إن في كر الأيام والليالي لعبرة، والأيام تمر مر السحاب عشية تمضي وتأتي بكرة، وحساب يأتي على مثقال الذرة والناس برمتهم منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حط عن رحالهم إلا في الجنة أو في السعير. ألا وإن سرعة حركة الليل والنهار لتؤكد تقارب الزمان الذي هو من أشراط الساعة كما صح بذلك الخبر عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وهذا كله يعد فرصة عظمى لإيقاظ ذوي الفطن وأصحاب الحجى لفعل الخير والتوبة النصوح وإسداء المعروف وترك ما يشين. ولقد ظل المسلمون جميعاً شهراً كاملاً ينالون من نفحات ربهم.. متقلبين في ذلك بين دعاء وصلاة وذكر وصدقة وتلاوة للقرآن، ولكن سرعان ما انقضت الأيام وتلاشت الذكريات وكأنها أوراق الخريف عصفت بها الريح على أَمْرٍ قد قُدِر، أو بلابل دوح قد هدأ تغريدها وإلى الله المصير. ترحل شهر الصبر وا لهفاه وانصرما واختص بالفوز في الجنات مَنْ خدما وأصبح الغافل المسكين منكسراً مثلي فيا ويحه ياعظم ما حُرِما مَنْ فاته الزرع في وقت البدار فما تراه يحصد إلا الهمَّ والندما ولقد كان شهر رمضان المبارك ميداناً لتنافس الصالحين بأعمالهم ومجالاً لتسابق المحسنين بإحسانهم وعاملاً لتهذيب النفوس المؤمنة روضها على الفضيلة وارتفع بها عن الرذيلة وأخذت فيه دروساً للسمو الروحي والتكامل النفسي، فجانبت فيه كل قبيح واكتسبت فيه كل هدىً ورشاد، فبهذا فإنه يجب أن تستمر النفوس على نهج الهدى والرشاد كما كانت في رمضان، فنهج الهدى لا يتحدد بزمان أو مكان وعبادة الرب وطاعته يجب ألا تكون قاصرة على رمضان. ألا وقد ذهبت تلك الأيام الفاضلة وكأنها طيف خيال وقد قطع الناس بها مرحلة من حياتهم لن تعود إليهم أبداً، وإنما يبقى لهم ما أودعوه فيها من خير أو شر، وهكذا كل أيام العمر مراحل يقطعها الناس يوماً بعد يوم في طريقهم إلى الدار الآخرة فهي تنقضي من أعمارهم وتقربهم من آجالهم. تمر بنا الأيام تترى وإنما نساق إلى الآجال والعين تنظر فلا عائد ذاك الشباب الذي مضى ولا زائل ذا الشيب المكرر إن من يقارن أحوال الناس في رمضان وبعد رمضان ليأخذ العجب من لبه كل مأخذ حينما يرى مظاهر الكسل والفتور والتراجع عن الطاعة في صورة واضحة للعيان، وكأن لسان حالهم يحكي أن العبادة والتوبة وسائر الطاعات لا تكون إلا في رمضان، وما علموا أن الله سبحانه وتعالى هو رب الشهور كلها، وما شهر رمضان بالنسبة لغيره من الشهور إلا محط تزود وترويض على الطاعة والمصابرة عليها إلى حين بلوغ رمضان الآخر، ولا غرو في ذلك فالله جل وعلا أتبعَ فرض الصيام على عباده بقوله:{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وعندما قيل لبشر الحافي: (إن قوماً يتعبدون الله في رمضان فإذا انسلخ تركوا، قال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان). ومن هنا كان لزاماً علينا أن ننظر إلى حقائق العبادات وآثارها لا إلى صورها ورسومها، إذ كم من مجهد نفسه كان حظه من صيامه الجوع والعطش، وكم من مواصل للعبادة فيه فكان حظه فيه التعب والسهر، وآكِدُ ما يدل على ذلك حينما يسائل الناس أنفسهم: كم مرة قرأوا القرآن في رمضان؟ وكم سمعوا فيه من حكم ومواعظ وعبر؟.. بل ألم يسمعوا كيف فعل ربهم بعاد (إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد)، ألم يقرأوا صيحة عاد، وصاعقة ثمود وخسف قوم لوط؟ بل ألم يقرأوا الحاقة والزلزلة والقارعة وإذا الشمس كورت؟.. فسبحان الله ما هذا الران الذي على القلوب؟ أَفغدت قلوبنا بعد ذلك من صخر؟... ألا فليت شعري أين القلب الذي يخشع والعين التي تدمع؟... فلله كم صار بعضها للغفلة مرتعاً وللأنس والقربة خراباً بلقعاً.. وحينئذٍ لا الشباب منا ينتهي عن الصبوة، ولا الكبير فينا يلتحق بالصفوة، بل قدر فرطنا في كتاب ربنا في الخلوة والجلوة وصار بيننا وبين الصفا أبعد ما بين الصفا والمروة فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. نعم إن لرمضان ميزةً وخصوصيةً في العبادة ليست في غيره من الشهور بيد أنه ليس هو محل الطاعة فحسب، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم جواداً في كل حياته، غير أنه يزداد جوده إذا حل رمضان، ناهيكم عن أن الرجوع والنكوص عن العمل الصالح هو مما استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: فيما صح عنه: ( وأعوذ بك من الحور بعد الكور)، إذ لم يقتصر الخير على شهر رمضان فحسب بل إن هذا كله إنما هو استجابة لأمر ربه جل وعلا بقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، فلا منتهى للعبادة والتقرب إلى الله إلا بالموت، ولئن انقضى رمضان فبين أيدي الناس مواسم تتكرر في اليوم والليلة خمس صلوات فرضها الله على عباده، يُدعى لحضورها في المساجد ليقف الناس بين يدي مولاهم جل وعلا فيستغفروه ويسألوه من فضله، وبين أيدي الناس موسم يتكرر كل أسبوع وهو صلاة الجمعة، ويوم الجمعة الذي اختص الله به هذه الأمة فيه ساعة الاستجابة التي لا يوافقها عبد مسلم يسأل شيئاً إلا أعطاه إياه، وبين أيديهم مواسم في جوف الليل وفي وقت الأسحار، بل وبين أيديهم صيام الست من شوال التي إذا صامها المسلم مع شهر رمضان كمن صام الدهر كله. ألا وإن الشهور والأعوام والليالي والأيام كلها مقادير الآجال ومواقيت الأعمال، ثم تنقضي سريعاً وتمضي جميعاً، والذي أوجدها وابتدعها باقٍ لا يزول، ودائم لا يحول، هو في جميع الأوقات إلهٌ واحدٌ، ولأعمال عباده رقيبٌ ومشاهد.. فاللهم اجعل مواسم الخيرات لنا مربحاً ومغنماً وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمتك طريقاً وسلماً.