تحدثت في مقال سابق عن فضائل شهر رمضان وخصائصه، وحديثي اليوم في فضائل الصيام وخصائصه، سواء أكان في رمضان أم في غيره، واجباً كان أم مستحباً، فقد تواترت النصوص والأخبار في فضل الصيام، وعظيم مكانته عند الله، وشدة محبته له، وجزيل عطائه لمن قام به إيمانا واحتسابا، ومن ذلك ما يأتي: أولاً: أن الله عز وجل أوجبه على جميع الأمم، وأتباع الشرائع والملل، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) سورة البقرة .ولولا أنه عبادة محبوبة لله، عظيمة القدر عنده، لا غنى للخلق عن التعبد بها، وعما يترتب عليها من الثواب والجزاء، وما يحصل لهم من المصالح الكثيرة في الدنيا والآخرة ما فرضه الله على جميع الأنبياء وأتباعهم على مر العصور، فهو من الشعائر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان. وفي قوله عز وجل:{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. فائدتان مهمتان: الأولى: أن في هذا تنشيطاً للمؤمنين وتسهيلاً للصيام عليهم، فإن المسلم إذا عرف أن هذا درب سلكه قبله الصالحون من الأنبياء وأتباعهم، فإنه يفرح بذلك، وتنبعث له همته، ويستسهل الصيام ولا يستثقله. الثانية: أن هذا يشعر المؤمن بأنه جزء من تلك الشجرة المباركة، التي تضرب بجذورها في أغوار التاريخ، وينتسب إليها الأخيار الأطهار من الأنبياء وأتباعهم على مر العصور وكر الدهور، فتستجيش في نفسه مشاعر الغبطة والسعادة، ويمتلئ قلبه بالعزة والكرامة، والشعور بعظم منة الله تعالى عليه، حيث هداه لهذا الخير، وجعله عضواً في هذه الشجرة المباركة، التي ينتسب إليها صفوة عباد الله من الأنبياء وأتباعهم. ثانياً: أن الصيام من أكبر أسباب التقوى وتقوية شجرتها في القلب، كما قال الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فبين أن الغاية العظمى من الصيام هي تحقيق التقوى، وتقوية المراقبة لله تعالى. ثالثاً: أن الصيام جُنّة من النار، فقد روى الإمام أحمد بسند صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (الصوم جُنّة يستجنّ بها العبد من النار). بل قال صلى الله عليه وسلم: (من صام يوما في سبيل الله، باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا) متفق عليه. فيا له من فضل عظيم وثواب جزيل، صيام يوم واحد ابتغاء وجه الله تعالى واحتسابا للأجر والثواب عنده يباعد الله به وجه الصائم عن النار مسيرة سبعين عاماً، فما بالك بمن صام شهر رمضان كله؟؟ نسأل الله أن يوفقنا لصومه، وأن يجعل عملنا خالصا لوجهه. رابعاً: أن الصيام من أعظم أسباب دخول الجنة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: (من قال لا إله إلا الله ختم له بها، دخل الجنة، ومن صام يوما ابتغاء وجه الله، ختم له به دخل الجنة) رواه أحمد والأصبهاني وصححه الألباني. وثبت عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أنه قال: قلت: يا رسول الله! دلني على عمل أدخل به الجنة، قال: (عليك بالصوم، فإنه لا مثل له) قال الراوي: وكان أبو أمامة لا يرى في بيته الدخان نهاراً إلا إذا نزل بهم ضيف. رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه، وكذلك صححه الألباني. بل أخبر -صلى الله عليه وسلم- أن في الجنة بابا خاصاً بالصائمين يقال له: الريان، لا يدخل منه أحد غيرهم. والحديث متفق عليه. خامساً: أن الصيام كفارة للذنوب، فإن الحسنات يكفرن السيئات، والصيام من أعظم الحسنات، قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ }(114) سورة هود، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: (من صام رمضان إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه. سادساً: أن الصيام يشفع لصاحبه يوم القيامة، ففي الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيُشفَّعان. رواه أحمد والحاكم. سابعاً: ما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به. والصيام جنة، فإذا كان يومُ صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه). وفي رواية لمسلم (كل عمل ابن آدم له يضاعف له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي). وقد اشتمل هذا الحديث العظيم على فضائل كثيرة للصيام، وهي كالآتي: 1- أن الله تعالى اختص الصوم لنفسه من بين سائر الأعمال فقال (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي) وذلك لشرفه عنده، ومحبته له، وتحقق الإخلاص فيه أكثر من غيره غالباً، فإن الصائم يكون في الموضع الذي لا يراه فيه أحد من الناس، والطعام والشراب في متناول يديه، وربما كان يتلمظ من العطش، ويتلوى من الجوع، فلا تمتد يده إليه، ولا يشتف منه جرعة، ولا يأكل منه لقمة، لما يعلم من مراقبة الله له واطلاعه عليه، فيترك ذلك محبة لله، وخوفاً من عقابه، ورجاء لثوابه، ولهذا قال الله تعالى: (يدع شهوته وطعامه من أجلي). وتظهر فائدة هذا الاختصاص في وقت أحوج ما يكون فيه العبد إلى مغفرة الله ورحمته، قال سفيان بن عيينة: (إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى إذا لم يبق إلا الصوم، يتحمل الله عنه ما بقي من المظالم، ويدخله الجنة بالصوم). 2- أن الله قال في الصوم: (وأنا أجزي به) فأضاف الجزاء إلى نفسه من غير اعتبار عدد معين، فما ظنكم برب العالمين وأكرم الأكرمين؟ فيجازي عبده جزاء لا حد له، والعطية على قدر معطيها. كما أن الصيام يتضمن أنواع الصبر كلها: من الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر على أقداره المؤلمة من الجوع والعطش، وضعف البدن، فكان الصائم من الصابرين، وقد قال الله تعالى:{إنما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}(10) سورة الزمر. 3- أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، والخلوف: هو الرائحة التي تنبعث من المعدة عند خلوها من الطعام، وهي رائحة مستكرهة عند الناس، ولكنها لما كانت من آثار طاعة الله كانت عند الله تعالى أطيب من رائحة المسك. 4- أن الصوم سبب لسعادة العبد في الدارين، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه). أما فرحه عند فطره فهو نموذج للسعادة الحقيقية التي يجدها المؤمن في الدنيا بسبب طاعته لمولاه، واتباعه لهداه، وقد قال الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (123) سورة طه. فضمن الله لمن اتبع هداه تمام الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة. وتأتي فرحة الصائم عند فطره من جهتين: أ - أنه يفرح بما منّ الله عليه من الهداية والتوفيق للطاعة، وإكمال صيام ذلك اليوم. ب- أنه يفرح بما أباح الله له من تناول المفطرات التي كانت محرمة عليه في النهار، فيتناولها وهو مشتاق لها، ولهذا كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم- عند الإفطار: (اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت) أخرجه أبو داود مرسلا وله شواهد يتقوى بها. وروى أبو داود أيضا بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان إذا أفطر قال: (ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله). هذه هي بعض فضائل الصيام وخصائصه، فالله الله بإتمامه وإتقانه، والحذر الحذر من الوقوع فيما يفسده أو ينقصه من أنواع المعاصي والمنكرات. فليس الصيام مجرد الإمساك عن الشراب والطعام، بل هو مع ذلك: إمساك عن كل ما حرم الله، وصوم عن كل ما نهى الله عنه من الأقوال والأفعال. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم- (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري. وقول الزور والعمل به يشمل جميع المعاصي القولية والفعلية من الغيبة والنميمة، والشتم والسب، والفحش والكذب، واستماع الحرام، والنظر إلى الحرام، وأكل الحرام، والظلم لعباد الله في عرض أو نفس أو مال، وغيرها. وهذه المعاصي وأمثالها محرمة في كل زمان ومكان، ولكنها في رمضان أشد تحريما وأعظم إثما، وهي وإن كان مرتكبها لا يؤمر بإعادة صومه، إلا أنها تنقص أجر الصيام، بل قد تذهبه بالكلية، ويكون حال صاحبها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه: السهر) رواه النسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة والألباني. ولله در القائل: إذا لم يكن في السمع مني تصاونٌ وفي بصري غضٌّ وفي منطقي صمتُ فحظي إذن من صَوْميَ الجوعُ والظما وإنْ قلتُ إني صمتُ يوماً فما صمتُ وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار، ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء).