وأمام طوفان الغزو المتعدِّد المنافذ، والتحوُّلات المزامنة للنظام العالمي والعولمة، يجب على المؤسسات: الدينية والتربوية والإعلامية والثقافية التحرُّف الجاد لإعداد وسائل حضارية للترويح والترفيه، والتخفيف من التحفُّظ الزائد والخوف المعوِّق. فالمؤسسات كالمضطر، عليه ألاّ يكون باغياً ولا عادياً، وللضرورات أحكامها: فراغ ممل، وشباب بريء، وإمكانات متعدِّدة، ودعاة سوء، وكاسيات عاريات مائلات مميلات، وأغانٍ ماجنة، وتمثيليات مسفة. وفي ظلِّ هذه الظروف تتضاعف المسؤوليات، وتتعقَّد الحلول، وتصعب المواجهة، مما يتحتَّم معه التحرُّف والتحيُّز. وقطاعات التربية والإعلام والدعوة والثقافة والهيئات تمثِّل خط الدفاع الأول، ولا شك أنّها حريصة على تحقيق الأهداف التربوية السليمة، ولكن الظروف العصيبة تتطلَّب إعلان النفور بأحدث الوسائل وأدق الآليات. ومع أنّه من الضروري حفظ التوازن، ودرء المفاسد، وسلامة المقاصد، وملاءمة البرامج للمستويات العمرية وتعدُّدها، وعدم تأثيرها على الواجبات الدينية والدنيوية، وتوفّرها على تنمية المهارات وسلامة القدرات العقلية والصحية والجسمية، والتربية الخلقية والمعرفية، فإنّ مؤسسات الترويح الرياضي تقع تحت غزارة الإنتاج وسوء التوزيع، ومن ثم تفقد التعميم والاستمرار، وتتصف بالمنطقية والرتابة، وقد لا تتمتع بالقبول الجمعي، وقد لا تجد الراحة للمتابعة والمراقبة بحجّة التخصُّص وأهلية المسؤولية، وأحسب أنّ المرافق العامة لا تملك خصوصية التنفيذ، ولا تسمو فوق النقد والمساءلة. ومع تعدُّد المجالات وتنوُّع المفردات والانفتاح على كلِّ شرائح المجتمع، فإنّ الأهم وضع الضوابط التي تحول دون النقص أو الانفلات أو المخالفة. والضوابط قد تكون متعلّقة بذات الممارسة، أو بذات الممارسين، أو بمكان الممارسة، أو بزمانها، أو بمقدارها، أو بأزيائها. ولست أشك أنّ المؤسسات ذات العلاقة تضع كلّ الاعتبار للضوابط والشروط، ولكن آراء الناس مختلفة حول الشرط والضابط، وهذا الاختلاف يضع المؤسسة تحت طائلة المساءلة. وليس من المجدي أن تذعن المؤسسات لكلِّ دافع أو مانع، ولكن المجدي توخِّي التوازن. ومتى تُركت الممارسات الترويحية للظروف والصُّدف، أو غلّت أيدي الممارسين، حادت العملية عن مسارها التربوي. وأحسب أنّ هذا الزمان المليء بالمغريات، المفعم بالقلق والملل والترف بأمسّ الحاجة إلى التوسُّع في مجالات الترويح، فالشباب صيدٌ ثمينٌ لكلِّ مغرض، ولأنّ الدول المتقدمة في ظاهر الحياة الدنيا قد أخذت قسطاً وافراً من وسائل الترويح، وهي وسائل قد لا تكون مباحة في الشريعة الإسلامية، فإنّ من واجبنا عرض ما يفد منها على ضوابط الشريعة، فما كان منها مقبولاً أخذ به، وما كان محظوراً وأمكن التعديل أو التبديل لزم ذلك، وإلاّ وجب المنع، وفي إسلامنا من الفسح والرخص ما يغني ويقني. وإذا كان الإحقاق والإبطال متعلّقين بالاختلاف المعتبر وجب الميل إلى المحقّقات، ذلك أنّنا في وضع استثنائي، يتطلّب منا المبادرة وتدارك الأمر قبل فواته. ونحن إذ نحفز على المبادرات فإنّنا نجد الأُمّة العربية قد وقعت في التبعيّة، وتحقّق فيها خبر الرسول صلى الله عليه وسلم (لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر)، وكثير من وسائل الترفيه والترويح مجلوب دون وعي بمفاسده، في ظل البدائل الأكثر سلامة والأعم فائدة، والأنسب لناشئة الأُمّة. ولست من الذين يضعون كلّ بيضهم في سلة (الرياضة البدنية) ولا مع المنبتين الموغلين في الدين بدون رفق. وإذا تكون الرياضة البدنية صنو الرياضة الروحية فإنّ في الرياضتين ما هو مطلب إسلامي، وفيهما ما هو مخالف للشرع، ولن ندخل في التفاصيل، والعقل السليم والفطرة النقية تميِّزان بين البر والإثم، ولأهمية الترويح والترفيه: بدنياً وروحياً، يتحتّم القصد وحفظ الجهد والوقت، فالترويح حين يزيد عن الحاجة يتحوّل إلى الترف، والترف ورد ذكره في القرآن الكريم إحدى عشر مرة، كلّها في سياق الذم. وقد يوصف الترويح باللعب، واللعب مباح بضوابطه، وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: (كان لكم يومان تلعبون فيهما، وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما، يوم الفطر ويوم الأضحى). على أنّ المسلم قد يجد الراحة في جدِّ العبادة، والترويح من الراحة، فالجذر واحد، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم (أرحنا يا بلال بالصلاة)، وقد تكون تسمية (صلاة الترويح) من هذا الملمح، ومن الخطأ الفادح أن يتصوَّر البعض أنّه بالإمكان تحقُّق الراحة في العبادة عند كلِّ الناس. ولهذا يتذمّر البعض من إقامة (المدن الرياضية) أو لا يرى المساعدة على إقامة (الأندية الرياضية) وقد يتصوّر ذلك من الصوارف عن العبادة، والحق أنّها اذا أخذت بحقها، وحفظ بها التوازن أصبح وجودها ضرورياً ومفيداً، وفات المتحفِّظين أنّنا إن لم نتعرّض لشبابنا بمثل هذه المدن، وبمثل هذه الأندية تعرّض لهم غيرنا بما هو أسوأ. وما في الرياضة من بأس، وحاجة الحواضر والأحياء المكتظة بالسكان إلى ساحات وحدائق لممارستها. ولا بد للمعنيين من التوازن بين مطالب الروح والجسد. ولدخول (الفن) كافة في مجال الترويح الروحي، فقد كان للفقهاء مواقفهم المتباينة، وأشدها حساسية الموقف من فن الغناء والرسم والنحت والتصوير والتمثيل والرقص، ودون ذلك الفن القولي، كالإبداع الشعري والسردي، ولا مجال لتقصِّي الضوابط لأنواع الفنون، وإزاء الانفتاح لا يجوز أن نذعن للواقع، ولا أن نجعله حجة، وبخاصة في الفن القولي الذي أفسده أدب الاعتراف وأغوته (الحداثة) وحادت به عن مساره السليم، والفن بكلِّ فنونه إمّا أن يربي الأذواق ويصلحها أو يفسدها، وأنواع الفنون جزء من الترويح. ومما نفقده في مدارسنا تربية المهارات بوصفها جزءاً من الترويح. فأين القاعات والصالات والمعامل والمختبرات والجمعيات؟ وأين اليوم الدراسي؟ أين المكتبة والمرسم؟ اين الإذاعة والمسرح؟ أين الكشافة والرحالة؟ ... كلُّ ذلك قد يكون موجوداً، ولكنه دون المؤمل. على أنّ الرياضة البدنية تُعَدُّ من أهم مفردات الترويح، وأكثرها شيوعاً وتنوُّعاً. والرياضة ممارسة، وليست تشجيعاً، وأنواع، وليست (كرة قدم)، وبالتالي فإنّ الاكتفاء بالنظر، والتشجيع، وتنظيم المسابقات، يُعَدُّ من سلبيات الرياضة. وحين أدركت جهات الاختصاص العدول عن الممارسة إلى المتابعة، طرحت مشروع (الرياضة للجميع) بمعنى أنّها لا تتحقّق فائدتها إلاّ بالممارسة الذاتية. والرياضة التي تميل النفوس إليها تحوّلت إلى إشكالية، وكادت تنحصر في (كرة القدم) ولم يعد هنالك اهتمام مماثل بأنواع أهم: كالسباحة والجري والفروسية والدراجات. والأسوأ من ذلك كلّه أنّ المسؤولين عنها عالمياً يسوُّون بين الرجل والمرأة، ولا يَعِفُّون عن العري والاختلاط والخلوة، وفي هذا مفسدة للأخلاق، وانحراف بالظاهرة عن مسارها المشروع، حتى لقد بدؤوا يلوِّحون بحتمية مشاركة المرأة في (الأولمبيات) مع ما في ذلك من مفاسد لا يقرُّها الإسلام، ولا تقبل بها الدول الملتزمة، وهذا التعنُّت إخلال في سيادة الدول، وتصدير تعسُّفي للحضارة الماجنة، وخلط قسري للحضارات المتناقضة، وممارسة القوة في فرض الإرادة والتمادي في التعنُّت والتعسُّف مؤذن باستفحال الإرهاب والعنف، وإذ لا يكون إكراه في الدين، ولا سيطرة للرسل، فإنّ ما سوى ذلك أولى. وأهم شيء في مفردات الترويح تفادي إزعاج (الرأي العام)، فإذا كان الرأي العام يضيق ذرعاً ببعض الظواهر المختلف حول مشروعيّتها، فإنّ من الحكمة تفادي ذلك، لأنّ (الرأي العام) جُبل على قناعات تشكّلت مع الزمن، لا يجوز تكسيرها بعنف، وليس هناك ما يمنع من التحوُّل المرحلي، وبخاصة إذا كانت القضايا بين الفاضل والمفضول، وليست بين الخطأ والصواب. ولعلّنا تابعنا العبثيات المؤذية حول الاحتراف، والدخول في التحدِّي، والمنافسات غير الشريفة، إذ وصل التحدِّي بالفرقاء إلى أن بلغت قيمة اللاعب أكثر من (أربعين مليون) ريال، وفي ذلك تبذير، وكُفْرٌ بالنعمة، وتصرُّف في مال الله الذي أعطاه لصاحبه بشرطه. وإذ يكون من المتوقّع العقوبة بزوال النعم، فإنّ الخوف أن يكون الزوال عاماً، وليس خاصاً، وفي الذكر الحكيم {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(25) سورة الأنفال. فالعقاب قد يمس الجماعة، إذا جاهر المستخفون بالذنب، ولم يجدوا مَن يأطرهم على الحق، وفي الأثر: (إن فيها عبدك الصالح ...)، ولأنّه لم يتمعّر وجهه لله، فقد بدئ بالعقوبة، ومثل هذه المزايدات الرخيصة توغر نفوساً فقيرة، لا تجد كسرة من الخبز، والإسلام ينهى عن كسر نفوس الفقراء بالمباهات، وإن كان من المشروع أن يظهر أثر النعمة على المنعَم عليه. ولسنا بصدد التقصِّي لمفردات الترويح ومجالاته المحظور منها والمباح وترتيبها في سلّم الأولويات، فالمهم ليس في استيفائها، ولكنه في تفعيلها وضبطها. والترويح يكاد يتربط بالأنشطة المدرسية المتمثّلة بالمراكز الصيفية، في فصل الصيف، وقد يتداخل مع التنشيط السياحي، بحيث يتنازعه النشاط المدرسي وفترات الصيف التي يواجه فيها الشباب فراغاً مملاً، والفراغ حين لا يملأ بالجد أو بالمُتع المباحة يفضي بذويه إلى المفاسد والشاعر يقول:- (إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة) وإذا كانت القنوات الفضائية ودعاة السوء يفسدون الأفكار، فإنّ تجار المخدرات والفن الرخيص يفسدون الأخلاق، والشباب الخليجيون بالذات مستهدَفون، لسعة ذات اليد عندهم، ولتمكُّنهم من الوصول إلى أي مصدر معرفي أو ترفيهي أو ترويحي. ولسنا بحاجة إلى الحديث المفصّل عن التعريف والمفهوم والأهمية والأهداف والشروط والوظائف للنشاط المدرسي الفصلي أو المستمر، فذلك كلّه مبسوط في الكتب التربوية، وأهم شيء في هذا المجال التخطيط، والتنظيم، ووضع الأساليب المجدية، وتوزيع المسؤوليات والمهمّات، والانفتاح الواثق على كلِّ جديد، وتهيئة الصالات والميادين والمباني المناسبة المفتوحة طوال اليوم، وعدم الحساسية وسوء الظن. إنّنا في سباق مع الجريمة، وفي سباق مع الرذيلة، وما لم نسيِّج أجواءنا ونمتلك الآلية والمهارة، سبقنا الشر إلى المواقع الحساسة. ولتحقيق التفوُّق لا بد من اختيار الكفاءات للتخطيط والابتكار والإشراف والمتابعة. ولست مع الذين يتصوَّرون أنّ الترويح لا يتحقق إلاّ بالرياضية البدنية، ولا مع الذين يقصرونه على الرياضة الحديثة كالملاكمة والمصارعة و(الجمباز) وحمل الأثقال وسائر مفردات الرياضة العضلية، إنّ الترويح في توفير متطلَّبات الهوايات كافة، والطلبة يختلفون في هواياتهم، فقد تكون (الورشة) و(الكمبيوتر) و(المرسم) و(التمثيل) مجالات رحبة للترويح. والإشكالية أنّ المدارس قد عوّلت على الرياضة وحدها، وصرفت نظرها عن النشاط الثقافي والعلمي والفني والاجتماعي، وإن أقامت لذلك بعض الوزن إلاّ أنّه وزن دون المؤمل، ولو وازنّا بين هذه الأنواع لوجدناها كلّها مجتمعة لا تساوي النشاط الرياضي، وتلك ظاهرة عامة تعاني منها وزارات التربية والتعليم في الوطن العربي. والتربية الفنية وإن كان لها نصيب وافر، إلاّ أنّها ليست أهم من التربية الثقافية المغيّبة بإزاء التربية الرياضية والفنية.والنشاط الثقافي بوصفه من مفردات الترويح لا يقتصر على الكتابة والقراءة والكتاب والمكتبة، وإنّما يمتد الى الإذاعة، والتعويد على إعداد البرامج والإلقاء والتمثيل وإعداد المسرحيات، ومعرفة متطلَّبات التمثيل والإخراج وغيرها، والمحاضرات والندوات والصحف والمجلات، والتعويد على الإلقاء والإنشاد والحوار والرسم والخط والإملاء. وفوق كلّ ذلك المكتبة والكمبيوتر وطرائق البحث في المعاجم والموسوعات وتحضير المعلومات في أسرع وقت وأقل جهد، وأنواع القراءة والنقد والتلخيص والتحقيق .. كلُّ ذلك يمكن أن يتحوّل من جهد مضنٍ إلى ترويح. فالقراءة عند البعض تُعَدُّ فترة للراحة والترويح، ولا يكون ذلك إلاّ بعد التعويد وغرس الهواية في النفوس في وقت مبكر، لقد أدى الاهتمام بالرياضة البدنية إلى تقليص الرياضة الروحية وتنمية المواهب. ومما لا يمكن إنكاره أنّ الطلبة أحوج ما يكونون إلى صقل مهاراتهم، ولقد أدركت الدولة ضعف الشباب في الحوار، وعدم قدرتهم على التعبير عن وجهات نظرهم، ومن ثم أنشأت (مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني)، وإشكالية الناشئة إنّهم لم يعوّدوا على الحوار داخل الفصول، ولا على الحديث المرتجل عبر الإذاعة المدرسية، ولا الكتابة في الصحف المدرسية، وليس هناك ما يمنع من تكثيف البرامج الثقافية، وجعلها من مفردات الترويج والترفيه، ذلك أنّ زرع الهوايات الحميدة تجعل القراءة والكتابة ترويحاً. والترويح في ظل الظروف القائمة أصبح مهماً للغاية، ولا بد من إعادة صياغته، والنفاذ به إلى المنزل، وتذكير الآباء، والأمهات بأهميته، ولا بد من العمل على أسلمة الترويح، وتشذيب أي مفردة مستوردة، ولا بد أن يقتنع المجتمع أنّ الترويح والترفيه واللهو واللعب نافذة بقوة الوسائل والإمكانيات، فإن اعتمدنا المنع والتخويف والتقوقع على الذات، فوّتنا على أنفسنا فرص المبادرة، ونحن الأقدر على طرح مشروعنا الترويحي لحماية شباب الأُمّة، وكيف لا نبادر والذِّكر الحكيم يحثُّنا على تدارك نصيبنا من الحياة الدنيا، ويتساءل مستنكراً على من حرم زينة الله التي أخرج لعباده. وخلاصة القول إنّ الترويح رافد من روافد التربية السليمة، وسبيل قاصد لتحقيق مقاصدها، وليس أضر على الأُمّة من جد ضاغط أو فراغ قاتل، فالضغط يفضي إلى الانفلات، والفراغ يؤدي على الفساد، والدولة الواعية لمهمّتها تضع قضايا الشباب في أولويات اهتماماتها، ولن يتحقق الخلوص من المعوقات إلاّ بملء الفراغ بالمفيد، ومتى أحس المسؤول بأنّ الوقت لا بد أن يمتلئ بما يحقِّق الأهداف، فإنّه إن لم يمتلئ اختياراً امتلأ اضطراراً، وبين الاختيار والاضطرار تكمن الإشكاليات العصيّة الحل، فلنبادر إلى امتصاص فائض الجهد والوقت بما يعود على الأولويات بالإيجابيات.