لازلت أشكر الشاعر العبقري التونسي أبو القاسم الشابي، الذي ولد في بلدة الشابية، عام 1909م وتقع في ضواحي توزور التي نشأ وترعرع في سحر الطبيعة وجمالها، قضى فيها أيامه القصيرة وسطر قلمه أروع الشعر، شب في بيئة إسلامية فحفظ القرآن الكريم والتحق بمدرسة الزيتونة، ثم التحق بالمدرسة التونسية للحقوق.! كان أبوه من رجال القضاء الشرعي وبعد وفاته أصبح الشابي وحيدا تتقاذفه أمواج الوحدة وهو بين أم وإخوة وأخوات صغار فقدوا المعيل، وقد تكالبت عليه الهموم من كل صوب وشعر أنه يعيش بين اليأس والألم الذي دب إلى نفسه بعد مرضه بالقلب مما أرغمه على العزلة. فانطبع ذلك بداخله وأنشد يرمم أوجاع قلبه قائلا: ضاع أمسي وأين مني أمسي وقضي الدهران أن أعيش بيأسي ويحاول أن يخفف عن نفسه في بعض قصائده فيقول: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر ذاك الشاعر المطبوع على الكآبة يطرح من خلالها حزنه الذي لازمه كعظم حياته. كتب العديد من قصائده والتي جمعت في ديوان أغاني الحياة. كما يتميز شعره بالجرأة وتأثر بالقدامى خاصة المعري في تشاؤمه وقلقه. يقول في قصيدته: تمضي الحياة بماضيها وحاضرها وتذهب الشمس والشطآن والقمم وأنت أنت الخضم الرحب لا فرح يبقى على سطحك الطاغي ولا ألم سأعيش رغم الداء والأعداء كالنسر فوق القمة الشماء رغم المآسي الصحية التي اعترت قلب الشاعر إلا أن هناك صوتا واقعيا، ودقة بالغة التعبير. والشابي من المعجبين بشعراء المهجر كجبران، وأبي ماضي، يملك من الحس الشفاف فيعانق الطبيعة بحسه المرهف، وينطلق بإيمانه وإرادته منشدا: ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر يقول النقاد إنه صوت واقعي سابق الزمن، بصوره الشعرية. يقول في قصيدته إلى طغاة العالم: اسكتي يا جراح واسكني يا شجون مات عهد النواح وزمان الجنون وأطل الصباح من وراء القرون.. إلى أن قال: وداع الوداع يا جبال الهموم يا ضباب الأسى يا فجاج الجحيم قد جرى زورقي في الخضم العظيم ونشرتُ القلاع فالوداع الوداع.. توفي أبو القاسم في التاسع من أكتوبر عام 1934م ولم يترك أي أثر شعري آخر، باستثناء كتاب نثري (الخيال الشعري عند العرب) يحتوي على محاضرة ألقاها عام 1929م. ونسي نتاج الشاعر الأدبي والذي يتناهى إليه النسيان. صبغت الهموم حياة الشاعر بالسواد، وحمل اليأس في حناياه كانت لحظة الغربة ملازمة له، فيما كان يبحث عن رؤى وآمال تستوعب ذاك الحب للحياة والانعتاق للطبيعة ليتحرر من أفكار تراوده التي انطبع بها شعره. وسار شعره على منهج الأقدمين لإثبات نزعة التجدد في شعره. ياموت قد مزَّقت صدري وقسمت بالأرزاء ظهري ورميتني من حالق وسخرت مني أي سخر وقسوت إذ أبقيتني في في الكون أذرع كل وعر