أعتقد وربما يعتقد آخرون معي أن إحدى المهام الجوهرية للصحافة هي أن تكون صوت الناس، خصوصا في مناطق العالم التي تكون فيها الصحافة بديلاً لوسائل أخرى، يمكن من خلالها للناس التفكير بصوت مسموع، ومشروع للمشاركة في تحديد مشاكلهم وصياغة تصورات لحلولها وتوصيل مرئياتهم لصاحب القرار في المواضيع التي تكون قراراتها بيد جهات عليا. وأعتقد أيضاً - وقد يكون هناك من يشاركني الرأي - أن الصحافة عندنا تتقدم (بحدود) على الوسائل الإعلامية الأخرى و(خصوصاً تلفزيوننا العزيز وإذاعتنا العزيزة) في محاولة الاقتراب من اجتراح هذه المهمة، فلا أحد يستطيع أن ينكر (مثلا) الدور الذي لعبته الملاحق الأدبية للصحف في بلورة الحركة الأدبية على الساحة الثقافية المحلية في غياب منابر خاصة بمثل هذا النشاط الأدبي في حقبة سابقة. كما أن لا أحد يستطيع أن ينكر محاولة الصحف اليوم استيعاب بعض من زخم النشاط الأكاديمي (لبعض الأكاديميين والمتخصصين) الذي يضل طريقه أو يهمل في حقوله الميدانية أو مختبراته، على ما في هذه الظاهرة من محاذير أكاديمية وغير أكاديمية فيما لو استمر تزايد حضور أصحاب سطوة حرف الدال في زوايا الصحف. إلى جانب هذا وذاك فهذه الصحافة تكاد تشكل بديلا للتعبير عن صوت الطالب الذي لا يجد لصوته مجلة حائط أو حائطا يسند إليه شكوى أو رأياً، كما في قضية طالبات كلية التربية بالرس ليوم أول أمس بجريدة الرياض (العدد 13637 ص 28)، وكذلك للتعبير عن صوت المعلم والمعلمة، والعامل والمرأة العاملة والفقير والموظف والمظلوم و.. ما أدراك. وليس في كل هذا بحد ذاته مأخذ جدي في معطى المرحلة التاريخية التي يمر بها مجتمعنا العربي ومجتمعنا المحلي منه وفي إطار موضوعية الواقع الاجتماعي القائم الذي لم تتبلور فيه بعد منابر مستقلة للرأي، ولذا فإن الاضطلاع بهذه المهمة عمل جيد على محدوديته وهو عمل لا يخلو من صعوبة ومشقة، وأضعف الإيمان فيه يعد إنجازا للعاملين في هذا الحقل، إلا أن ما يسوء هو عدم تحديد طبيعة هذه المهمة ونوعية مشقاتها النوعية لمواجهتها من قبل القارئ والصحافة معاً. وبعض من مشقة هذه المهمة في - اجتهادي - هو أن تستطيع الصحافة وبأفق واسع بحجم القطاعات العريضة والمتعددة التعبير عن صوت المواطن فلا تلبسه مشاكل مستوردة أو مصطنعة (مفبركة) بلغة الصحافة لا تحمله بعيدا عن مشاكله الحقيقية أو تشغله بالثانوي منها على حساب الأولى والجوهري. إن طرح موضوعات مثلا عن إنتاج الفقع، ارتفاع أسعار المعيشة، (تصدد) بعض المسؤولين عن المواطنين، تأخر سن الزواج أو عن ثقوب الأحذية، الأخطاء الطبية، شح الأدوية في مستشفيات الحكومة، أو تهلكة الأسهم أو إجازة الأمومة والكتابة عنها مسألة لا يجب تهميشها أو طرحها من خلال مسلمات متآكلة أو فجة، طالما أنها تشكل هاجسا جماعياً لفئات من الناس. وليست الإشكالية أن ينتشر تناول مثل هذه الموضوعات في الصحافة. إن الإشكالية حينما يصار إلى تضليل الوعي بمثل هذه المشاكل وغيرها من منظور ترفعي أو تجزيئي قد يكتفى فيه بلوم الضحية. فلا يرى في مشكلة مثل مشكلة محو الأمية مثلا إلا مشكلة صغيرة تخص بعض العوام، فيحرف جوهرية النظر إلى الأمية كإهانة تلحق المجتمع بأكمله، وتعتبر مسألة مواجهتها وإزالتها جزءاً من كرامة الوطن والمواطن. كما قد لا يرى في هدر حقوق المستهلك على سبيل المثال إلا أمية المستهلك، وبالتالي تقريعه على جهله فيها مع غض الطرف عن قصور قوانين الحماية أو عدم وجود جهات قضائية متخصصة. ومن خلال متابعتي الفردية والعفوية لبعض ما تطرحه الصحافة من مشاكل حياتية تخص صلب أو تفاصيل الحياة اليومية للمواطن التي بتفاصيلها الصغيرة تشكل جزءاً من مصير هذا الوطن، أعتقد أن هناك ما يمكن تسميته بلغة الاجتماعيين نوعاً من (الوعي المضلل) أو (تزييف الوعي) بكثير من المشاكل الحياتية واليومية. وإن كنت من باب حسن الظن لا أعتقد بعنصر العمد بالضرورة في إشاعة مثل هذا الوعي الزائف، بقدر ما أرى أن مثل هذه العمليات تحدث بفعل النظرة الاجتزائية وعدم وجود منطق متماسك يتم في إطاره تناول أي من المشاكل المعينة، مع عدم معايشة بعض من يتناول هذه المشاكل لهذه المشاكل، واكتفاء بعض آخر بالنظر إليها أو التعاطف معها من وراء المكاتب. فكون الصحافة في بعض مناطق العالم تتحمل عبء البديل لكل أشكال قنوات ومنابر التعبير التي يفترض أن تتاح للناس، للتعبير عن قضاياهم والمشاركة في قراراتها يقتضي في الصحافة الدقة والموضوعية النابعة من المعايشة أو المتابعة القريبة. أما كون الصحافة عندنا تجنح في بعض طروحاتها إلى خلق وعي مضلل لدى القارئ والمسؤول ببعض القضايا المجتمعية، فتفصلها عن أساسها الموضوعي وكلها الاجتماعي، فإن هذا يقتضي وقفة مراجعة من أصحاب الشأن الصحافي نفسه والشأن الاجتماعي ايضاً. ومن الأمثلة الأخرى وهي مجرد قطرة من بحر غضوب مثال تناول بعض ما يخص موقع المرأة بالمجتمع. تطرح مسألة عمل المرأة خارج المنزل بشكل مضاد لمسؤولياتها المنزلية، وتربط تعسفيا بمسألة العمالة الأجنبية، والعمالة المنزلية منها، ويصبح عمل المرأة خارج المنزل وكأنه المسؤول عن وجود عمالة أجنبية (يشار إلى التحذير من خطرها على اللغة وعلى التقاليد وما إليه..) وهذا يجعل البديل الجاهز أو المضمر هو، عودة المرأة إلى البيت، وإهدار طاقتها الإنتاجية الممكنة خارج الجدران. وهذا النوع من الطرح يبطن تزييفا مركبا للمسألة أفصله فيما يلي: إنني أشك فيما إذا كانت المرأة التي لا تعمل تصرف مقابل ساعات العمل على تربية النشء، بل إن تفشي الاعتماد على الغير في تربية النشء سواء من قبل المرأة أو الرجل يتم داخل قطاعات محددة من المجتمع من عاداتها أن تعيش على جهد الغير، سواء كان هذا الغير من أبناء المجتمع أو خارجه، ويأتي سلوكها في الاعتماد على العمالة الأجنبية (مثلاً) منسجماً لا نقيضا لمبدئها في الاعتماد على الغير، وفي مجتمع يعيش برمته على (العمالة الأجنبية)، والبضاعة المستوردة وتنعدم فيه إمكانيات التفكير المغاير في بدائل خارج السائد من أنماط التفكير. يكون التقليد الأعمى مبرراً، ويكون التلفيق بين النقائض على مستوى السلوك والقيم هو المتاح، ويكون إهدار الحقوق في ظل غياب ما يقننها ويحميها ممكناً. ان العمل فعل وقيمة نقيضة للاتكالية داخل المنزل وخارجه. والاتكالية نقيض لكرامة الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة. ومن منطلق العمل وقيمته الجذرية للمجتمع، ومن منطلق رفض الاتكالية بكل أشكالها في المنزل وخارجه تكون الغيرة والحمية على النشء وعلى الشباب وعلى أفراد المجتمع رجالاً ونساء، فلا تلبس قضية خطيرة مثل البطالة مثلا للمرأة أو يلوح بذلك هذا إذا لم يوح به. وفي ظني أن السؤال الأكثر موضوعية والنقيض لعمليات تضليل الوعي، هو ليس هل تعود المرأة إلى المنزل أو هل نعتمد على العمالة الأجنبية، السؤال هو كيف نحول الطاقات المهمشة في البيوت وفي المكاتب وسواهما إلى طاقة منتجة لا تعتمد على الغير سواء أكان الغير عمالة ناعمة أو خشنة.. خبيراً أو أجيراً. كيف نخلق قيما تساند عمل المرأة وعمل الرجل داخل البيت وخارجه؟ كيف نخلق قاعدة عمل تنتج ما يحميها من القوانين والقيم الاجتماعية؟ من أمثلة عملية تضليل الوعي الخطيرة (في اعتقادي) هو ما يتعلق بكيفية تناول قضية الطفولة (لا داعي لأن) يشرع أحدكم عينيه في ملامحي وكأنني أخطأت التعبير.. أجل الطفولة مسألة وقضية وليست تسلية بريئة أو عكسها. وعلى الرغم من ان الطفولة هي جزء من كلنا الاجتماعي وهي بالتالي في بعدها الأعمق مسألة من مسائلنا الاجتماعية والمستقبلية التي يجب ان نواجهها بجدية تليق باحتمالاتها وآفاتها وشقاواتها، فإن هذه المسألة لا تطرح إلا نادرا على أساس غير أساس أنها من المسائل الملحقة بآخر قائمة ما يعبر عنه بالثانوي من القضايا. فهذه المسألة لا تطرح إلا في إطار بين اثنين لا ثالث لهما (عالم المرأة) و(عالم الأسرة) والتحريف المحدد الذي يأتي من مثل هذا التناول الضيق هو تقزيم الواقع واختصاره في شخوص دون أخرى، مما يسهل ملامته واستبعاد آخرين معنيين بالملامة. اعتقد انه مضى زمن كانت الأسرة هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن الطفولة من لحظة تعليم الطفل آداب المرحاض حتى تعليمه وباكرا جدا حرفة الأب أو ضمه إلى فريق الإنتاج الرعوي الزراعي أو التجاري. إن الزمن وما زلت أتحدث عن مثال تناول الطفولة في الصحافة هو زمن متحرك وبالتالي فمعطياته متحركة ومتجددة. كان الطفل في الماضي يعيش في (جراب) يعلق على صدر أو ظهر المرأة حسب عادات المناطق، وكانت المرأة والطفل يعيشان في (جراب) الأسرة والأسرة تعيش في حمى القبيلة، فكانت الطفولة القصيرة شأنا نسويا وأسرياً وقبلياً خالصا، أما وقد انشق الجراب أو (القربة) وصارت المضارب المتباعدة وطنا موحداً، فإن من غير المعقول ولا نقول من غير العدل أن تترك الطفولة عزلاء مفردة تحت رحمة ظروف الأسرة الاقتصادية والثقافية وحدها. وهذا بعض ما تتحاشى أحياناً الصحافة طرحه أو لعلها تجامل في طرحه. أما الطرح (التجنبي) من التجنُّب، لمواجهة الذات الاجتماعية الذي يتجلى هذه الأيام في أبهى صوره عبر الصحافة، فهو ذلك الطرح الصحافي (المتبرئ) في بعضه مما صار يسمى في هذه الصحافة (شباب الإرهاب) أو (الفئة الضالة). فيبدو من خلال العديد من كيفيات التناول وكأن المجتمع كله يريد أن ينفض يديه ويغسلها بالماء والثلج والبرد من التساؤل عن مسؤوليتنا كمجتمع في وجود مثل هذا التوجه العنفي الخطير الذي يسرق أجمل شبابنا على جانبي المجابهة، وذلك مع الأسف دون تفريق صحافي يذكر بين نفض اليدين والتبرؤ من أعمال العنف نفسها، وبين نفض اليد والتبرؤ من مسؤوليتنا الجمعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البحث عن الأسباب الداخلية والخارجية التي أوجدت مثل هذا التوجه المرعب، وعدم تعليقها على مشجب الأسرة وحدها أو المدارس وحدها أو ينحى باللائمة عليهم وحدهم. إن على الصحافة مسؤولية إثارة الأسئلة في القضايا الاجتماعية بالتحقيق والرأي معا، بعيدا عن الركض وراء الإثارة وهذا لا يتحقق إلا إذا نزلت الصحافة إلى الشارع ودخلت بين الناس ونقلت أصواتهم لا ما تظنه أصواتهم، فيما قد لا يكون إلا مجرد اصوات مستعارة تقدم باسمهم. نحن خصوصاً في هذه اللحظة التاريخية نحتاج إلى صحافة تعطينا وعياً يقربنا من واقعنا، أو على الأقل لا يبعدنا عنه. إذ لو كانت المسألة مسألة نقل أخبار فإن الصحافة اليوم لن تستطيع منافسة وسائل الاتصال الأخرى الأسرع، وبالتالي فلم يعد أمامها من خيار إلا الانسحاب أو الانحياز للواقع والتعبير عنه بأمانة وضمير. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.