كل شيء يوحي إلى رمضان باسمه، لكن شهر رمضان بمعناه يكاد يضيع في زحمة الأضواء والإعلانات المستعارة من موسميته فقط، لتتحول الروحانية إلى ليالي أنس! وتطورت فكرة الاستفادة من رمضان بالعمل للمسلسلات واتساع سوق الترويج وحصد الأثمان الرائجة للتسويق لغنيمة الموسم، لكن المناسبة الوقورة تكاد تختفي بين كل هذا الكم الهائل من الحصاد الوفير والشره، فلم تعد الشراهة بمعناها تتجه إلى البطون، أو تستغل غريزة الجوع والعطش، بل هناك سلالم أخرى تقطع المسافة لشهر فقط، بين اختزال الوقت بالمسلسلات والمسابقات وأخيرا برامج الغناء والخيام الرمضانية. من سرق وداعة رمضان، وسطا على روحانية قصيرة، بها من المعاني ما يغني عن أحد عشر شهرا آخر، وفي معان أخرى، فإن هذا الشهر الكريم ليس لإجاعة الناس، ولا تيبيس عروقهم من العطش، بل وقفة أخرى لنتذكر الجوع والعطش والفاقة التي يعاني منها غيرنا على مدار العام، وليس شهرا واحدا فقط. في بريطانيا، وفي أول يوم لنا برمضان، كان هناك بعض الطلبة المسلمين، فذكر أحدهم أن هذا أول أيام رمضان، فسألت الأستاذة ما هي خصائص هذه المناسبة، تحدثنا كل من زاويته، وحينها قلت: إن الفكرة ليست لأن نموت جوعا خصوصا طول أيام الصيام هنا، بل لنتذكر معاناة غيرنا، وقبل ذلك ترويض الجوارح على الصيام عما يمكن أن يسبب لها الأذى! ذكرنا أن في هذا الشهر تتحد مشاعر الناس، ويشعرون أكثر بغيرهم، ومن هم أدنى في الظروف المعيشية والحياتية المقدرة، لذا يهم الكثير بالصدقات وإدخال الفرح إلى نفوس المحتاجين، وهو الشيء الذي يتسابق عليه الكثير حين يتسابقون في مشاطرة الآخرين لإفطارهم في(ماراثون) روحاني وإنساني بليغ! هذه المشاهد أظنني قصصتها من الذاكرة، وأن احتمال وجودها الممكن، ربما يخضع الآن لشاشات العرض الكبيرة في البيوت والمقاهي والخيام، وللسوق الشرسة في اصطياد هذه الروحانية بنماذج صاخبة ونافرة من المناسبة، معظمها صمم بفكرة، كيف تقضي على الوقت؟ عاش جيلنا في رمضان حول التلفزيون، وتواعدنا مع أمسياته، لكننا لم نفقد الصلة الخاصة به كما هو الآن، في حين تبدو المفارقات العجيبة بين سوق للدعاية كبيرة يلتهم ما يتاح له، وبين فكرة إنسانية راقية، تؤنسن هذه المشاعر، وتجعلها أكثر يقظة حيال ما تراه من فزع في العالم وبطش بالقوى الضعيفة، ورغم هذا، نصبح على مفترق الطرق، ننتظر هذا الشهر، ونقول: إنه هناك يختلف عن هنا، والعكس، ودليل المفارقة القوي، أن لا تفاصيل تحيط برمضان يمكن أن تكون في بلد لا يعلم ما هو رمضان، لكنهم يدركون حقيقة ماذا يعني طقس ديني ويقدرونه من واقع احترام الأديان، بينما تخور كل قوانا الجسدية والعاطفية أمام ساعات معدودة، وأكثرنا لا يعلم حقيقة لماذا ينتظر هذا الشهر، لمسلسل، أم مسابقة، أم مقابلة نجم مشهور، أم فرصة عظيمة تجتر كل لحظاتها بالنقاء من الخطايا؟ لا أعلم، فأكثرنا يخطئ المقارعة ويضيع الهدف، والناس لها أن تحكم بهواها، لكنها تتفق على أن هناك وقتا أخفى كل شيء، ولم يبق منه سوى الصيام وانتظار الفطور!