مدخل: هل هناك علاقة بين كوفة العراق المشحونة بالقلق,, والخط الكوفي القلق الذي نظم الشاعر حبات قلقه من خلاله؟! هذا ما يحتاج لدراسة يتدخل فيها منهج النقد النفسي الذي لن نتعامل معه الآن. بدايةً: لن نتوسع في هذه الدراسة وإلا فالمجال واسع، والنص أرض خصبة، لا يمل العطاء ولا ينضب معينة,, وسنقتصر في الدراسة لهذا النص على زاوية واحدة فقط ننظر اليه من خلالها هي زاوية عد حبات القلق التي أجمل الشاعر عددها اجمالا في البيت الأخير القائل: ثر حبات القلق فوق خطٍ كوفي ليلة البارح ماهي ليلةٍ عادية أي بعبارة أخرى نريد ان نثر حبات القلق فقط,, لنرى هل صدق هذا البيت بأن هناك حبات قلق حقيقية تحملها القصيدة,, أم أنه بيت نظم لا يحمل عمقا دلاليا بداخله، ولا يعدو كونه بيتا عاديا. يبقى أن نذكر بشعارنا الذي نؤمن به دائما، وهو الذي يقول بأن الشاعر عندما تعانق موهبته مشاعره بصدق فالنتيجة الحتمية هي قصيدة متكاملة تقف شامخة أمام جميع مناهج النقد وأدواته وطرقه بكل ثقة واستجابة,, كما نؤكد بأن هذا الشعار يثبت صحته ومدى صدقه عند كل دراسة نقدية جديدة. لندخل النص ونرى أولى حبات القلق التي ينظمها سلك حياة الشاوي العاطفية، وهي التي حملها البيت الأول: الهوى مسباح والوقت اصابع صوفي آه يا ثقل الخطاوي هكا العصرية فقد حملت ألفاظ هذا البيت صورة موغلة للبطء المتناهي لحركة الزمن على مشاعر هذا القلِق بكل سلاسة وسهولة وذلك باستدعاء صورة المسباح وأصابع الصوفي,, للتعبير عن احساسه بثقل خطاوي هكا العصرية التي مثلت للشاعر الواله المنتظر على أحر من الجمر قلقا كبيرا عايشه نفسيا,, وقد كانت هذه الصورة التي هي أولى حبات القلق واحدى الصور النفسية لذلك الانتظار لتمثيل الاحساس النفسي باللهفة والاستعجال بما فيهما من شوق وترقب خلال لحظات هكا العصرية . أما حبة القلق الثانية فهي الصورة النفسية التي نقلها الشاعر من خلال ألفاظ البيت الثاني: أطرد أمواج البحر لين يكسر شوفي ما ملاعيني من العابرين بنيه وهي الصورة المتمثلة بتجسيد المشاعر المستعجلة المتوثبة بصورة طرد أمواج البحر,, لكي يشمر نفسه بمسايرة مشاعرة المتسارعة، ليتمكن من اخفاء أو تجاوز الواقع المتمثل بالموقف الحقيقي وهو وقوف الانتظار ,, فهو يرى بأنه لا يملك أمام حقيقة واقعة المتوقف إلا أن يطلق مشاعره النفسية ولهفته للركض خلف أمواج البحر طلبا واستحثاثا لاسراع لحظات الزمن التي تزحف كزحف أصابع الصوفي على مسباحه. أما حبة القلق الثالثة في مسبحة مشاعره فهي التي أوجدها بانتقاله لتصوير مشاعره المستعجلة بصورة اوضح ومن بُعد آخر من خلال ما حملته لنا ألفاظ البيت الثالث: ما تبلين الورق يا سحابة طوفي بانتظر هتان,, واشره على وسميه فبعد أن وضح لنا بأنه في الحقيقة ما هو إلا كتلة راكضة منطلقة حتى ولو بدا لنا في الواقع أنه متوقف ,, انتقل لتحريك الكون من حوله من خلال طلبه من السحابة أن تطوف بسرعة، لكي تستأنس مشاعره بهذه السرعة التي تناسبها,, وتشعره بأن الأشياء من حوله تشاطره أحاسيسه. ولكن كل ذلك لا يشفي غليله فيطلق الآه الثانية: آه,, يا طول انتظاري وما كثر خوفي وهي حبة القلق التي تقابل ما يوجد عادة في المسباح من حبات تختلف في حجمها وشكلها عن بقية حبات المسباح,, ولهذه الحبة موقعها وتأثيرها ودلالتها. بعد ذلك تأتي حبة القلق الرابعة بصورة الاحساس بانتهاء وقت الموعد موعد اللقاء ,, بما يحمله هذا الاحساس من شعور باليأس الذي يتخلله قليل من الأمل الضعيف,, وذلك من خلال قوله: ,, طاح شمس,, وشمسٍ أخرى بعيني حية,. فالشعور باليأس تستدعيه صورة غياب الشمس طاح شمس ,, والأمل الضعيف المتبقي تنفث الحياة في روعة صورة الشمس الأخرى الصورة التي لم تغب عن باله للمنتظرة,, التي جعلها الخيال شمس أخرى بعينه حية . أما حبة القلق الخامسة في مسباحة ,, فهي صورة احساسه بالعجز أمام كسر دقائق الزمن: جيت أباكسر هالدقايق وطال وقوفي لدرجة أن السحر انقلب على الساحر,, فأصبح يحس كأن الساعة أخذت في الدوران عكسيا: ,, كن هالساعات دوراتها عكسية,. أما حبة القلق السادسة ,, فهي احساسه بالشعور الذي تملكه والذي يؤكد له بأن المنتظرة التي تجشم لأجل عينيها كل هذا العناء والعذاب النفسي لن تفي بوعدها ولن تحضر: كانه احساسي صدق بالوعد ما توفي ولكن عند اللحظة التي ضاق به كل شيء، وكل فضاء حتى نفسه ومشاعره,, وضاقت به الأرض بما رحبت أتى الفرج,, ضاقت فلما استحكمت حلقاتها,, فُرجت وكنت أظنها لا تفرج ,, وعند كل ضيق فرجا,, عند ذلك: أقبلت مثل البخت بالحرير الموفي واختلط جمر التباريح والحنية وعند ذلك أيضا: ثرحبات القلق وهي التي تتبعناها فوق خط كوفي وحسنا فعل,, لأنه لو احتفظ بكل تلك المشاعر، لظهرت نتائجها العكسية عليه,, ولكن لحظة اللقاء أنهت المعاناة وأزالت آثارها وأعادت المشاعر والأحاسيس لقواعدها سالمة. حقا إنها لحظة غير عادية,, نقلتها قصيدة غير عادية,, استطاعت نقل صورة رسمها شاعر غير عادي.