالة، وجعله أنبل معلِّم، وأيَّده سبحانه بالآيات والمعجزات.. فمحبته والدفاع عنه من محبّة الله والذود عن دين الله الحق، فكان اتباع دعوته من لوازم هذا الدين، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}(آل عمران: 31)، والله هو الناصر لدينه والمدافع عن رسوله. لقد أصَّل رسول الله - فداه أبي ونفسي وأمي - هذه المحبة في قلوب أصحابه، كما زادها تمكيناً حلمه وصبره وتواضعه وحسن خلقه وصفاته العديدة التي تأخذ بلبِّ العدوِّ قبل أن يراه، فإذا قرب لم يزدد إلا محبة له وإعجاباً، فيؤمن طواعية بما جاء به من عند الله.. ولقد جاءه يوماً من الأيام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول، إني أحبك وأفديك أكثر من حبي لأمي وأبي والناس أجمعين إلا نفسي، فقال عليه الصلاة والسلام: لا عمر، فقال: وأفديك بنفسي، فقال له: الآن يا عمر. هكذا كان الصحابة، وترسَّخ عند المسلمين طوال القرون محبة رسول الله، فهم يفدونه بأنفسهم وأموالهم وأهليهم والناس، هل ترونهم يتراخون عندما تناله الألسن، أو تلوكه الصّحافة بأي اسم وتحت أي مبرِّر، فلو قرؤوا التوراة التي لم تُحرَّف لوجدوا وصفه ومكانته عند الله وعند أنبياء الله كلهم.. جاء في حديث رواه البخاري بسنده إلى عبد الله بن عمرو أنه قال: (إن رسول الله موصوف في التوراة بما هو موضوع به في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِي إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}(الأحزاب: 45)، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سمَّيتك المتوكّل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه حتى يقيم به الملّة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، يفتح الله به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً). ولما أراد الكفرة والمنافقون النّيل منه لإطفاء نور الله الذي جاء به صبر وتحمّل في سبيل الدعوة؛ لأنّ الله أمره بالصبر في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ}(النحل: 127). وهي سنّة الله الخالدة؛ حتى يميز الخبيث من الطّيب، مع جميع أنبيائه: أن يُؤذوا وأن يصبَّ عليهم الأعداء جام غضبهم وعصارة أحقادهم وحسدهم، لكنّ العاقبة الحسنة لهم ولمن ناصرهم: نصراً في الدنيا، وتماسكاً ضد العدوّ، وأجراً مدَّخراً عند الله، وإظهاراً لدينه، وخسارة وهلاكاً لأعداء دعوتهم، والتّاريخ وكتب الله المنزلة تبيِّن ذلك. ولذا أدَّبهم ربهم على الخصال الحميدة، وقوّة التّحمل، وحسن العاقبة؛ لتأخذ الأمم من بعدهم هذه السجايا أسوة حسنة وطريقة تُتَّبع. ولا تُسْتَغْرَبُ الحماسة والغضب من المسلمين هذه الأيام؛ فإن هذا أقل ما يجب في الدفاع عن دين الله، وعن خير البشرية محمد صلى الله عليه وسلم والذّود عنه، وهو أمر واجب عليهم؛ مما جعل مفكري الغرب وعقلاءهم يقفون مع المسلمين بالصَّوت والمظاهرات في لندن وألمانيا وغيرها؛ حيث أدركوا الخطأ الكبير الذي ألهب المشاعر عند المسلمين، وألحق الأضرار بمصالح مَن يناصر تلك الإساءات ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي جدة عُقد في الأسبوع الماضي اجتماع استثنائي لسفراء ومندوبي الدّول الإسلامية لوضع استراتيجية في الرد على تلك الرسوم وإبراز الصورة الحقيقية للإسلام والمسلمين. وفي النرويج جدَّدت الصحيفتان الدنماركية والنرويجية اللَّتان نشرتا تلك الرسوم اعتذارهما، كما قدَّم السفير النرويجي لدى السعودية اعتذار حكومته وشعب بلاده للمسلمين في العالم بشأن ما نُشر من رسوم. كما نشط بعض السِّياسيين في الغرب للتقرب من الدول الإسلامية؛ لاحتواء الأزمة وطمأنة المسلمين، والتّنديد بما حصل مما أثار غضب الجماهير الإسلامية. وتأتي صحيفة ألمانية لتكتب مقالاً أكَّده المحلِّل النفسي الأمريكي في جامعة شيكاغو جول ما سرمان بأن نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام هو أعظم رجل وقائد في تاريخ البشريَّة. وصحيفة (الجزيرة) نشرت في صفحتها الأولى يوم 14-1- 1427ه: (مظاهرات حاشدة في لندن وباريس.. وسولانا في المملكة اليوم لتهدئة الغضب). وممّا جاء في الخبر: إن آلاف المسلمين وغيرهم تظاهروا وبمشاركة عدد من البرلمانيين البريطانيين في لندن وباريس، أبرزهم النائب جورج غالاوس، في مسيرة تندِّد بالرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا يضره ما عملوه، بل يزيده الله بذلك رفعة، ودينه نصراً. فإذا كان من مفكِّريهم وعقلائهم مَن أدرك هذه الحساسية فإن دورهم كبير؛ إذ يجب أن يعملوا جهدهم في إطفاء نار الفتنة، وأن يسعوا في احتواء مشاعر المسلمين، وأن الحرية الشخصية لها حدود لا يمكن تجاوزها حتى يمكن تسيير العلاقات والمصالح في جوٍّ تحيط به النوايا الحسنة. ونحن المسلمين لا نيأس؛ إذْ رب ضارة نافعة، فكلما نبغت نابغة ازداد الداخلون في الإسلام وكثر المتطلِّعون لمعلومات عن الإسلام الذي انكشف غطاء التعتيم عليه بدعوة محاربته ووصفه بالإرهاب. من معجزات رسول الله ذكر ابن كثير في تاريخه أن رسول الله لمّا قفل من تبوك أتاه وفد بني فزارة، قدموا على إبل ضعاف عجاف مقرِّين بالإسلام، فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بلادهم، قالوا: يا رسول الله، أسنت بلادنا، وأجدبت أحياؤنا، وعريت عيالنا، وهلكت مواشينا، فادعُ ربك أن يغيثنا، وتشفَّع لنا إلى ربّك، ويشفع ربّك إليك. فقال صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، ويلك!! هذا ما شفعتُ إلى ربي، فمن الذي يشفع ربنا إليه، لا إله إلا الله، وسع كرسيه السماوات والأرض، وهو يَئِطُّ من عظمته وجلاله كما يَئِطُّ الرَّحل الجديد. وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله يضحك من شفقتكم وأزلكم وقرب غياثكم. فقال الأعرابي: ويضحك ربنا يا رسول الله؟! قال: نعم. فقال: لن نُعدم يا رسول الله من ربٍ يضحك خيراً. فضحك رسول الله من قوله، فقام صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر وتكلّم بكلام ورفع يديه، وكان صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلاَّ في الاستسقاء، ورفع يديه حتى رُئِيَ بياض إبطيه. وكان ممّا حُفظ عنه في الدعاء: اللهم اسقِ عبدك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحيي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً طبقاً واسعاً، عاجلاً غير آجل، نافعاً غير ضار، اللهم سقيا رحمة ولا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق، اللهم اسقنا الغيث، وانصرنا على الأعداء. فقام أبو لبابة فقال: يا رسول الله، إن التمر في المرابد! فقال رسول الله: اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عرياناً فيسدّ ثعلب مربده بإزاره. قال: فلا والله ما في السماء من قزعة ولا سحاب وما بين المسجد وسُلَع من بناء ولا دار، فطلعت من وراء جبل سُلَع سحابة مثل التّرس، فلما توسَّطت السماء انتشرت وهم ينظرون ثم أمطرت، والله ما رأوا الشمس ستاً، وقام أبو لبابة عرياناً يسدّ ثعلب مربده بإزاره لئلاَّ يخرج التمر منه. فقال رجل: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السُّبل. فصعد صلى الله عليه وسلم المنبر فدعا ورفع يديه، حتى رُئِيَ بياض إبطيه، ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظّراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر. فانجلت السّحابة عن المدينة كانجباب الثّوب.