تحوِّل بعض الأسر شهر رمضان إلى شهر للتخمة ومضاعفة الاستهلاك من المواد الغذائية، واللحوم، والفواكه.. وهناك من يحوِّل الشهر الكريم إلى إقامة الحفلات والولائم ويسرف في ذلك، ويضيع الأوقات المباركة في النهار في شراء الاحتياجات، لتكون المائدة عامرة، والليل في الإشراف على الضيوف، وتتحول الزوجة وبناتها، ومن يساعدها في المنزل إلى طباخات أو مرابطات في المطابخ.. أصابع الاتهام وراء الإسراف يلقيها بعض الرجال على النساء بأنهن وراء إرهاق الميزانية، وكثرة الطلبات، ولكن ماذا تقول التربويات عن الإسراف في هذا الشهر الكريم، وما هو دور المرأة المسلمة؟!. مسؤولية المرأة تقول الدكتورة عواطف بنت عبدالعزيز الظفر عميدة كلية التربية للبنات للأقسام الأدبية بالأحساء: الصيام مدرسة فريدة لتربية النفوس، ودورة تدريبية لتقويم السلوك، وغرس الفضائل، والحث على الخيرات.. ولقد أكرم الله عباده بشهر رمضان، واختصه من بين الشهور، وجعله موسما لمضاعفة الحسنات، والتسابق إلى الطاعات، كما اختص هذا الشهر الكريم بأعظم خصوصية، وهي نزول القرآن في ليلة من أفضل الليالي وأجلها، ألا وهي ليلة القدر، ورغم هذه النعم الإيمانية إلا أن كثيرا من النساء المسلمات ينفرط من بين يديها عقد أيام مباركات، فلا تشعر إلا وقد انتهى الشهر، وخرجت منه صفر اليدين. ولذلك أنصح للمرأة المسلمة بأن تضع لنفسها منهجا في رمضان، ومستوى للأداء، لكي تقوّم عملها بعد ذلك، ولتكن هي خير عون لجميع أفراد الأسرة لاغتنام فضائل هذا الشهر العظيم، وذلك من خلال الآتي: أولاً: الاتفاق مع الزوج على أن يجلس أفراد الأسرة في الليلة الأولى من رمضان لذكر فضائل رمضان، وليكن للأولاد نصيب من هذه الجلسة، ومعاونة الزوج والأولاد على الاعتكاف بإعداد لكل واحد حاجاته، ومناقشة ماهية ووسيلة إطعامهم معهم. ثانياً: لا بد من تحديد ميزانية تتناسب مع الدخل لرمضان، ولا ترهق الزوجة زوجها بكثرة المشتريات، وتخزينها دون داع لذلك. وتؤكد د. الظفر أن من بركة رمضان الاجتماع العائلي المتكامل على وجبتي الفطور والسحور، وهذا ما يفتقد خلال العام، وهذه فرص للأم المسلمة أن تقدم لعائلتها الطعام الصحيح المتكامل، وليس المقصود هو القيمة النقدية للطعام، بقدر ما تهتم بالقيمة الغذائية له، وأن يكون طعاما بسيطا غير مبالغ فيه، ولا تستهلك في إعداده وقتا يؤثر على برنامجها التعبدي من صلاة وقراءة قرآن وأذكار، إذ إن المرأة التي تستهلك طاقاتها في إعداد شتى الأصناف من الأطعمة لا تستطيع بعد هذا الجهد أن تؤدي عبادتها بخشوع، خاصة صلاة التراويح والقيام. وبالنسبة لطعام الإفطار، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على الماء)، وتأسيا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن على المرأة المسلمة عدم الإسراف في إعداد الأطعمة، وكأن جُلّ همها طوال الشهر الكريم فقط إعداد المأكولات والتفنن في ذلك؛ لذا تستطيع المرأة المسلمة الموازنة بين ذلك بإعداد وجبات وتجهيزها قبل دخول الشهر الكريم، وتنظيم الوقت لمساعدتها على عدم الإخلال والتقصير في واجباتها الدينية، وتعويد الأبناء والناشئة على أن ظاهرة الإسراف ظاهرة غير صحية في كل متطلبات الحياة. الحد من الإسراف وتقول الدكتورة فاتن بنت خليل محجازي عضو هيئة التدريس بكلية التربية للأقسام الأدبية بالأحساء: لقد هيأ الإسلام للمرأة السبل الكفيلة بجعلها راعية مسؤولة عن رعيتها (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، والمسؤولية تتطلب المعرفة والحكمة والحرية، وقد شجعها الإسلام على العلم، ومنحها الحرية في ظل الحدود الإسلامية التي تساوي بين المرأة والرجل في الثواب والعقاب، وما ذلك إلا للدور الذي تلعبه في تربية الفرد الصالح الذي يشكل لبنة قوية في مجتمع متحضر متماسك مستقل. فالمرأة المسلمة تدرك دورها في تعويد الطفل على سلوك سوي، وفي تعريف الطفل بقيمة النعم التي أنعمها الله على عباده، وكيفية الحفاظ عليها، إنها القادرة على توعية الطفل بالأذى الذي يلحقه سوء الاستهلاك بالفرد والمجتمع والطبيعة، وما يجره ذلك من الإثم الذي يستوجب عقاب الله سبحانه وتعالى، إنها القادرة على توجيه الأنماط والعادات الاستهلاكية الغذائية، بحيث يتسم السلوك الاستهلاكي للفرد أو الأسرة بالتعقل، والاتزان، والحكمة، والرشادة، والموضوعية، والمنطقية، وبحيث يكون استغلال الفرد من الأغذية حسب احتياجات جسمه، وبالكميات والنوعية التي تحقق له اتزان الفائدة الغذائية، والتي تفي بكافة احتياجاته من السعرات الحرارية اليومية دون زيادة أو نقصان؛ ما يزيد نشاط وحيوية الفرد، وينعكس بدوره على إنتاجية الفرد واستهلاك الأسرة، ومن ثم على استهلاك المجتمع وحيويته. ويتم ذلك بالرجوع إلى ضوابط الاستهلاك التي وردت في القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، والتي هدفت إلى ضبط شهوات النفس، وتقدير النعمة، وتعويد الفرد على قوة التحمل، وتحويل الفائض عن الفرد إلى تنمية المجتمع، كما يمكنها الاستفادة مما وصلت إليه العلوم التي بينت مساوئ الإسراف في الاستهلاك، وتأثيره في المجتمع والطبيعة. السوق المفتوحة وتؤكد د. فاتن أن المرأة تبدأ بتربية نفسها وتعويدها على ضبط النفس عن الشهوات، ومقاومة إغراءات الدعايات المثيرة، ففي ظل العولمة أصبح العالم سوق مفتوحة، تسوده المنافسة الشرسة للحصول على أموال المستهلك باستخدام آلية شديدة التأثير في قرارات ذلك المستهلك، هي آلية الإعلانات؛ ما ترتب عليه تغير النمط الاستهلاكي له، وخلق لديه طموحات قد لا تتناسب مع دخله، وهذا ولا شك يسبب الكثير من المشاكل الخطيرة التي تسبب ارتباكا لميزانية البيت والدولة، فنجد في هذا العصر ازدياد الإسراف والتبذير، ونمو الإنفاق نحو الترف والمظهرية، وتوجيه المال أحيانا إلى الإنفاق في معصية الله، ومن ثم بإمكانها أن تربي أبناءها على الإنفاق والاستهلاك وفقا لقواعد الشريعة الإسلامية، التي نلخصها فيما يلي: أولاً: الإنفاق في طاعة الله، والالتزام بالحلال؛ لأن الإنسان سيسأل يوما عن ماله من أين اكتسبه، وفيِمَ أنفقه. ثانياً: الإنفاق في الطيبات، وتجنب الخبائث، فقد قال عز وجل: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ)، وقال الله عز وجل: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا). ثالثاً: الاعتدال والوسطية في الإنفاق، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)، وقوله عز وجل كذلك: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا)، ومن وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم في مجال الإنفاق الاعتدال، فيقول: (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع). رابعاً: مراعاة الأولية الإسلامية في الإنفاق، كالبدء بالضروريات اللازمة لقوام المخلوقات، وتحقيق المقاصد الشرعية، التي لا تستقيم الحياة بدونها، كالمأكل والمشرب والملبس، فما ينفقه الفرد على ما يحتاجه لجعل الحياة أكثر ميسرة، ولتخفيف المشاق، يجب إلا يكون إلا بعد استيفاء الضروريات، ومن ثم التحسينات، وتتمثل في النفقات التي تجعل حياة الفرد رغدة طيبة، ولا يجب الإنفاق على التحسينات إلا بعد استيفاء الضروريات والحاجات. خامساً: التوازن بين الكسب والإنفاق، لا يجب أن تكلف المرأة زوجها ما لا يطيق، وأصل ذلك قول الله تبارك وتعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أفلح مَنْ أسلم وكان رزقه كفافا، وقنَّعه الله بما آتاه). سادساً: تجنب الإسراف والتبذير في الإنفاق، قال تعالى: (كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، وقال عز وجل: (خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ). بهذا يمكن أن تربي المرأة مجتمعا قويا اقتصاديا متماسكا قادرا على الاكتفاء بإنتاجه، أي متحررا من عبودية الحاجة إلى إنتاج الآخر.. وإن شهر رمضان يخلق البيئة الروحية المناسبة لتهذيب النفس، وتوجيهها إلى محاسبة الذات، وضبط الشهوات، وتنقية النفس بالعبادة، والاستغفار، وصرفها عن ابتكار ألوان المشهيات التي تخل بميزانية البيت، وتجعل المرء يأكل بسبعة أمعاء (المؤمن يأكل بمعي واحد والكافر يأكل بسبعة أمعاء). الوسطية والاعتدال وتقول الدكتورة امباركة بنت محمود أبو جبل عضو هيئة التدريس بكلية التربية للبنات بالأحساء: إن الإسلام هو دين الوسطية، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، والمقصود بالوسطية هو التوسط والاعتدال في كل شيء، فلا جنوح إلى المادية البحتة كاليهودية، ولا إلى الروحانية البحتة كالمسيحية، ولكن لا إفراط ولا تفريط، بل التوسط والاعتدال حتى في العبادة، وفي الحديث الذي رواه الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر، وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل فلا أتزوج أبدا، فجاء إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). وأيضا التوسط والاعتدال في الإنفاق، فقد قال تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ)، فأمر بالتوسط ونهى عن البخل، وحذر منه، قال تعالى: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، ونهى أيضا عن الإسراف، وعده من مذموم الصفات، فقال: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، وتوعد المبذرين فقال: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا). من أجل هذا لا يخفى على كل ذي لب ما للسرف من خروج على طاعة الله تعالى، لما فيه من تجاوز عن الوسطية التي جاء بها الإسلام، وإذا كان هذا خلقا ذميما، وعادة سيئة في عمومها فهو في شهر رمضان أشد ذما. إن الله اختص أمتنا بشهر رمضان، وشرع لنا صيامه، وضاعف فيه الأجر والمثوبة، وجعل غاية ذلك تقواه، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).