وصل الوضع السياسي والحربي والأمني في العراق إلى مستوى معقد أشغل القيادات الإقليمية والدولية المعنية، وأصبح مجالا خصبا لمعظم مراكز الدراسات الاستراتيجية ومراكز التفكير وأبحاث الأزمات. ولا تخلو وسيلة من وسائل البحث والحوار والإعلام السياسي والاستراتيجي من مشاركات متنوعة للمهتمين بهذا الشأن الذي يشكل بُعدا خطيرا على المستويات الإقليمية والعالمية. وتهدف هذه المقالة إلى إثارة التفكير حول أفضل الحلول الممكنة لفك اشتباك المثلث القاتل المتمثل في واقع وتبعات أزمة الاحتلال الامريكي للعراق. وقد أصبحت خلفيات وتداعيات الحرب على العراق ومدى عدالتها ومراحل تطورها كتابا مفتوحا يقرؤه الجميع كل حسب معطياته، وأصبح الحديث عن استراتيجية الخروج الآمن للقوات الأمريكية أكثر إثارة على محيط الاعلام العالمي اليوم؛ نظرا للواقع الراهن وما يحيط بالحملة الأمريكية في العراق من غرائب وتناقضات. رؤية أم حلم؟ ويكفي للمهتم بهذا الشأن المؤلم أن يتابع الإعلام الأمريكي ليدرك أن الولاياتالمتحدةالأمريكية وكأنها تواجه أزمة سياسية - عسكرية حادة بتحول الوضع في العراق إلى مستنقع خطير يسوء شهرا بعد آخر. فهنالك الخسائر البشرية والمادية والمعنوية البالغة والمحزنة في جانب العراق والعراقيين الأبرياء في بنيتهم التحتية وفي شتى مجالات حياتهم ومعنوياتهم. وليس من شك في أن دول الجوار العراقي تتأثر سلبا بتدهور الأوضاع العراقية ويطالها الكثير من التبعات المؤلمة أيضا. وبالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية فإن تزايد أعداد القتلى والجرحى من القوات الأمريكية أصبح عند مستوى لا بد أنه يثير قلقا بالغا لكل من له علاقة بصناعة القرار في هذا الخصوص. والمتابع لهذا الشأن المتدهور يدرك أن هنالك أصوات أمريكية مرموقة تتحدث عن واقع حملتهم في العراق بأدق التفاصيل وبكثير من وجهات النظر الحكيمة والمناقضة لها أحيانا. وسوف يزيد هذا الوضع المعقد من تحريك القوى الشعبية والسياسية الأمريكية للبحث عن استراتيجية خروج آمنة لسحب القوات الأمريكية من العراق. فإذا افترضنا وجود مثل هذا التوجه في الجانب الامريكي بموجب منطقيته ومبرراته فإنني أتوقع انه يعتبر في هذه المرحلة مجرد حلم لا يزال صعب المنال؛ فليس هنالك رؤية واضحة المعالم يمكن ان تبنى عليها استراتيجية أمريكية للخروج من أزمة العراق تعتبر مناسبة لكل الأطراف. فالاستراتيجية القابلة للتنفيذ والنجاح هي تلك المضمون تحقيقها بأقل خسائر ممكنة أو بشيء من المكاسب الواضحة أو مستوى لائق لحفظ ماء الوجه لكل الأطراف المعنية. وفوق ذلك أن تتضمن الاستراتيجية ترتيبات أمنية عادلة وحكيمة تحقق نتائج آنية ومستقبلية للمجتمع العراقي الذي يمثل المعادلة الصعبة في المخارج الآمنة المتوقعة. استراتيجية الخروج أم حكمة القادة؟ ورغم الإعلان مؤخراً عن سحب عدد من الجنود الأمريكيين فإن هذا في نظري لا يخرج عن كونه أمرا متوقعا وروتينا طبيعيا تفرضه حكمة المخططين لأهمية سحب وتبديل القوات بين الحين والآخر منذ أن بدأت الحملة. فارتفاع كثافة العمليات الميدانية القتالية وسرعة إيقاع المعارك يحتمان على القادة العسكريين المحافظة على جاهزية قتالية قوامها الروح المعنوية للجنود التي لا شك أنها تنهك بتسارع إيقاع الحوادث القتالية وطول مدة بقاء الجنود في مسرح العمليات. وسواء كان هذا الإعلان جزءا من استراتيجية خروج نهائي أو مجرد تبديل للقوات لإدامة جاهزيتها ومعنوياتها فإنني أتوقع تصاعدا في وتيرة الحملات السياسية الأمريكية تمهيدا للانتخابات الرئاسية القادمة وما قد يسبقها من حملات انتخابية نيابية أخرى. وبمرور الزمن سوف تتزايد ارقام القتلى من الجنود الأمريكيين التي اصبحت قراءتها حاليا أبلغ تأثيرا على الجمهور الأمريكي من ذي قبل. فقد اقترب عدد القتلى من (2200) شخص من مختلف الوحدات المشاركة في الحرب، وهو رقم مخيف تبرزه صور الجنائز وما يصاحبها من مآتم متواصلة تغذيها التغطيات الاعلامية القوية. وتتعدد الحملات الأمريكية الفردية والجماعية المناوئة للحرب مستفيدة من الحزن الذي يصاحب تزايد عدد الخسائر البشرية الأمريكية. ومضافا إلى ذلك أرقام الجرحى والمعاقين وكذلك المليارات التي يتكبدها دافعو الضرائب الامريكيون دون مبررات قوية تقنع مناوئي الحرب. كل تلك المعطيات سوف تعتبر عوامل حسم حقيقي في الانتخابات الرئاسية القادمة وما يسبقها من حملات سياسية وإعلامية محلية. هذه الخسائر مضاعفة بالفشل الذريع في تحقيق الغايات التي شنت الحملة في الأساس بسببها على العراق تعتبر مركز الثقل الأساسي في الاستراتيجية الامريكية الراهنة في العراق. وتعد حالة الاستنزاف والإنهاك والوضع الراهن على أرض الواقع في العراق لكل القوى والأطراف المعنية بهذه الأزمة خير برهان على الموقف الذي يكاد يكون قد وصل إلى طريق مسدود مليء بالألغام والمخاطر. حضارة وفلسفات دول الجوار في معادلة الخروج وتمثل دول الجوار العراقي محوراً أساسياً لا يمكن وضع أي ترتيبات حكيمة لحل أزمة العراق أو المساعدة في تخليص الولاياتالمتحدةالأمريكية من ازمتها في العراق بخروج آمن دون العمل من خلاله. ولن يكتب النجاح الدائم لحل هذه الأزمة من غير التفكير الجاد والتخطيط للعمل بمنهج وفلسفة جديدة قوامها الالتزام بالعدل والشفافية. ولا تكتمل أي استراتيجية للخروج الآمن دون الاعتراف لكل دولة من دول الجوار بطبيعة وواقع علاقتها مع العراق واحتوائها إيجابيا للاستفادة مما لديها من معطيات وقوى فاعلة دون الاستهانة بشيء من ذلك. ولا أتوقع أن تكون هنالك ضمانات تكفل حشد جهود القوى المؤثرة من دول الجوار وكسب دعمهم لصالح انهاء الأزمة ما لم تكن هنالك ثقة ومصداقية متبادلة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول الجوار للشراكة الجادة في وضع الترتيبات قريبة المدى وبعيدة المدى لإنهاء هذه الأزمة. وسوف يصعب على الولاياتالمتحدةالأمريكية أن تكسب دعم وتضامن القوى الفاعلة في الجوار العراقي ما لم تستمع جديا إلى فكر وفلسفة وهموم دول الجوار. ففي هذه المنطقة من العالم ما يخصها من العوامل الحضارية والتاريخية والمعطيات السياسية التي تكوّن رؤية دولها وشعوبها لهذه الأزمة ونظرتهم حول واقع الحال الأمريكي على الأرض العراقية. وهنالك زوايا متعددة لرؤية الأزمة العراقية المعقدة في التبعات المترتبة على استمرار الموقف على حالته الراهنة. وحين يطرح طرف واحد في هذا المثلث رؤيته المنفردة لترتيبات النجاح أو استراتيجية الخروج الآمن ويتشبث بها أو يمليها فإنه حسب قناعاتي يجهل الحقائق التاريخية والاجتماعية لهذه المنطقة من العالم. وذلك يساهم في تعقيد وتأخير تحقيق عملية الخروج الآمن المنشود. وليس من الحكمة لطرف معين أن يساوم أو يناور بفلسفات تعتمد على الأوهام أو الأطر التفاوضية التي لا تنطبق أسسها على القيم والفلسفات التاريخية لمجتمعات هذه المنطقة. فالدروس المستفادة من تاريخ الصراع في منطقة الشرق الأوسط تثبت أن لا شيء يجعل الأمور أكثر سوءا وتعقيدا في الشرق الأوسط أبلغ من جهود بعض القوى الخارجية لتحسين الأوضاع في هذه المنطقة. وهذه المنطقة من العالم بما فيها العراق لا تستحق أن تُستنفد في شؤونها جميع الاحتمالات الخاطئة قبل اكتشافات الحلول العادلة والآمنة. عند نقطة الذروة.. ضمانات وتوازنات إقليمية وقد تعددت التحليلات عن تداعيات الانتصار الأمريكي المفترض أنه كان متوقعا قبل أكثر من سنتين عند بداية الحملة فور الانتصار بسقوط النظام السابق. وحسب وتيرة الأحداث الدامية لاحقا فلا تزال هنالك آراء أيضاً حول مستويات متوقعة من الهزيمة أو الانتصار لا تزال تلوح في الأفق تتحدث عنها الأطراف المتناحرة بسبب هذه الحملة المتدحرجة حتى الآن. والمنطق أيضاً يقول إن دول الجوار تعلم أن ليس من صالحها استمرار تدهور الاوضاع في دولة جار مثل العراق بما لهم فيها من عمق استراتيجي وروابط تاريخية وحقائق اجتماعية. فتلك معطياك أكيدة تحتم حاجتهم لعراق آمن مستقر. وأتوقع من هذه الدول مساهمات فاعلة ومخلصة لإنهاء الأزمة متى ما توافرت الشروط لذلك وطلبت منهم المساعدة بما يكفل حقهم في الاعتراف بالحاجة إلى أدوارهم وما تتطلبه المرحلة القادمة من ضمانات وتوازنات إقليمية. وقد يتوقع بعض المنطقيين أن الأمريكيين قد اقتربوا من نقطة الذروة - قاصمة الظهر - واحتمال انهيار مركز ثقلهم عسكريا وسياسيا في العراق من جراء حجم الخسائر وصعوبة تحقيق أهداف الحملة الراهنة. وهذا المقياس ليس بالضرورة انه كذلك عند هذه المرحلة رغم تصاعد المؤشرات. ولكنه قد يعتبر مؤشرا مهما أيضاً يقرر حاجة فعلية لدى دول الجوار للإسهام في تحقيق استقرار العراق. فهذه الدول أيضاً يتزايد قلقها تجاه العراق وتخشى من تفاعلات الوضع الراهن إلى مستقبل تصعب السيطرة عليه. وإذا كنا نتوقع أن يصبح الجوار لاعبا رئيسيا في تفكيك هذا المثلث القاتل فلأننا ندرك أيضا أنهم اصحاب تجربة سياسية في منطقتهم لا يستهان بها ولديهم خبرة حقيقية في ادارة الأزمات والخروج منها بأقل الخسائر وشيء من نجاح. سيناريو الغضب.. الغطرسة الوهمية ويجمل بالولاياتالمتحدةالأمريكية ألا تتجاهل دور دول الجوار أو تقلل من قوتهم في تحقيق ترتيبات مناسبة للوضع الراهن وإنجاح سياسة خروج آمنة يُفترض أنها تسعى لبلورتها وتنفيذها. فقد تصبح الولاياتالمتحدةالأمريكية بمفردها هي الخاسر الأكبر، وسيكون عامل الزمن سببا في مزيد من استنزاف قواها. ويعد تأخير الحلول لهذه الأزمة كفيلا بغرس مزيد من التعقيدات التي تصبح معها الحلول المستقبلية أكثر صعوبة وأبلغ ثمنا على الولاياتالمتحدة وعلى الجميع. وأسوأ ما في هذا السيناريو هو تعميق حجم الغضب والكراهية بمرور الزمن وتراكم سلبيات الحوادث القتالية ضد الولاياتالمتحدةالأمريكية في وقت تدفع فيه الحكومة الأمريكية المليارات وتضع الخطط لتحسين سمعتها وكسب الأصدقاء. وأخشى ما أخشاه أن وتيرة الأحداث الراهنة تسوق الأمور نحو تراكم السلبيات وتعقيد الأوضاع. فمن المسلَّمات في مثل هذه الحملة الحربية أن يستخدم مبدأ (كسب القلوب والعقول) لأهميته في تحقيق النصر المنشود إلا انه لا يزال شبه مغيب أو لم يحسن استخدامه في مسرح عمليات العراق رغم توافر المعطيات والمناخ الملائم. وقد خفت حدة الآمال الوهمية المبكرة والغطرسة المتمترسة خلف قوى وهمية مستقبلية كانت أصواتها قد صاحبت حملة غزو واحتلال العراق. وقد بدأت تلك الأصوات تختفي تحت وطأة الحالة الراهنة المعقدة. فقد كانت هنالك أصوات غير مسؤولة فيها نبرة الابتزاز والانكار لبعض حكومات وشعوب دول الجوار ابرزتها بعض وسائل الإعلام عند بداية الحملة قبل أكثر من سنتين. وقد كان هنالك ضجيج عاطفي غير مبرر أو حكيم تضمن شيئا من الاثارة حملها إعلام خارجي وآخر اقليمي يراهن على الإشاعة المصاحبة للحملة الحربية بعراق جديد ديموقراطي مزدهر سياسيا وامنيا سيكون قدوة ومثالا للشعوب المجاورة بما يشبه التلويح بالتهديد المبطن حينئذ لدول الجوار. أكثر من أي وقت مضى وعند هذه المرحلة الحاسمة من عمر هذه الأزمة فإن نجاح الانتخابات العراقية يعتبر عاملا مشجعا نتمنى أن يحقق طموحات المخلصين من أهل العراق ومحبي الخير للعراق. ويبقى المحلل للواقع عند هذه المرحلة والمراقب للمتغيرات التي تحدث على المسرح العراقي بشكل عام يعتقد ان الوضع قد وصل إلى درجة مؤلمة من الاستنزاف والإنهاك واليأس. وذلك واقع يشير إلى ألا أحد من الاطراف المتنفذة داخل القوى العراقية يملك مستوى موثوقا من الاستقلالية الفاعلة او ادوات للمساومة الحاسمة. فالكل يكاد يكون متساويا في حجم الخسائر وهي محصلة في مجموعها تنهك الكيان العراقي الموحد. واتوقع ان كل القوى المتنفذة تبحث الآن أكثر من أي وقت مضى عن أي نوع من المخارج الآمنة تنقذهم وبلادهم من ازمتهم المتدهورة شهرا بعد آخر. وليس من شك في أن العراق بلد غني بمقومات الاستقرار والازدهار حينما يتوافر له المناخ الملائم. وهو بلد عريق بشعبه وتاريخه، وفيه مصادر متعددة وغنية تجعله يمتلك أهم مقومات الازدهار. ويستحق أهل العراق أن تستقر أحوالهم وينعمون بالأمن الدائم ويستثمرون عائدات بلادهم الغنية بمقدراتها الطبيعية والاجتماعية بعيدا عن تلاحق الأزمات وتبعاتها المؤلمة. والله الموفق. (*) عضو مجلس الشورى السعودي نائب رئيس اللجنة الأمنية بمجلس الشورى