كان الأديب الراوية عبدالله بن أحمد العجيري ممن اختارهم الملك عبد العزيز ليكونوا بصحبته حضراً وسفراً، ضمن مجموعة من العلماء والقضاة والأئمة والمرشدين الذين كان يأنس بهم في مجالسه العامة، وفي غزواته الكثيرة إبان توحيد الجزيرة العربية وإرساء قواعد الأمن والإيمان فيها، وكانت وظيفة العجيري المميّزة القراءة واستعراض المختار من كتب التراث في الرّكب الملكي على ظهور العيس، وفي المجالس عندما يميل الرّكب إلى الراحة بعد الإدلاج والسهر ليلاً أو القيلولة نهاراً. وأديبنا ينتمي إلى أُسرة العجارا، أُسرة كبيرة منتشرة في وسط الجزيرة العربية والخليج، فأديبنا من بلد حوطة بني تميم، وله أبناء عمومة في القصيم يدعون العييري في بريدة، وسمي بالعييري بإبدال الجيم ياءً على لهجة أهل الحوطة، وعندما قدم جد العجيري إلى بريدة سأله أهل تلك الناحية: من أنت؟، فأجاب: العييري، وهو يقصد العجيري، فظلّ يُعرف باسم العييري أكثر مما يُعرف باسم العجيري، ومن عائلة هذا الأديب الأستاذ الأديب الفلكي (صالح العجيري) من الكويت الشقيق، وبيت العجيري بيت علم وأدب منذ القدم، فجد أديبنا هذا هو العالِم الحجّة (سعد بن أحمد العجيري) علاّمة الحوطة ومرجع الفقه والإفتاء فيها في زمن الإمام سعود الكبير بن عبد العزيز، وقد ولاّه الإفتاء والقضاء فيها، وفيهم عدد من العلماء والأُدباء مثل: حمد بن عبدالله العجيري كاتب للوثائق وذو قلم معروف جميل الخط وطالب علم عند الشيخ إبراهيم بن عبد الملك قاضي الحوطة في زمنه وهو والد أديبنا، وإبراهيم بن سبيت العجيري وهو طالب علم ومن نساخ المخطوطات في الحوطة ومعاصر للأديب وأبيه، وأُسرة العجيري صاهرت وصاهرت عدداً من الأُسر الكريمة التي برز فيها علماء مثل الشيخ عبد العزيز بن عبدالله آل باز، فجدة الشيخ لأبيه من أُسرة العجارا. وُلد العجيري عام 1267ه في الحوطة وهي إقليم يبعد حوالي مائتي كلم تقريباً جنوباً، وهو إقليم ريفي جميل، ومشهور بالزراعة وغرس نخيل التمر الجيدة وتربية المواشي، وسكان هذا الإقليم عُرفوا بالصدق والرجولة والشجاعة والكرم وقوة الشكيمة، ولهم ولع خاص بالتمسُّك بالخلق الإسلامي والأفعال الكريمة، أمّا وفاته فلم يختلف في أنّه توفي عام 1352ه عن عمر يناهز الخامسة والتسعين عاماً، وقد نعته الجريدة الوحيدة في المملكة آنذاك (أم القرى) بكلمة تأبين جيدة إلى العالمين العربي والإسلامي، وكانت وفاته في بلدة الحوطة - رحمه الله - ولا يزال أحفاده يعيشون فيها الآن وبعضهم انتقل للعيش في مدينة الرياض.وفي هذه الأثناء كان أديبنا قد اشتهر بحسن الصوت وتنغيمه وجمال النبرة فيه، حتى أصبح علماً في فن الأسماع والقراءة، وكان إلى جانب ما أوتي من علم غزير في الفنون العلمية المعروفة آنذاك، يميل بطبعه إلى حب الأدب ورواية الأشعار بجميع فنونها لكلِّ عصور الأدب وتاريخه، وكان يملك موهبة لا نظير لها في الحفظ ودقة الاستظهار وحدّة الذاكرة وسرعة الخاطر وحسن الاستشهاد، فأفاد من تلك الموهبة وأصبح يُعرف بين الناس (بالعجيري القارئ)، حتى إنّه عندما يرحل إلى بعض بلدان الخيليج يجتمع الناس إليه، ويشدون إلى سماع صوته الجميل، وهو يردّد الأشعار ويلقي الحكم والمواعظ عن ظهر قلب، وعندما يفد إلى الحوطة كانت تُعَدُّ له ساحة واسعة تُفرش، ويحضر إلى مجلسه كلّ من في البلد من الرجال والنساء والشباب، وعندما يسترسل في وعظه وإنشاده بصوته العذب المترنِّم في تلك المجالس التي حوت الكثير من الشيب والشباب وهو يردِّد آيات وأحاديث الوعد والوعيد، ويتبع ذلك بالوعظ المسجوع والرقائق الدقيقة، حتى أنّ بعضهم يعود من المجلس، وقد غيّر الحال بحال وانفصل عن وجوده إلى وجود أفضل وأنعم بالاً. وينصرف البعض متأثِّراً وقد أخذته روعة المشهد القرآني، ويظل يبكي إلى ساعة متأخرة من الليل، واشتهر العجيري بأنّه كان ذلق اللسان، جهوري الصوت، له ذاكرة لا مثيل لها، ويتجلّى ذلك حتى عند الإنشاد لفنون الشعر الشعبية المحلية، ولا يزال التنغيم في القراءة والإنشاد موجوداً في العراق، وفي بعض قرى نجد واليمن وأجزاء كثيرة من الخليج العربي عند قراءة الشعر والنثر وعندما تتلى نصوص الأذكار في المناسبات الدينية وهي كلُّ ما بقي من فن الترانيم في العصر العباسي، وذلك اللون المميّز في القراءة والإنشاد الذي كان يطرب به الشيخ العجيري سامعيه في مجلس الملك عبد العزيز وفي مجالس ونوادي الحوطة العامرة بترانيمه في الوعظ والإرشاد والرقائق ما هو إلاّ البقية الباقية من فنون التنغيم العربية البائدة. وذكر الشيخ عبد الرحمن الرويشد أنّ أديباً ثقة قد حدثه أنّ الشيخ الأديب (محمد سرور الصبان) دهش عندما سمع الراوية عبدالله العجيري، وهو يرتل القرآن ويؤم الملك عبد العزيز في صلاة جهرية في أول ليلة دخل فيها الملك عبد العزيز مكةالمكرمة، وقد أناخ رواحله في منطقة الزاهر ولقد دهش الشيخ محمد سرور أكثر عندما سمع الشيخ العجيري وهو يترنّم بصوته العذب في مجلس الملك عبد العزيز بقصيدة كعب بن زهير المشهورة: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم في إثرها لم يفد مكبول - قال محدّث الشيخ عبد الرحمن الرويشد: إنَّ الأديب الشيخ محمد سرور قال: إنّه يعتقد أنّ أداء الشعر قديماً كان بهذا التنغيم والتلحين، وكان العجيري آية في حفظ الأشعار والتاريخ والوعظ والسير، وقد أودع ذلك كله ذاكرته التي لم تخنه قط. ولقد صوّر لنا الشيخ العالم الثقة والأديب البارع يوسف ياسين محرر جريدة أم القرى آنذاك والذي صحب الملك عبد العزيز في رحلته عام 1343ه إلى الحجاز على ظهور الجمال - صوّر لنا ذلك الأديب وقد رأى الشيخ العجيري عن كثب وهو يحث راحلته في الرّكب الملكي رافعاً عقيرته في ظلمة الليل الحالك وعلى ظهر المطي دون أن ينظر إلى كتاب أو أن يطلع على ورق، قال: حتى إذا أدلج الليل وكلَّ الحادي وكاد الركبان يملون، نادى الملك عبد العزيز بصوته قائلا: العجيري، فينادي المنادي: العجيري .. العجيري، وعندما يسمع العجيري النداء سرعان ما يلبيه ويحث راحلته الذلول حتى يقرب من وسط الجمع الغفير إلى جانب الملك عبد العزيز تاركاً حاشية الرّكب التي كان يفضلها موقعاً لسيره قبل النداء، قال الشيخ يوسف ياسين: ما رأيت الشيخ يوماً على حاشية الرّكب يمتطي راحلته بجسمه الناحل الوقور إلاّ تذكّرت قول ابن أبي ربيعة: قليل على ظهر المطية ظله سوى ما نفى عنه الرداء المحبرا فإذا توسّط الشيخ العجيري جموع الرّكب حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه الكريم، ثم استهل موضوعاً شائقاً من فنون الأدب أو السيرة أو التاريخ فيذهب يذكر جميع ما ورد في كتاب الله عن الموضوع، وما روي عن الرسول الكريم، وعن الصحابة والتابعين في ذلك المعنى، ثم ما روي عن العرب من جاهليين وإسلاميين ومولدين ومحدثين، وما قاله أئمة الهدى من العلماء الأعلام، فإذا بدأ راويته كان السيل المنحدر يغترف من بحر زاخر لا يتلعثم ولا يتردد يصل القول بالقول ويغرب ويشرق، يجوب حدائق الأدب فيقتطف من كلِّ غصن زهرة وينثر على مستمعيه جني ما اجتناه وما استودعه ذاكرته التي لم تخنه في ليلة ولم تعز عليه مع طول الأيام وتواليها، قال الشيخ يوسف بن ياسين: لولا ظلمة الليل وقلق راكب الراحلة لاقتطفت مختارات مما يحفظ العجيري وودعتها للأُمّة العربية متاباً سائغاً في الأدب العربي من روايات الشيخ العجيري، وقال: إنّ العجيري كان يجيد ترتيل القرآن الكريم وإذا تلا شيئاً من كتاب الله ونحن في السفر صحبة جلالة الملك عبد العزيز أنصت الكل له والتفت الرّكب حول راحلته، يرتّل القرآن الكريم بصوت جهوري جميل بترتيل تكاد تمد منه الحروف وهو يلاحظ المعنى الذي تفيده الآية ويشعر به فإن كان الكلام وعيداً رجف صوته وارتعش وإن كان وعداً أسلس صوته وأبرقت أسارير وجهه. والعجيري سمع من علماء زمانه وتلقّى جلّ العلوم التي كانت تدرس آنذاك في العقائد والفقه والفرائض والنحو والصرف والبلاغة، فهو ليس بحافظ وراوية فقط بل إنّه عالم جليل بأحكام الشريعة وعلومها، لقد طاف الشيخ (العجيري) في أول نشأته بالعديد من البلاد داخل الجزيرة العربية، إذ زار الكويت ودول الخليج وعمان والحجاز والأحساء، وكانت هذه البلاد آنذاك مكتظّة بالأُدباء والشعراء، وقد رحل أيضا قبيل دخول الملك عبد العزيز إلى حائل للانتجاع وطلب الرزق فوفد على أميرها محمد العبدالله الرشيد، فأكرم وفادته واختصه لنفسه وتعرّف على ما لديه من كنوز الأدب الثمين فشغف به وبإنشاده الأشعار بصوته الرخيم وتغنِّيه بالشعر والرقائق، فكان يطرب الجلاّس ويسعدهم بحسن صوته وترانيم إنشاده، وبعد أن ارتفعت راية الملك عبد العزيز على ساحة الميدان، وأصبح حاكم الجزيرة، كان الشيخ العجيري أول من قصده ثم صحبه بقية حياته وكان في مقدمة جنده، وشهد معظم فتوحاته وانتصاراته، وأصبح الشيخ (العجيري) نديم عبد العزيز وطير السعد المغرِّد لدى خوض المعارك، يأنس بقربه في جلساته وأنسه، فكان العجيري حادي الرّكب وواعظ الجيش وأنيس المجالس. كان من عادة الشيخ العجيري أن القوم متى ما أرادوا اللقاء ومقارعة الأبطال تتجلّى عقيرته ويبدأ بصوت جهوري يردِّد في ألحان عذبة مستساغة أطرافاً من آيات الجهاد وما أعد الله للمجاهدين، ثم لا يلبث أن يردِّد من حافظته التي لا تنضب درراً من الشعر العربي فيما ورد عن الشجاعة والذود عن الحياض وأخبار الشجاعة وملاقاة الأبطال، فيثير الحماس ويدفع إلى البسالة .. يحدثنا المؤرخ أمين الريحاني: كان الملك عبد العزيز يأنس بالعجيري ويقرِّبه ويدني منزلته لديه وكان يكبر فيه علمه وفضله وسعة اطلاعه، فإذا جلس الملك عبد العزيز في مجالس العامة التي تكون غالباً زاخرة بالوفود والمسلمين والمراجعين، التفت إلى الشيخ العجيري بعد أن يفرغ فيسأله عن معنى من المعاني التي أجاد العرب في وصفها وأحسنوا القول فيها من الفنون الأدبية، فلا تجد الشيخ العجيري إلاّ حاضر البديهة سريع الخاطر، يجيب كأنّه على استعداد للجواب من قبل، وما الأمر إلاّ وحي خاطرة وسرعة ذاكرة. وربما سئل العجيري عن معنى دقيق أو نكتة لغوية، فلا يضن بالجواب ولا يجهل ما يُقال، وكان الملك عبد العزيز يسأله وهو في السفر عن الأسماء المماثلة والدارسة للأرض التي تكون في طريقهم فكان يجيب على الفور فيذكّر الأرض ومن سكنها من القبائل، وأشهر من عاش على ظهرها من الشعراء والأبطال ويأتي بشيء من شعرهم، فإذا كانت تلك الأرض قد شهدت معركة إسلامية أو جاهلية أفاض في وصف تلك المعركة وتحدث عما قيل فيها من شعر ونثر، فيفيض عن علم واسع وإيراد شواهد كثيرة دون تكلُّف أو إجهاد ذاكرة يتتّبع طريقة الجاحظ والمبرد في سياق القول ثم شرحه، وتعمّد إيراد الأشباه والنظائر وتلبية ما تدعو الإشارة إليه من المعاني، وكان - رحمه الله - على سعة علمه، متواضعاً، سمحاً، خلوقاً طيب المعشر، وكان نقياً، عزوفاً عن كلِّ ما يشين، قليل الاختلاط بالناس إلاّ في مجالس العلم والأدب فهو سميرها وزينة محفلها، وكان يقرض الشعر، لكن على قلّة، وقد قال له الملك عبد العزيز يوماً: إنّ أمرك عجيب يا أبا أحمد: كيف تحفظ ذاكرتك الأشعار ثم يعجز ذهنك الحاد عن قرض الشعر بما يضاهي شعر زميلك وصديقك (محمد بن عثيمين)؟! فابتسم العجيري وتمثّل قول الشاعر: وقد يقرض الشعر العيي لسانه وتعيي القوافي المرء وهو لبيب ثم يقول: يا طويل العمر: الأمر كما ذكرت، فحصيف الشعر ورائعه لم يسلس لي القياد، أما هزله ورديئه فأكره أن ينسب إلي. وللعجيري شعر رصين لكنه ليس في مستوى ما يحفظ من نوادر الأشعار، وليس مماثلا لشعر صنوه الشاعر الفحل محمد بن عثيمين، ولعلّ عزوفه ورغبته عن نظم الشعر كانت بسبب حفظه الوفير لأجود الشعر العربي وأطيبه، ولعلّ أصدق من يزجي لنا القول عن هذا الأديب ويكشف لنا حقيقة جوهره ومعدنه هو صديقه وأحبّ الناس إليه الشاعر الكبير (محمد بن عثيمين) في مرثيته التي بكاه فيها بعد وفاته حيث يقول في مطلعها: هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب إلى أن قال: سقى جدثاً وارى ابن أحمد وابل من العفو رجاس العشيات صيب فقد كان في صدر المجالس بهجة به تحدق الأبصار والقلب يرهب فطوراً تراه منذراً ومحذراً عواقب ما تجني الذنوب وتجلب وطوراً بآلاء الإله مذكراً وطوراً إلى دار النعيم يرغب ولم يشتغل عن ذا ببيع ولا شرا نعم في ابتناء المجد للبذل يطرب أخ كان لي نعم المعين على التقى به تنجلي عني الهموم وتذهب فطوراً بأخبار الرسول وصحبه وطوراً بآداب تلذّ وتعذب على ذا مضى عمري كذاك وعمره صفيين لا نجفو ولا نتعتّب ..... إلى بقية الأبيات. أليس محزناً ألاّ نجد أثراً من الذكرى لهذا العبقري سوى بضع كلمات متناثرة حملتها إلينا صحيفة أسبوعية منذ ستين عاماً هي أم القرى، أو بضعة أسطر وردت في تاريخ الريحاني، فهل يا ترى أنّنا سنجد مكاناً لأمل متطلّع نحو جامعاتنا لتعرف لهذا العبقري قدره فتعين على جمع أخباره وبلورة فنه المحبب، فن المجالس الأدبية، وتطلق اسم الشيخ (عبدالله العجيري) للذكرى على قاعة أو مدرج: اعترافاً بفضله أو تخليداً لذكراه؟، إنّ لنا في هذا من الثقة ما يجعل الأمل شاباً متفائلاً، إن شاء الله. المصادر : 1- (العجيري)، عبد الرحمن سليمان الروشيد، ط 1، 1412ه، دار الشبل للنشر والتوزيع والطباعة - الرياض، ونص المقال منقول من هذا المصدر بتصرف مني. 2- مجموعة صور لوثائق ومخطوطات كتبها طلاّب علم من أُسرة العجيري بحوزتي. 3- المعرفة الشخصية بأُسرة العجيري. خطاب من الملك عبد العزيز مؤرّخ في عام 1336ه يستحث فيه الشيخ العجيري للقدوم إليه ويحوي جملة لطيفة تبرز مكانة العجيري عنده: (يد في الكتاب ورجل في الركاب لا تستقيم ولا ساعة)