بعيداً عن شحنات الغضب التي انفجرت من صدر كل مسلم غيور على دينه، وبعيداً عن مشاعر السخط والاستياء الشديدين التي عمت حكومات وشعوب العالم الإسلامي من جراء الهجمة الشرسة واللا أخلاقية التي وقعت على شخص خير الأنام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من قبل بعض الصحف الدانمركية والأوروبية.. بعيداً عن كل هذا لا بد لنا من وقفة مع النفس نحتاج فيها للكثير من التعقل والتأمل والتبصر والتدبر لكي نقيم ما حدث ومن ثم كيفية التعامل معه، حتى لا ننساق إلى ملاقاة ومواجهة التطرف بتطرف آخر، وحتى لا نخرج خاليي الوفاض من هذا الصدام، بل وخاسرين من معركة فرضها علينا الغرب.. هذه الوقفة التي تتطلب وعياً كاملاً لما نحن فيه.. وما نحن مقبلين عليه، ووقفة تستدعي اتحاد كلمة المسلمين - على اختلاف مذاهبهم الدينية - لوضع خطة المواجهة على المدى الطويل، وبشكل دائم وليس مؤقتاً لذلك العدوان العنصري الدائم والمستمر على حضارتنا الإسلامية العظيمة ورموزها السامية. ففي قراءة متأنية للمشهد الماثل أمامنا الآن لما يحدث من تداعيات تلك الفعلة النكراء نجد أن هذا المشهد بات يأخذ أبعاداً حساسة وخطيرة ومقلقة جداً، ليس في منطقتنا العربية والإسلامية فحسب، ولكن في كل مكان في هذا العالم. فلا يريد عاقل أو منصف أن يرتد الغضب المشروع علينا - أي على الغاضبين أنفسهم - ولا يريد أحد في الوقت ذاته الانجراف وراء حرب حضارية لا تمثل أية مصلحة للمسلمين يجري التلويح بها ومحاولة استخدامها من جهات خفية ومشبوهة ترغب في قيادة دفة مشاعر المسلمين الغاضبين من الإساءة للرسول الكريم بعيداً عن أهدافها ومقاصدها النبيلة. من حقنا كمسلمين - ولا شك - أن نغضب للتطاول على ديننا وعقيدتنا وأن نرفض المساس بشكل قاطع بكرامة نبينا، ومن حقنا كمسلمين أيضاً أن نعبر عن ذلك بالوسائل والطرق الحضارية وضمن الإطار الصحيح ولعل التأثير الأقوى والأكثر إيجابية وفاعلية في ذلك هي المقاطعة الشعبية للمنتجات الدنماركية من قبل معظم الشعوب العربية والإسلامية مما دفع حكومة الدنمارك للبحث عن وسائل لنزع فتيل الأزمة وإلى اعتذار رئيس تحرير صحيفة Jyllands Posten الدانمركية، والأهم من ذلك أن الموقف الحضاري والقوي للعالم العربي والإسلامي وجد قبولاً من جانب معظم الحكومات وأجهزة الإعلام في المجتمعات الغربية، الذين أكدوا أن حرية الصحافة لا تعني الطعن في الأديان والسخرية من الأنبياء، وكان من الطبيعي بعد ذلك أن يقتنع المسلمون لما حققوه باحتجاجاتهم المنطقية ومقاطعتهم الحضارية للمنتجات الدانمركية مما أجبر حكومتها وصحيفتها على التراجع وتقديم الاعتذار، وكان علينا أن ننتقل بعد ذلك إلى دعوة الأممالمتحدة لكي تعلن رفضها المساس بالأديان والمعتقدات من خلال قرار ملزم لكل الدول وكل أجهزة الإعلام كما فعل اليهود عندما نجحوا في استصدار قرار يحظر التشكيك في المحرقة النازية وبذلك نضع حداً لهذه الأزمة ونمنع تكرارها. كم كنا نتمنى كمسلمين ألا يشوّه ويسيء لتعاملنا مع تلك الأزمة ونصرتنا لنبينا بعض ردود الفعل المستهترة اللا مسؤولة التي جنحت إلى العنف المفرط، واستعادت خطابات تكفير الآخرين، والتبشير بحرب لا نهاية لها معهم، ولجأت إلى التعدي على سفارات ومراكز ثقافية وبعثات أوروبية بما يتنافى مع الوجه الحضاري المتسامح للإسلام، وبما يخالف التعاليم والمبادئ الإسلامية السمحة. هذا التعبير عن الغضب الذي تذرع به محرقو السفارات وتحطيم الممتلكات العامة حول حملة الإدانة السلمية والحضارية للدنمارك إلى إدانة للمسلمين أنفسهم تغذي من النظرة الغربية الاستباقية والعدائية للإسلام، وتوسيع دائرة الفهم الخاطئ لديننا وباتت الحكومات الإسلامية معها مضطرة إلى التوضيح والاعتذار، فالإعلام الغربي المتربص بنا أصلاً سوف يترك كل شيء ويلتقط من وسط هذه الجموع الغاضبة لوجه الله أحد المتظاهرين المنفعلين الذي يعتدي على أحد المحال التجارية أو على سيارة لا ذنب لصاحبها سوى أنه تركها في هذا المكان الذي حدثت فيه المظاهرة ليقولوا: (هؤلاء هم المسلمون)، كما أن راية (لا إله إلا الله) لن ترتفع بحرق سفارة غربية أو الاعتداء على شخص من رعايا الدول التي اشتركت في فعلتها المشينة بالإساءة لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام. كم نحن أحوج ما نكون إلى استخدام لغة العقل والحجة والمقاطعة وغيرها من الوسائل الحضارية وضبط ردود أفعالنا في التعبير عن مشاعر غضبنا واستيائنا وتنظيمه في خطوات عملية لكي تصل رسالتنا بصورة إيجابية وسليمة وأن ننتهز الفرصة ليرانا الغرب بصورة صحيحة صادقة تعكس صورة إسلامنا وحقيقة ديننا وإنسانية حضارتنا وعظمة رسولنا بما يدفع بهم إلى المقارنة بين هذه المعاملة الإنسانية الكريمة التي تسمو على الإساءة والتجني وبين التهور الحاقد الذي جسدته الرسومات المسيئة لرسولنا الكريم، فيكون الأوروبيون أنفسهم هم المدافعين عن مفهوم الإسلام الحضاري، هذا المفهوم الأخلاقي الذي طبقه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في تعامله مع المسلمين وغير المسلمين في مواقف كثيرة لا تعد ولا تحصى. إن الدعوة إلى الحكمة والتعقل هي دعوة صحيحة وبناءة، شريطة ألا تعني (تجاهل) ما حدث أو (التجاوز) على الإساءة بل انها تستهدف أن يوجّه الغضب ليكون أكثر فاعلية وتأثيراً، تكشف طبيعة الإساءة التي تعرضنا لها، وتشعر الطرف المعتدي بفداحة الثمن الذي يدفعه نتيجة لتجاوزه وتطاوله بما يؤدي إلى ردعه ولجمه وإيقافه عند حده، حتى لا نقع في أشراك وحبائل القوى المعادية التي تريدنا ألا نفرق بين صحيفة تقف وراءها قلة مأجورة حاقدة وبين الغرب كله بقيمه وحضارته وعلاقته التاريخية بهذه المنطقة وأهلها، وتريدنا في الوقت ذاته أن نخسر تعاطف الرأي العام الأوروبي مع قضايانا العادلة وحقوقنا المشروعة. وإذا كان ما جرى مؤخراً في بعض الدول يشكل تعبيراً عن غضب واحتجاج تجاه المساس الشائن بسيد الخلق وخاتم الرسل فإنه عليه الصلاة والسلام قد جاء ليتمم مكارم الأخلاق، ومن الأخلاق أن تتم المجادلة بالتي هي أحسن وأن نملك أنفسنا عند الغضب، مع ضرورة أن نتمسك ما استطعنا بمقاطعة المنتجات الدنماركية، فالاستمرار فيها أمر مطلوب ومفيد حتى يتأكد العالم كله - بما لا يدعو للشك - أننا كعرب ومسلمين نحسن إدارة معاركنا واستخدام كافة مواردنا وإمكاناتنا المتاحة بكافة جوانبها.