لو قيل لأحدنا: إن هناك مساهمة أو نوعاً من البضائع، أو غير ذلك من أنواع السلع التي يتاجر فيها الناس، ويتعاملون فيها، ولها رغبة أكيدة عند أبناء المجتمع. هذا النوع المعيّن من البضائع، إذا قيل لنا، ولو لم نتأكد من صحة ما يقوله ذلك القائل، وما يدعو إليه الداعي، بأن ما يخصصه من السلع، تربح 50% أو 100%، لحرص كل شخص منا أن يبذل ما يستطيع من جهد، ويلملم ما يتوفر لديه من مدّخرات، بل قد يبيع ما خفّ حمله وغلا ثمنه، من موجودات بيته، ومتطلبات عائلته طمعاً في ذلك الربح، ورغبة في سرعة المساهمة في تلك البضاعة، قبل أن يسبقه المتسارعون، أو تفوت عليه الفرصة التي قد تكون تهوينا ودعاية. كل هذا طمعاً في ربح قد يحصل أو لا يحصل، ورغبة في مكاسب موهومة، قد تتحقق أو تذهب أدراج الرياح، ولكنها النفس في حبّ العاجل، ورغبة في الخير الدنيوي، كجزء من محبتها للدنيا، والتمتع بعرضها الزائل.. ونحن في هذه الأيام، قد أظلتنا سحابة رمضان، شهر الخير والبركات، ومضاعفة الأجور والحسنات، وإعانة الله فيه على العبادات، وما العمل فيه إلا تجارة رابحة مع الله، ووعد صادق منه سبحانه: بإقالة العثرات، ومضاعفة الأجور، وإعانة النفوس المستجيبة على المكسب الذي لا يعدله مكسب. ذلك أن الصوم من أعظم القربات، وأجلها إلى الله سبحانه، ولعظم مكانته، فقد قال كثير من العلماء: إن الأعمال تكتب جزاءها الملائكة الموكّلون ببني آدم، إلاّ الصوم فإنه لله، وهو مدرسة في الصبر وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: «الصوم لي وأنا اجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي». وتجارة ربحها من الله، فإن عطاء الله لا يعدله عطاء، وجزاؤه ورضاه سبحانه عن عبده، مكسب فوق ما تتطلع إليه النفوس من مكاسب، ولذا جزاؤه - يعني الصوم - كان عظيماً، وورد تأكيد بهذا المعنى في الحديث: «للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه»، فهو عبادة بدنية، سرّ بين الصائم وخالقه. ثم إن الصوم يعوّد العبد الصبر عن الشهوات البدنية، وعن هفوات اللسان، وعن التطلع إلى ما عند الناس، وما في أيديهم، وقسّمه العلماء إلى: صبر على طاعة الله، وصبر عن معاصي الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة، وهذه الثلاثة تدعو الإنسان إلى أن يصبر على ما يعترضه في حياته من أكدار ومتاعب، وأمراض ومصائب، فكان من دروس رمضان النافعة، وذات الأثر البعيد أن يكون الصائم قد أخذ الفائدة من رمضان الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم شهر الصبر، وفي حديث آخر خرّجه الترمذي قال عليه الصلاة والسلام: «الصوم نصف الصبر». هذا الصبر الذي رغّب الله في كتابه الكريم التحلي به، وضاعف أجره بدون عدّ ولا حصر:{إنَّمّا يٍوّفَّى پصَّابٌرٍونّ أّجًرّهٍم بٌغّيًرٌ حٌسّابُ} (الزمر10). له مكانة كبيرة عند الله، ووراءه أرباح مضاعفة عند الله. فشهر كله عمل: ليله قيام، ونهاره صيام، ونومه عبادة، ويجعل الله فيه إعانة على الصبر بالعبادة، حيث إن مردة الشياطين تصفّد، والصوم يضيّق المجرى على الشيطان في بدنه، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم: «بأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»، وحتى إن قرين المؤمن بالله من الشياطين، يكون هزيلاً مع الصيام، ذليلاً مع ذكر الله ومواصلة العبادات، فيضعف عن الوسوسة، والتثبيط عن العبادات، ولذا ينشط الإنسان في رمضان. هذا الشهر وما فيه من الفضائل، والدعوة إلى الخير، وتنشيطه لبدنه على العبادة: لسانياً بالذكر والتسبيح والتحميد، ووجدانياً بقراءة القرآن الكريم، وتدبّر معانيه، وسمعياً بتلقي المواعظ وسماع الخير من قرآن وأحاديث وحث على كل عمل يرضي الله، وجسمانياً بالصوم نهاراً والقيام ليلاً، حيث إن من قام مع إمامه - يعني التراويح بعد صلاة العشاء جماعة - حتى ينصرف كتب له قيام ليلة. وباليد إنفاقاً زكاة وصدقة، وبالقدم سعياً في العبادة، وسيراً إلى أعمال الخير، وحثاً عليها، وإعانة على ما فيه مصلحة لإخوانك المسلمين: «لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق». هذا الشهر المبارك، وما أعان الله الأبدان فيه على العبادة، وحبب إليها النفقة: توسعة على الأهل، وزكاة من مال الله الذي أتاكم، وصدقة على المحتاجين المتعففين، وصلة مع الأقارب وذوي القربى، وتفطيراً للصائم «لأن من فطّر فيه صائماً، فله مثل أجره، دون أن ينقص من أجر الصائم شيء، ولو على تمرة أو مذقة لبن أو شربة ماء». ذلك أن الأعمال، إنما هي بالنيات، والله لا ينظر إلى الأجسام وإنما إلى القلوب والأعمال. إن الصدقة وبقية الأعمال في هذا الشهر الفضيل، تضاعف: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعين ضعفاً، إلى سبعمائة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء..إنها أعمال قليلة يقدمها العبد لربّه، فيجازيه خالقه سبحانه بمضاعفة الأجور، ويعينه على محبَّة العمل مع التّلذذ به، وهذه منقبة خاصة بالمؤمنين الصادقين المخلصين في أعمالهم، وهذا فضل عظيم من ربٍ كريم، حيث تفتح أبواب السماء كل ليلة للداعين والمستغفرين، وأن للصائم دعوة عند فطره لا تردّ، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل أعمال الصائم عبادة، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث جاء في كنز العمال وهو: «صَمت الصائم تسبيح، ونومه عبادة، ودعاؤه مستجاب، وعمله مضاعف». فالصائم إيماناً واحتساباً، يخرج من رمضان، بأرباح كثيرة، وأرقام في سجلات الأعمال وافرة، مما تهون معه مكاسب الدنيا وأرقام أرباحها، مهما بلغت في الارتقاء، فهل يتوقع الإنسان من عاقل أن يجعل هذه الفرصة تفوته بدون اغتنام، وهل يرضى أي فرد في هذه الحياة أن يرى أرباحاً ومكاسب أغلى من أنفس المعادن المعهودة إليه، توزّع بين الناس، ولا يسارع لأخذ نصيبه منها.إن من يترك فرص الدنيا تتلاشى أمامه، ولا يأخذ منها بنصيب يعتبر مضيّعاً، ويعضّ بنان النّدم، طوال عمره، فكيف بالمسلم الذي يمرّ به رمضان، ولا يأخذ منه بنصيب وافر، وهو شهر أوله رحمة، ووسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، بل إن من مرّ عليه هذا الشهر قد لا يدركه في العام المقبل، فتكون الخسارة فادحة، والنّدامة كبيرة حيث لا ينفع النّدم، فيجب على العاقل ألاّ يفوّت الفرصة المتاحة، ويفرّط في المكاسب الكبيرة، فإن للصائمين باباً في الجنة لا يدخل منه غيرهم، وإن من أدرك رمضان ولم يغفر له، فقد باء بالخسارة، ورغم أنفه. وصايا الأنبياء: ذكر السيوطي في تفسيره عندما مرّ بآيات الصيام: أن ابن سعد والترمذي وصححه والنسائي وابن خزيمة وابن حبّان والحاكم أخرجوا في الدعوات عن الحارث الأشعري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وأنه كاد يبطىء بها، فقال عيسى إن الله أمرك بخمس كلمات، لتعمل بها، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم، وإما أن آمرهم، فقال يحيى: أخشى ان سبقتني بها، أن يخسف بي أو أعذب، فجمع الناس في بيت المقدس، فامتلأ وقعد على الشرف، فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهّن، وآمركم أن تعملوا بهن: أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله، بذهب أو ورق، فقال: هذه داري، وهذا عملي فاعمل وأدّ لي، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ وأن الله أمركم بالصلاة؛ فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإن الله ينصب وجهه لوجه عباده في صلاته ما لم يلتفت. وأمركم بالصيام؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة، معه صرّة فيها مسك، فكلهم يعجبه ريحها، وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وأمركم بالصدقة: فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدوّ، ولفّوا يده إلى عنقه، وقدّموه ليضرب عنقه، فقال: أفدي نفسي منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم.وآمركم أن تذكروا الله: فإن مثل ذلك، كمثل رجل خرج العدوّ في أثره سراعاً، حتى إذا أتى على حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله» [الدر المنثور 1:44].