اختص الله شهر رمضان، بمزايا كثيرة، وفضائل عديدة، ولأن رمضان قد جعله الله شهر الصوم، الذي هو ركن من أركان الإسلام الخمسة، فقد كان أفضل الشهور على الإطلاق، حيث روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الصيام بعد شهر رمضان، شهر الله الذي تدعونه المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة، قيام الليل)، ومن فضل الشهور، كما قال سعيد بن جبير: أن رمضان أفضلها كلها، وإنما تفضيل الأشهر الحرم: رجب والقعدة والحجة والمحرم، سواء جاء التفضيل بها مجتمعة أو منفردة، المقصود به بعد رمضان.. ذلك أن رمضان: يتحقق فيه فضل الذكر، وفضل قيام الليل، وفضل العبادات بأنواعها، ولذا كلما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصيام يجيب بالتحديد، سواء كان صياماً بالشهر أو العشر أو الليلة، أو اليوم، بقوله الكريم: بعد رمضان.. ومن ذلك ندرك أن لرمضان فضائل عديدة: بالصلاة والصيام وبالذكر وبالإنفاق، وبغير ذلك من العبادات التي تؤدى فيه، كما أن وراء ذلك فضائل صحية، وفضائل نفسية، وفضائل خلقية.. فمن فضل الصيام: ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي. للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)، وفي رواية: (كل عمل ابن آدم له كفارة إلا الصوم، والصوم لي وأنا أجزي به) وعلق على هذا ابن رجب الحنبلي بقوله: وعلى الرواية الأولى يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة، فتكون الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يضاعفه الله عز وجل أضعافاً كثيرة، بغير حصر عدده، فإن الصيام من الصبر، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}.. الزمر (10). ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى شهر رمضان، شهر الصبر، وفي حديث آخر: (الصوم نصف الصبر) أخرجه الترمذي. قال العلماء رحمهم الله: تجتمع في الصوم، أنواع الصبر الثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله. وفي مضاعفة الأجر فيه، جاء في حديث سلمان الفارسي مرفوعاً: (من تطوع في شهر رمضان بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه). وفي فضل الصدقة فيه: روى الترمذي عن أنس قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصدقة أفضل؟ قال: (صدقة في رمضان). قال النخعي: صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة، وركعة فيه أفضل من ألف ركعة، فلما كان الصيام في نفسه مضاعفاً أجره بالنسبة إلى سائر الأعمال، كان صيام شهر رمضان مضاعفاً على سائر الصيام، لشرف زمانه، وكونه هو الصوم الذي فرضه الله على عباده، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام، التي بني عليها الإسلام، وقد يضاعف الثواب، بأسباب أخرى، منها شرف العامل عند الله، وقربه منه وكثرة تقواه، كما ضوعف أجر هذه الأمة على أجور من كان قبلهم من الأمم، وأعطوا كفلين من الأجر. وفي فضل العمرة في شهر رمضان: ورد في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عمرة في رمضان، تعدل حجة) أو قال: (حجة معي). كما ورد حديث بأن عمل الصائم مضاعف.. وذكر أبو بكر بن أبي مريم عن أشياخه أنهم كانوا يقولون: إذا حضر شهر رمضان، فانبسطوا فيه بالنفقة، فإن النفقة مضاعفة، كالنفقة في سبيل الله، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة فيما سواه. وعما فضل الله الصائمين به: جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون لا يدخل منه غيرهم، فإذا دخلوا أغلق)، وفي رواية: (من دخل منه شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً), وأخرج الطبراني من حديث عبد الرحمن بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في منامه الطويل، قال: (رأيت رجلاً من أمتني يلهث عطشاً، كلما ورد حوضاً منع منه، فجاءه صيام رمضان فسقاه). ويأتي من فضائل هذا الشهر: الجود فيه، وتلاوة القرآن الكريم، وما فيهما من عظيم الأجر، وقد ورد في ذلك أحاديث نبوية، وأحاديث قدسية كثيرة، فقد روى الترمذي عن أنس مرفوعاً: (أفضل الصدقة صدقة في رمضان), كما روى علي حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة غرفاً يُرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها)، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: (لمن طيَّب الكلام وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام). وهذه الخصال كلها في رمضان فيجتمع فيه للمؤمن: الصيام والقيام والصدقة، وطيب الكلام، فإنه يُنهى فيه عن اللغو والرفث. والصيام والصدقة والصلاة، توصل صاحبها إلى الله عز وجل. كما أخرج الإمام أحمد, حديث خالد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فطر صائماً فله مثل أجره، من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء)، وقد سئل بعض السلف: لم شُرِّع الصيام؟ قال: ليذوق الغني طعم الجوع، فلا ينسى الجائع، وهذا من بعض حكم الصوم وفوائده. كما يستحب دراسة القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك، وعرضه على من هو أحفظ له، وفي رمضان استحباب الإكثار من تلاوة القرآن، كما كان جبريل يدارس رسول الله فيه. ويرى ابن عباس: أن المدارسة بينه وبين جبريل كانت ليلاً، وهذا يدل على أن الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً، فإن الليل تنقطع فيه الشواغل ويجتمع فيه الهم، ويتواطأ القلب مع اللسان على التدبر، كما قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} المزمل (6). ومن فضائل رمضان: أنه أنزل فيه القرآن، كما قال ابن عباس: جملة واحدة من اللوح المحفوظ، إلى بيت العزة في ليلة القدر، ويشهد لذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}القدر (1)، ويعتبر قيام الليل بالتنفل والتراويح فرادى، أو جماعة حتى ينشط بعض الناس بعضاً، من فضائل رمضان، لمكانة قيام الليل، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل، أكثر من غيره. ولفضل القيام في ليالي رمضان، فقد روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم، قام بهم ليلة ثلاث وعشرين، إلى ثلث الليل، وليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، فقالوا: يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا، فقال: (إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته) خرجه أهل السنن، وحسنه الترمذي، وهذا يدل على أن قيام ثلث الليل، ونصفه يكتب به قيام ليلة.. لكن مع الإمام، وكان الإمام أحمد بن حنبل يأخذ بهذا الحديث، ويصلي مع الإمام حتى ينصرف، ولا ينصرف حتى ينصرف الإمام. أما فضائل رمضان صياماً وقياماً، فيما يتعلق بالنفس البشرية: صحياً ونفسياً واجتماعياً، فهي كثيرة جداً، قد بحثها المختصون من أطباء وغيرهم.. فهو علاج صحي في تنظيم الأكل وتوقيته، إذ يخفف السمنة، ويجدد الشباب، وفيه مساعدة على الحمية من السكر والدهون والكلسترول، وارتفاع الضغط، والصداع النصفي (الشقيقة)، بل إن أكثر الأطباء في العالم يعالجون مرضاهم بالصوم، فسبحان الخالق ما شرع شيئاً إلا لحكمة بالغة. زواج القاضي شريح: جاء في أخبار القضاة لابن حبان أن شريحاً القاضي قال: تزوجت امرأة من بني تميم بكراً يقال لها زينب، فلما تزوجتها، أسقط في يدي فقلت: جفاء بني تميم وأكباد الحمر، فلما كان ليلة البناء، قمت إلى المحراب لأصلي ركعتين، فنظرت في أقفاي، فقلت: إحدى الدواهي، فصليت ركعتين، فلما سلّمت استقبلتني ولائدها، بملحفة تكاد تقوم قياماً من الصبغ فلبستها، ثم جلست إلى جنبها فمددت يدي إليها، فقالت: على رسلك. فحمدتِ الله وأثنتْ عليه، وشهدت بشهادة الحق ثم قالت: أما بعد: فإنه كان في قومك مناكح، وكان في قومي مثل ذلك، وإنك نكحتني بأمانة الله، يقول عز وجل: {َإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ..}البقرة (229)، أحب أن تخبرني بكل شيء تحبه فأتبعه، وبكل شيء تكرهه فأجتنبه، أقول قولي هذا، ويغفر الله لي ولك. فحمدتُ الله، وأثنيت عليه، وشهدت شهادة الحق، ثم قلت: أما بعد فإنك قد تكلمت بكلام، إن تتمي عليه يكن حظاً لك ونصيباً، وإلا تتمي عليه يكن عليك حجة. نحن جميعاً فلا نفترق، ما سمعت من حسنة فأفشيها، وما سمعت من سيئة فادفنيها، أقول قولي هذا ويغفر الله لي ولك.. ثم مددت يدي عليها.. فقالت: على رسلك. أخرى لم أذكرها في خطبتي ولم أسمعك ذكرتها، هل تحب زيارة الأهل؟ فقلت: ما أحب أن تملني أختاني -يعني أرحامي-، فأرسلت إلى أمها، عزمت عليك لا تأتيني إلا على رأس الحول، من هذه الليلة. قال شريح: فبينما أنا ذات يوم راجعاً من عند الأمير، إذا أنا بامرأة إلى جنبها تأمر وتنهى، قلت: من هذه؟ قالت أمي، والله ما علمت أن لها أماً، حتى قمت في مقامي هذا. ثم قالت لي الأم: كيف رأيت أهلك؟ قلت: قد أحسنت الأدب، وكفيت الرياضة، فبارك الله عليكم. قالت: وأنت، إنْ رأيت منها شيئاً، فعليك بالسوط، فإن شر ما أدخل الرجل الورهاء المحمقة، ثم قالت: هي بنتي خرجت من بطني وأدبتها، وليس من امرأة إلا ولها خناقان، متى يسترخي أحدهما، يحدث خلقاً غير خلقه، فإن رابك من هذه الجارية شيء، فعليك بالسوط، قال شريح: بارك الله فيك وما الخناقان؟ قالت: إذا مكثت عند زوجها سنة، اعتادت خلقاً غير خلقها، فإذا ولدت تغير طبعها، التي ربيت عليه، قال: فعاشت معي بأحسن خلق وأطيب طباع حتى ماتت. (أخبار القضاة: 2:206-207).