للتعليم الجيِّد أسسٌ وثوابتٌ ومقوماتٌ عديدة كان للتربية الإسلامية النصيب الأوفر منها، ولذا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته العالية يسلك طرقاً عدة من أجل الوصول بالمتعلم في الطريق الأفضل وهذه الطرق العديدة والمفيدة لايزال المجيدون من التربويين حتى من غير المسلمين ينادون بها ويحثون المعلمين على الاهتمام بها من أجل التنويع والتشويق وطرد الملل والسأم والرتابة وبعث النشاط والحيوية في نفس المتعلم، والإنسان ملول بطبعه ويكره الرتابة {لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ} والمعلم الكفء يعلم ذلك ويدركه من خلال تعلمه وتجاربه، ومن ذلك سؤال المدرس طلابه بيْن فترة وأخرى ليعرف ذكاءهم ومقدرتهم وليكتشف مواهبهم ويثير اهتمامهم ومعرفتهم وهذا داخل في القاعدة التربوية الفذة (علِّم التلميذ بالتلميذِ) ويا ليت البعض من المعلمين يعمل بهذه القاعدة ويؤصلها في تعليمه وطلابه، ولقد كان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يسأل أصحابه عن الشيء وهو أعلم به منهم، وإنما يسألهم ليثير حماسهم ويحرك عقولهم ويختبر ذكاءهم ومقدرتهم ويقوي عامل التنافس الحميد بينهم، ولقد عرف التربويون من المسلمين المُحاجَاة وأثرها البين في إثارة الطالب نحو الفهم والتعلم وتحريك المنافسة الجيدة بين الطلاب. جاء في حديث رواه البخاري ومسلم - رحمهما الله - عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: (بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوس إذا أُتي بجُمَّار نخلةٍ فقال وهو يأكله: إنَّ مِنْ الشجر شجرة خضراء لما بركتها كبركة المسلم لا يسقط ورقُها ولا يتحاتُّ وتؤتي أكلها كل حينٍ بإذن ربها وإنها مثلُ المسلم فحدثوني ما هي؟ قال عبدالله: وقع الناس في شجر البوادي. قال القوم: هي شجرة كذا، هي شجرة كذا. ووقع في نفسي أنها النخلة، فجعلت أريد أن أقولها فإذا أسنانُ القوم فأهاب أن أتكلم وأنا غلام شاب؛ ثم التفتُ فإذا أنا عاشر عشرٍ أنا أحدثهم أصغر القوم ورأيتُ أبابكر وعمر لا يتكلمانِ، فسكتُّ فلما لم يتكلما قالوا حدثنا ما هي يا رسول الله فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: هي النخلةُ. فلما قمنا قلت لعمر أبي: والله يا أبتاه لقد وقع في نفسي أنها النخلة. فقال: ما منعكَ أن تقولها. قلتُ: لم أركم تتكلمون. لم أرك ولا أبابكر تكلمتا وأنا غلام شابٌ فاستحييتُ فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئاً. فسكتُّ، قال عمر: لأن تكون قلتها أحب إليّ من أن يكون لي كذا وكذا). وهذا الحديث عظيم القدر كبير النفع وثيق الصلة بالتعليم الجيد وأسسه المتينة وقواعده الثابتة وقد رواه الإمام البخاري - رحمه الله - في أربعة مواضع من كتاب العلم وكلُّ تبويبٍ للإمام البخاري - رحمه الله - على هذا الحديث فهو بمثابة شرح لطيفٍ مختصر له وفي التعليم بالذات يعتبر كل باب قاعدة تربوية فذة في بابها ولقد استفاض ذلك بين العلماء أعني فِقْه البخاري، وحدة ذكائه، وجودة فهمه، واستنباطه، وتنوع مقاصده، وبعدِ أهدافه، وفرط ذكائه. ولذا كان يورد الحديث لواحد في عدة مواضع وفي مجال حديثنا الآن نستفيد من هذا الحديث تربوياً ما يلي: 1 - أن المعلم الكفء يلقي المسألة أو المسائل على طلابه ليختبر فهمهم وقوة إدراكهم ويثير عامل التنافس الحميد بينهم ولتظهر بجلاء بينهم ما يسميه التربويون بالفروق الفردية بينهم ويشحذ أذهانهم وينمي عقولهم وأفكارهم ومداركهم. 2 - هناك اختلاف بين التربويين هل العلم الجيد هو الفهم، أو الحفظ، أو الجمع بينهما كما يرى ذلك المجيدون من التربويين ولذا نرى الرسول صلى الله عليه وسلم ركز في هذا الحديث ركز على الفهم الصحيح والغوص في المسائل الدقيقة ولا ينافي ذلك الحفظ والتحصيل المفيد. 3 - في التربية الجيدة كما في هذا الحديث يتبين أهمية ضرب المثل الجيد لزيادة الفهم وتعميق المعنى المراد وتصوير المعقول بصورة المحسوس. أدب الصحابة في مجالسهم خاصة مجالس العلم والتعليم، وتقديم الأفضل والأسَنّ في أمور عدة ومنها الكلام والتربية النبوية المثلى تقول (كبِّرْ كبِّرْ). 4 - قال ابن فرحون في كتابه درة الغواص في محاضرة الخواص، قال العلماء: في هذا الحديث دليل على أنه ينبغي للعالم أن يميز أصحابه بألغاز المسائل العويصات عليهم ليختبر أذهانهم في كشف المعضلات وإيضاح المشكلات وهذا النوع المميز في التعليم سمته الفقهاء بالألغاز، وأهل الفرائض سموه بالمعاياة، والنحاةُ يسمونه الأحاجي، وهذا التنوع في التعليم داخل الصف هو الذي يعطي للحصة تلك السعة والشمول والتنوع في الأداء والعطاء بدلاً من الانغلاق والرتابة المملة، وهذا التنوع في جميع مجالات الحياة بما في ذلك التعليم هو الذي تتميز به حياة الإنسان عن غيره من المخلوقات وهي التي جعلته بعد الله ينشئ الحضارات ويقدم لنفسه وغيره الكثير والوفير من الإنجازات ولذا كان التعليم الجيد يوجه الفرد وبقوة لكي تعمل يده في المادة فيثري الحياة بمواهبه ومعطياته، ونفسُهُ تعمل بالقيم وللقيم وروحه تعمل من أجل عقيدته، وإذا كانت التربية الصحيحة وطرقها الربيحة هي الحياة نفسها كما يصفها فرسانها المدققون، فإنها تصل بالدارس إلى تعميق الحياة الصحيحة في نفسه وإثرائها بعديد من المشاعر الحيّة وعديد من المذاقات الشهية، فهل يا تُرى يعي البعض من المدرسين أهمية التربية الصحيحة والأخذ بالأساليب والطرق الجيدة في التربية والتعليم كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وسلف هذه الأمة الذين أعطوا للدنيا دروساً نموذجيةً في التربية والتعليم وإعداد الأجيال للآخرة، والأولى الإعداد الذي يناسب خيرْ أمة أخرجت للناس بعيداً عن السلبية والنمطية والعطاء المتثاقل والمتراخي، الذي جعل البعض من الطلبة يكره أحياناً المدرسة ومن فيها، فهل إلى تربية إسلامية رشيدة من سبيل، أرجو ذلك.