لا يخفى ما للوقف من فضلٍ عظيم، وأجرٍ دائم لا ينقطع ما دام الوقف، ومن ذلك ما صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم). والملاحظ الإقبال على بناء المساجد بشكلٍ واسع وهذا فعل طيّب حسن، ولكن هناك مجالات أخرى من الأهمية بمكان تنوع المشروعات الوقفية بما يخدم المجتمع ويلبي احتياجاته. «الجزيرة» استطلعت رؤى عدد من الباحثين والمختصين في السبل الكفيلة لتنويع المشروعات الوقفية.. فماذا قالوا؟ توجيه الأوقاف يبيّن د. خالد بن حمد الخريف الباحث في العلوم الشرعية: إن الإقبال على بناء المسجد بشكل واسع شيء طيب، ولكن هناك أوقافًا لها فوائد عظيمة للناس من فقراء ومرضى نجد الإقبال عليه قليل ومن ذلك مثلاً: وقف المشافي والمصحات ومراكز الغسيل الكلوي التي يحتاج إليه الكثير من المرضى من الفقراء وذوي الدخل القليل، ولا شك أن الحاجة لها كبيرة، وفيه فك كربة عن كثير من المرضى. ويمضي د. الخريف بالقول: ومن الأوقاف النافعة التي يكون الإقبال عليها ضعيف: إقامة المراكز التي تؤهل الفقراء لإتقان صنعة من الصناعات أو خبرة يستفيد منها لاكتساب عمل يستغني به عن المسألة، فإن تأهيل الفقير خير من إعطائه الصدقة فقط دون تأهيل أو تدريب، فيكون عالة على المجتمع وبخاصة الشباب، ولا ننسى ما قام به بعض أهل اليسر من إقامة مراكز للغسيل الكلوي، ومنهم من أسهم وسعى في افتتاح بعض المراكز المتخصصة في بعض الأمراض المزمنة والتي استفاد منها الكثير من المرضى، ولكن نجد أن هذه الجهود قليلة بالنسبة لغيرها من المشاريع الخيرية الأخرى، وحبذا لو سعى أصحاب الغنى في افتتاح المراكز المتخصصة في علاج وتأهيل المدمنين والمرضى النفسيين بالتنسيق مع وزارة الصحة، فكم سيكون في هذا المشروع من إصلاح لشريحة كبيرة من المدمنين والمرضى. ويختتم د. خالد الخريف حديثه متسائلاً كم سيسهم هذا المشروع الوقفي من إصلاح وعلاج؟ فلا شك أن تنويع ودراسة المشاريع الوقفية والإشراف عليها من قبل الجهات المتخصصة له دور كبير في توجيهها التوجيه المفيد النافع للبلد. تنوع مجالات الوقف ويؤكد د. خلف بن علي العنزي المستشار بوزارة العدل (سابقاً) الباحث في شؤون الأوقاف: أن الله اختص أهل الإسلام بالوقف وهو من الصدقات الجارية التي يجري أجرها حتى بعد وفاة الموقف فهي خير دائم له ولمن أوقف الوقف لهم؛ فالوقف أجره ونفعه متعدٍ للآخرين. وبتتبع الوقف على مر العصور نجد أنه أسهم في تقدم المجتمعات الإسلامية وازدهارها من النواحي التعليمية والصحية والاقتصادية، وأسهم في ازدهار الاقتصاد للبلاد الإسلامية وتنميتها أي أنه يلاحظ في العصور المتأخرة اندثار أكثر الأوقاف في البلاد الإسلامية بسبب عوامل متعددة ليس المقام لذكرها. وفي بلادنا بلاد الحرمين -حرسها الله وأدام عزها- يتسابق أهل الخير للوقف لعلمهم بالخير الذي ينعكس عليهم منه وطلباً للأجر من الله سبحانه وتعالى؛ إلا أن أغلب هذه الجهود والأوقاف انحصرت في مجالات محددة كبناء المساجد وهو مجال طيب؛ إلا أنه مما يلحظ أن أغلب مدن المملكة ولله الحمد قد اكتفت من بناء المساجد... فالوقف بحاجة لتنوع مجالاته خاصة في هذا الزمن الذي يمر به العالم بظروف ومراحل اقتصادية متقلبة. وتنوع مجالات الوقف يسهم بشكل فعال في دعم رؤية المملكة 2030م بزيادة دخل القطاع الثالث غير الربحي، في دعم الاقتصاد الوطني؛ وأقترح مجالات أخرى للوقف؛ هي: وقف للمرابطين على الثغور وشهداء الواجب يختص بتسديد ديونهم ومساعدة أسرهم وقضاء حوائجهم، ووقف يختص بالقطاع الصحي، ووقف يختص بالمجال التعليمي، ووقف يختص بالدعوة إلى الله تعالى بالوسائل المختلفة، وقف يختص بمساعدة المعسرين؛ ومن يمرون بضوائق مالية، والمساعدة في دفع إيجارات السكن عن الأسر التي لا تستطيع ذلك، وتسديد فواتير الكهرباء والماء والهاتف. فأوجه البر والخير تتنوع؛ وتختلف احتياجات الناس من وقت لآخر، مشيراً إلى أن السبل الكفيلة في تنوع مشروعات ومجالات الوقف عديدة فمن ذلك عن طريق: نشر الوعي الثقافي بأهمية الوقف في المجتمع، والحاجة لتنوع مجالاته، باستخدام وسائل الاتصال المختلفة، وعقد اجتماعات في الغرف التجارية مع التجار لحثهم على الوقف بأنواعه المتعددة. تنوع المصارف ويشير د. رياض بن حمد العُمري الأستاذ المساعد بقسم العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية إلى أن الوقف لله تعالى من أعمال البر العظيمة التي يرجو المسلم أجرها وثوابها في حياته وبعد موته وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» رواه مسلم. ويعظم أجر الوقف كأي عبادة أخرى بمقدار نفعه المتعدي كما قال العلماء وأثره وشموليته وشدة حاجة المسلمين له وهذا الأمر في الحقيقة يدعونا إلى أهمية مراجعة مصارف الأوقاف بين فينة وأخرى لأن حاجات المسلمين وأوجه الخير ووسائله تتغير بتغير الزمن وأعتقد أن المسؤولية الأهم والأبرز في هذا الأمر تقع على عاتق علماء الشريعة وأهل الاختصاص والنظر من الاقتصاديين وهيئات الأوقاف لبحث وتداول الآراء في حاجات الناس وعلى وجه التحديد الفقراء والمعوزين وسد حاجاتهم المعيشية وتوجيه الرأي العام والمجتمع وخصوصاً نظار الأوقاف والقائمين عليها إلى المساهمة بالوقف في هذه الجوانب على اعتبار أنها من أوجه الخير والبر التي يعظم أجرها وثوابها لصاحب الوقف، وتوعية الناس بأهمية تنويع مصارف الأوقاف وألا تقتصر على جانب معين كبناء المساجد أو الأضاحي ونحو ذلك مما اعتاد عليه كثير من الناس اليوم وهذه المصارف وإن كان فيها خير وثواب جزيل لكن توجه كثير من الناس إليها مع قلة الحاجة لها وخصوصاً في بعض الأماكن التي تزدحم بالمساجد وتقل الحاجة للأضاحي فيها على سبيل المثال أدى إلى إغفال جوانب من الخير تشتد لها حاجة الناس وليس هناك ما يسدها. ويضيف د. العُمري: إن المتأمل في أبواب الوقف من كتب الفقه في شتى المذاهب الفقهية على مر فترات تاريخية متلاحقة يلحظ اهتمام الفقهاء والناس في العصور المتقدمة بمسألة تنوع مصارف الوقف والنظر في حاجات الناس في كل فترة زمنية فمثلاً هناك أوقاف كانت تتوجه لخدمة الحرمين وأوقاف تهتم بخدمة الحجيج وأخرى للأيتام والأرامل وغيرها لتدريس العلم النافع وبناء المستشفيات وعلاج المرضى من الفقراء وهذا التنوع مما أسهم في الحقيقة في سد جوانب حاجة المسلمين في تلك العصور وهو ما نفتقده في وقتنا الحاضر في بعض الأوقاف التي أصبحت تنصرف إلى جوانب معينة من الخير لكن تقل الحاجة إليها. ومما تقدم فإنه تبرز أهمية أمرين يتعلقان بمسألة الوصية في الوقف: الأول: أن يجمل الواقف في مصرف الوقف بحيث تكون وصيته عامة في أوجه الخير والبر مما تعظم الحاجة له دون تقييده بشيء معين بحيث يستطيع الناظر في الوقف أن يرى ما هو الأنسب من أوجه البر وتعظم الحاجة له مع تغير الزمن فيتوجه له بالإنفاق، بخلاف ما إذا كانت الوصية بشيء محدد لا يستطيع الناظر تجاوزه وإن قلت الحاجة له بعد زمن الواقف، ومن أمثلة ذلك ما يكثر فعله من الوصايا بالأضاحي ونحوها مما قلت الحاجة له في زمننا الحاضر. الثاني: أن يستشعر الناظر في الوقف المسؤولية تجاه مصرف الوقف أمام الله تعالى أولاً ثم أمام الواقف الميت الذي جعله مؤتمناً على هذا الأمر، فيتوجه بالإنفاق لما تعظم الحاجة له في زمنه ويرتب الحاجات حسب الأهمية والأولوية ويستشعر حاجات الفقراء والمحتاجين وما هو أنفع للمسلمين عموماً في مكانه وما تعظم الحاجة له.