لما كانت هذه الصفحة تُعنى بالتاريخ والآثار فقد وجدتُ نفسي منساقاً للحديث عن شخصية قيادية سياسية لها ارتباط وثيق بالتاريخ والآثار. ذلكم هو صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز؛ فالرجل من روَّاد التاريخ وشيوخه، ومرجع لكل باحث في هذا المجال. وسأتناول هذه الشخصية المهمة بالحديث مجرَّداً من كل غاية إلا إحقاق الحق وإرجاع الفضل إلى أهله، ويقيني أنني مهما كتبتُ فلن أستطيع إيفاءه حقه، وإن ما سنتحدث به في هذا المقال إنما هو غيض من فيض، وقطرة من بحر. خصاله الحميدة من خصال سموه العديدة وصفاته المجيدة صفة الوفاء؛ فهو يحيط الرجال الذين شاركوا والده الملك عبد العزيز - رحمه الله - في توحيد المملكة العربية السعودية كل عناية ورعاية، بل امتدت رعايته إلى أبنائهم وأحفادهم؛ اعترافاً من سموه بدورهم المؤيِّد والمناصر للملك عبد العزيز في حروبه من أجل توحيد المملكة العربية السعودية. وخير شاهد على ذلك تبنِّيه وإشرافه على احتفال المئوية وتكريم الرجال الذين دخلوا مع الملك عبد العزيز الرياض عام 1319ه، وهو يكرِّم صفوة هذا الوطن كلما أتت مناسبة تستدعي تكريم الذين يعملون بكل إخلاص وتفانٍ لخدمة دينهم ووطنهم. ويتميَّز سموه بالحنكة القيادية، والصرامة والقوة في الحق، وفي المقابل تجده يستقبل زوَّاره ومراجعيه بالبشر والترحاب، ويجلس جلسات طويلة دون ملل أو كلل يستقبل كثيراً من المسلمين، فيقضي حوائجهم كل بحسبه. وهو سبَّاق دائماً في العمل الخيري، ويشرف ويدعم كثيراً من الهيئات والجمعيات الخيرية، ويحيط هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمتابعة وتشجيع منسوبيها. فراسة سموِّه لسمو الأمير سلمان فراسة قوية ودراية واسعة في أنساب الأُسر والقبائل في الجزيرة العربية وأبرز أعلامها الأولين والآخرين ودورها التاريخي، بل إن معلوماته وذاكرته القوية تثري معلومات شيخ كل قبيلة عن قبيلته. ومما يدل على فراسة سموه أنه كثيراً ما يعرف قبيلة الرجل عندما يراه أو يكلمه، ويعرف قصد المدَّعي حتى لو موَّه دعواه بشيء من القول. ولا غرابة في ذلك؛ فمن شابه أباه فما ظلم، وهذا الشبل من ذاك الأسد والبطل المغوار المجاهد الملك عبد العزيز. وأما الأشبال فمع تقلُّب الأيام وذهاب السنين أصبحوا أسوداً، فسادوا وساسوا البلاد والعباد. حدَّثني الأمير خالد بن سعد بن عبد العزيز عن موقف يدل على فراسة الأمير سلمان، أنه رأى شخصاً يمشي فاستدعاه وسأله عن صلته ب(فلان)، فكان رد هذا الشخص: هو جدِّي. ولقد عرفه الأمير سلمان من خلال مشيته! ويروي أحد المؤرِّخين أنه حينما استدعاه الأمير لمناقشته فيما كتبه عن بعض الوقائع التاريخية يقول: تبيَّن لي ضحالة معلوماتي في هذا المضمار مما سمعته من معرفة الأمير سلمان بوقائع قبائل نجد وشمائل الجزيرة؛ فقد أثبت لي خطأ ما كتبتُ وصواب ما يقوله سموه بالقصائد وأسماء قائليها ومناسبتها، وعلمتُ أن الأمير على اطلاع واسع بفنون الشعر والتاريخ. وقد كان لي شرف مقابلة سموه وإطلاعه على بحثي عن (دور أسرة آل عفيصان في خدمة الدين والدولة) لنيل شرف توجيهه، فقال سموه: هل تعلم أن كل ما في هذا الكتاب عن تاريخ آل عفيصان أعرفه، ورفع الكتاب بيمينه المباركة. فهذا يدل على وفائه للرجال الذين خدموا هذه البلاد، وإلمامه بكل شاردة وواردة من الأحداث التاريخية المهمة. مجالس سموِّه عندما تعجز الكلمات عن نقل الحقائق يُفتح الباب أمام الواقع ليقول كلمة الحق ويشهد شهادة الصدق. فالواقع يقول: إذا أردتَ أن تتعرف على شخص سموه فاذهب إلى مجالسه، فسوف يستقبلك الكرم، وتصافحك السماحة، ويجالسك التواضع، وتفوح عليك نسمات العلم وعبق التاريخ. أما عن مريدي سموه ومجالسيه ومحبِّيه فيقول المؤرخ أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري: حينما أُشيد بالرواية الشفهية أذكر أن مجالس بعض الوجهاء والأمراء كمجلس سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز وسمو الأمير عبد الرحمن بن عبد الله وسمو الأمير سعود بن سلمان بن محمد تضم مشايخ بادية عايشوا الأحداث، وتضم أحفاد مشايخ وفرساناً، وتضم دكاترة وطلبة علم، فتجتمع خبرة طالب العلم المستمع ورواية المُعايِش والمخضرم، فينتج عن ذلك تاريخ لم يُنشر(1). فمصداقاً لكلام هذا المؤرخ قد عايشت عن قرب مجالس سموه التي تحفل دائماً بعلماء الدين والوزراء والسفراء وشيوخ القبائل والمثقفين والأدباء والخطباء والمؤرِّخين والشعراء ومعلِّمي العلم وطلاب العلم والإداريين والتجار. وللعلماء منزلة خاصة عند سموه؛ فهو يُكنُّ لهم كل التقدير والاحترام، ومجلسه لا يخلو من العلماء، وإن ارتباطه بهم كارتباط قصر الإمارة بجامع الأمير تركي بن عبد الله؛ مما يدل على أن الارتباط وثيق، والصلة دائمة، والتعاون مستمر. وسموه الكريم خطيب مفوَّه، ومن فرسان الفصاحة والبلاغة، وفي منطقه عذوبة جادة تعزِّز في نفسك القناعة بما يريد من قوله، فحديثه يخرج من القلب فسرعان ما يصل إلى القلوب. وهو معين لمن أراد أن يرتوي، ومرجع لمن أراد أن يوثِّق، وبرهان لمن أراد أن يواجه، وإرشاد لمن أراد أن يهتدي، وعنده القول الفصل لمن اشتبه عليه الأمر. وإنك عندما تدخل على سمو الأمير سلمان في مجلسه تتذكر قول الشاعر: فرز الوغى كنه على الوكر قرناس يمناه في لطم الحبارى شطيره أو قول أبي فراس ونحن أناس لا توسط بيننا لنا الصدر بين العالمين أو القبر فعلى الرغم من كثرة الأعباء الملقاة على عاتق سموه وانشغاله بالسياسة والإدارة والفكر والأدب فإنه حريص على الاتصال بأبناء وطنه؛ حيث يجالسهم ويتبسَّط معهم في الحديث. وهذه المجالس تشهد على مدى شعبية الأمير، والمحبة والتقدير اللتين يُكنُّهما أبناء الوطن لسموه، وهذه المحبة مصداق للحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحبَّ الله تعالى العبد نادى جبريل: إن الله تعالى يحبُّ فلاناً فأحببه، فيحبُّه جبريل، فينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يُوضع له القبول في الأرض) متفق عليه. عنايته بالثقافة والآثار ومن المجالات التي تدل على عناية سموه بتاريخ المنطقة إشرافه على عدد من المراكز الثقافية المهتمة بهذا الشأن؛ مثل دارة الملك عبد العزيز ومكتبة الملك فهد الوطنية، فكل ما يصدر عنهما من خدمة للتراث والتاريخ الفضل فيه يعود إلى الأمير سلمان؛ فهو الداعم والموجِّه والمقوِّم لجميع أعمالهما، فبالله أولاً ثم برعاية سموه وإشرافه تمكَّنت مثل هذه المراكز من أداء رسالتها والاضطلاع بدورها المناط بها في خدمة الوطن والمواطن، وغدت منارات للعلم والثقافة. وللآثار نصيب من اهتمام أميرنا الكريم؛ فبصماته واضحة في العناية بهذه الآثار التي حظيت بنصيب من اهتمامه حتى أصبحت صروحاً تحكي أمجاد أمة وحضارة وطن. ولا أدل على ذلك من اهتمامه بالآثار في الرياض والدرعية وغيرهما. ومن تلك الآثار العناية بحصن المصمك بما فيه من الآثار. ولا شك أن المصمك يحمل في طيَّاته تاريخاً عريقاً وكفاحاً عظيماً. وكذلك بوابات الرياض القديمة وتجديدها على الطراز القديم؛ كبوابة الثميري وبوابة دخنة. ومن اهتمام سموه بالآثار بناء قصر الحكم وجامع الإمام تركي بن عبد الله على الطراز القديم. ومن الآثار العظيمة مركز الملك عبد العزيز التاريخي الذي جمع بين أصالة الماضي وجمال الحاضر، فهذا المركز يحتوي على متحف الملك عبد العزيز والمتحف الوطني، ومما يحويه المركز دارة العلم والمعرفة دارة الملك عبد العزيز، وفرع مكتبة الملك عبد العزيز العامة، وكذا القصر التاريخي للملك عبد العزيز المُسمَّى (قصر المربع) بما فيه من الآثار والأثاث ومسجد الملك وغابة المئوية. وللدرعية القديمة نصيب كبير من هذا الاهتمام، لكونها تحوي الكثير من الآثار التي ترتبط بآل سعود؛ فهي مقرُّ إمارتهم القديمة قبل أن تتحول عاصمةً لدولتهم السعودية الأولى؛ فالدرعية القديمة تشهد بالارتباط الوثيق بين الإمامين العظيمين الإمام محمد بن سعود والإمام المجدِّد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله. الثقل السياسي والعالمي وإن لصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز ثقلاً سياسياً وعالمياً، فكما أن له دوراً عظيماً وجهداً كبيراً في الشأن الداخلي وأنه من صُنَّاع القرار السعودي فهو تربطه علاقات قوية وصداقات حميمة مع عدد من ملوك ورؤساء الدول العربية والإسلامية وغيرها من الدول الصديقة، ويزور سموه ويرتبط به عدد من مشايخ العشائر وزعماء القبائل في الجزيرة العربية وخارجها؛ مما يدل على ثقل سموه السياسي والعالمي والشعبي. (1) مسائل من تاريخ الجزيرة، ص 122. للتواصل مع الكاتب