كنت أتأمّل في عنوان المؤتمر الأول لاقتصاديات الصحة والوقف الصحي، وكيف أنّ العنوان - وبنظرة لغوية سريعة - يتضمّن عطفاً للخاص وهو الوقف الصحي على العام وهو اقتصاديات الصحة، إذ إنّ الوقف الصحي هو أحد أهم روافد اقتصاديات الصحة مما يقتضي التأكيد عليه وإبرازه كما هو متقرر عند علماء البلاغة أن عطف العام على الخاص إنّما يكون لمزية في الخاص تقتضي التنصيص عليه لا سيما والمتأمل للوقف يجده من أوائل نُظم التأمين الاجتماعي، إذ كما أنّه تأمين اجتماعي وقت الأزمات والظروف الطارئة إلاّ أنّه كذلك تأمين عام لكلِّ ما يحتاج إليه المجتمع صحياً وتعليمياً واقتصادياً، إلى غير ذلك من المصالح التي يتضمّنها ويحققها الوقف. ولهذا فإنّ الوقف أعلم وأشمل في مجالاته وصوره وأنواعه، فكان الوقف عاماً واقتصاديات الصحة هي إحدى الصور التي يدعمها الوقف ولذا آثرت أن يكون عنوان هذا المقال: (الوقف واقتصاديات الصحة). أيّها القراء الكرام: إنّ المتأمِّل في الشريعة الإسلامية يجد أنّها أتت بكل ما فيه النفع للمجتمع وتحقيق مصالح أفراده .. إذ من المتقرر لدى المسلمين رعاية الشريعة للضرورات الخمس، ومن أعظمها رعاية النفس، كيف إذا تزامن هذا مع التطوُّر الطبي الضخم في مجالات تعلُّمه وتعليمه وتقديم العلاج والدواء للمحتاج، وغير ذلك مما يتوجّب المسابقة إلى إيجاد روافد داعمة للمستشفيات ودور العلاج والتأهيل ومؤسسات التعليم الطبي وغيرها .. مما يحقق تأميناً طبياً تعاونياً شرعياً، كما أنّ من المتقرر أنّ عظم الأجر يكون بعظم الحاجة ولا شك أنّ كشف كربات الناس في مجال التداوي لا سيما مع انتشار الأمراض وتنوُّعها وتعقُّدها .. وإمكانية الاستشفاء منها بإذن الله إلا أنّ ارتفاع تكلفة العلاج والدواء تتسبب في منع أولئك المحتاجين من الاستفادة من فرص العلاج .. مما يزيد حسرة المريض حسرات بسبب إمكان العلاج وعدم استطاعته دفع أجرته المرتفعة، لذلك كلّه كانت الأوقاف هي من أهم الروافد التي تسند كلّ سبيل يحصل به إعانة هؤلاء المستضعفين، وكما تنوّعت الأوقاف كما يقول جابر - رضي الله عنه: (لم يكن أحد من أصحاب محمد ذا مقدرة إلاّ وقف) فكذا تنوعت الجهات الموقف عليها ومن أبرزها في تاريخ المسلمين (المارستانات) وهي كلمة فارسية معناها دار المريض، تكلّم عن بعضها ابن بطوطة وذكر أنّ الوصف يعجز عنها، وذكر أنّ بعض مدن المسلمين بها أوقاف على تعلُّم الطب وتعليمه وكذا الصيدلة والتأليف فيها ونحو ذلك، حتى بلغت المستشفيات نحو خمسين مستشفى في المدينة الواحدة. وقد ذكر ابن جبير أنّ من أغرب ما شاهده من مفاخر البلاد الشرقية لدى المسلمين الاهتمام بالأيتام والأبناء ممن لهم حاجة خاصة كمرض ونحوه، وذكر أنّ العلاج فيها بالمجان للمحتاجين بل كان العلاج يصل إلى بيت من يعجز من الوصول إلى المستشفى. كما ذكر ابن جبير في رحلته وعند مروره ببغداد وجود حي كامل يشبه المدينة الصغيرة كان يسمى (سوق المارستان) يتوسطه قصر فخم جميل وكبير تحيط به الفياض والرياض والمقاصر والبيوت المتعدِّدة، وذكر أنّها كلّها أوقاف على علاج المرضى، وقد كان يقصدها المرضى وطلبة الطب والأطباء والصيادلة ومن يقدِّمون الخدمات الطبية، وذكر ابن جبير أنّها كلّها جارية من أموال الأوقاف، بل ومن أجمل وأروع ما ذكروا من الوقف على الرعاية النفسية للمرضى ما نبّه إليه الأديب الكبير مصطفى السباعي لما ذكر أنّ من أعجب ما أقاموه في باب الأوقاف الرعاية الاجتماعية والنفسية للمرضى، إذ وُجد وقف مخصص ريعه لتوظيف اثنين يمران بالمارستان يومياً فيتحدثان بجانب المريض حديثاً خافتاً ليسمعه المريض عن احمرار وجهه وبريق عينيه بما يوحي بتحسُّن حالته الصحية. أ. ه. ولعل هذا من قبيل البرمجة العصبية الإيجابية التي لاحظها المتقدمون في أوقافهم. إذ لم يقف اهتمامهم بالأوقاف الطبية فحسب بل اهتموا بأدق تفاصيلها كالاهتمام بجانب الصحة النفسية ونحوها.. ولقد أحسن معالي الشيخ صالح وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في كلمته التي ألقاها في افتتاح المؤتمر عندما أكد على قضايا منها: 1- تأكيده على مفهوم العبادة وشموله ودخول السعي في مصالح العباد وحاجتهم في ذلك إذ أحب العباد لله أنفعهم لعباده. وهذا الأمر يشمل مصطلحات متعدِّدة كالخير والإصلاح والبر. 2- ما يلحظه الناظر في تاريخ المسلمين من تنوُّع الأوقاف وسعتها وشمولها. 3- ما تقرر من أن شدة الحاجة يعظم بها الأجر .. فكلما زادت الحاجة والمصلحة زاد الثواب. وعلى كلِّ حال فمثل هذا المؤتمر يساهم في نشر الوعي الوقفي السليم الذي يحقق تنوُّعاً كبيراً في الصور الوقفية التي يحتاجها المجتمع مما يحقِّق مصلحة الجميع .. وفّق الله الجميع لكلِّ خير، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد.