أمس كان هنا واليوم لم نعد نراه.. شاب عرفناه منذ ميلاده سكن قلوب جميع الأهل والأقران. خلوق غيور ملتزم بجميع واجباته مؤدٍّ كل التزاماته حتى صار فخراً للكل. اختار أشرف الأعمال ويوم تخرج من مدرسة الرجال أدى قسم الولاء والطاعة هو ومن معه بنفوس عامرة تفيض بالعطاء وتجود بسخاء، واليوم حُمل على الأكتاف، رفع الهامات عزاً ووقاراً. سطر ملحمة الرجولة بالدم الزكي علمنا كيف يكون الفخر بلا غرور والعطاء غير المبتور حطم بكبريائه الطغاة امتزج دمه بتراب وطنه وانتشر في الكون شذى مسك وعبير، ابتسم وأرخى رأسه على الأرض وشد بيده على ترابها. علمنا من غير كلام وأوصانا بحمل الأمانة من بعده، اصطفت الجموع لم نكن نعزي بل قدمنا التهاني وكعادته تفوق علينا في كل شيء وكم تمنينا أن نكون مكانه، وفي طريق العودة سألني أحد الصغار هل مات ولن يعود؟ جلجل كياني كلامه ووجدتني عاجزاً عن الجواب وبماذا أرد عليه..! أيكون الجواب كما اعتدنا مع الصغار في مثل هذه المواقف، أم أنه مدرك لما يقول دققت في عينيه ورأيت عمق المعنى ووضوح الجواب قلت سبقنا، فوجدته يعيد السؤال ولكن بشكل آخر، ألم يخف الموت؟ سارت في جميع أجزاء جسدي رعشة جلجلت كياني وفجرت الدم في عروقي ولملمت شتات كياني، نعم هذه هي الرسالة التي غرسها في نفوس الصغار قبل أن يرحل، وطني هذا أنت في وجدان صغارك وكبارك، ثم قلت الخوف من صفات الجبناء وأصحاب الذنوب والمعاصي ومن تعلقوا في الدنيا فزاغت أبصارهم عن الحق ووجد الشيطان في نفوسهم مكاناً.. ثم خانوا الأمانة وباعوا الضمير بثمن بخس، فقد خانوا الله ثم الوطن. . أما هو فقد كان عصياً عليهم ولم يجدوا له ثمناً فخافوه ولم يروا بداً من تخويفه ظنناً منهم أنه يخاف فيبتعد عن طريقهم، ونسوا أول يوم لبس فيه لباس الشرف يوم تخرج من كليته واضعاً يده مؤدياً قسم المبايعة والولاء للوطن وولاة أمره وقادة أمته وضع نفسه طوع أمرهم ورهن إشارتهم، لم يلتفت لزيف الدنيا الذي زاغت له أبصارهم ولم تركن نفسه للملل الذي خيم في أنفسهم المريضة، شق طريقه في النور ولم ينزو في الظلمات والجحور حدد هدفه وسار صامداً متسلحاً بإيمانه وعلمه وقوة بأسه باع الروح في سبيل الوطن، صقلت شمس الصيف سحنته وخجل برد الشتاء من قسوته.. وكعادته كل يوم يخرج متقلداً حلته العسكرية يمضي برهة من الوقت متعطراً ومتطيباً معتنياً بقيافته مودعاً لأنه مؤمن بأن هناك يوماً لن يعود فيه لم ترهبه فلولهم ولا فتاواهم، أقاضهم بهدوء وشل تحركاتهم، مزقهم صبره وخنقهم حذره وأرقتهم فطنته لم يروا من بد إلا هدر دمه والجائزة الجنة لمن ينال منه وعداً وغروراً وهذا هو حال المفلسين الوعد بما لا يملكون وما أسهل الوعد عند عديم الضمير سلموا نفوسهم لهواها فساقتهم للهوان أعيتهم الحيلة كيف السبيل لشق هذا التلاحم بين القيادة ورجالها، أدركوا حب الوطن في نفوس الجميع وعرفوا أن هذا هو السور الذي أعياهم تسلقه فصاروا يرونه السيف الذي يقيم الحد على رقابهم، أهانتهم حكمته أعيتهم سطوته، مده هادر وسيلهُ وافر عطاء جعل من الرموش سهاماً في قلب كل حاقد وأسدلها ظل لمن أحب، لم ينسَ يوماً وصية الوالدين (يا بني وطنك عزك وكرامتك) وأضاف عليها ما تعلمه من ولاء وتضحية وفداء من معلميه وقادة الأمر في وطنه، ننظر شموخ الوطن في طلته وصفاء السماء في مقلته غاب من بيننا وترك ملحمة الوفاء تحكي أسطورة رجال لم يعرفوا الهوان وتشير بالخزي والخذلان لكل من خان وتعرض صورتين مختلفتين لوحة لابن الوطن البار وركن وضيع للغادر الجبان.