ذات مساء دخلت مقصفاً فطلبت وجبة خفيفة خارجية وبينما أنا أنتظر إذ وقعت عيني على لوحة معروضة داخل المحل فيها ما يقدمه هذا المقصف وقد ذيل بأسفلها هذا البيت: ازرع جميلاً ولو بغير موضعه ما ضاع جميل أينما زرعا فأول من امتثل هذا البيت صاحب المحل فوضعه لهذه الحكمة البليغة أمام زبائنه قد زرع جميلاً فأهداهم كلاماً جميلاً وعبارات بديعة. تأمل معي كلمة (جميلاً) فهي تعني الجميل بكل معانيه وبكافة أشكاله. وإذا كان المعروف حقيراً فالحرمان عدم، ولا يصدر الجميل إلا من كريم الخصال وطيب الفعال. والخير يفعله الكريم بطبعه وإذا اللئيم سخا فذاك تكلف وقال الحكيم: فاعل الخير خير منه، وفاعل الشر شر منه. وإذا أساء إليك أحد، وتطاول عليك بقول أو فعل فلا جواب أفضل من الإحسان إليه (ادفع بالتي هي أحسن). فالمثال يقول: عاتب أخاك بالإحسان إليه، ورد شره بالانعام عليه. قال علي بن أبي طالب: الإحسان يقطع اللسان. وإذا عجزت عن البذل والإحسان فلا تعجز عن الدلالة على الخير. دلوا على الخير إن لم تفعلوا فقد جاء الدليل على خير كمن فعلا وقال عليه السلام (الدال على الخير له مثل أجر فاعله) رواه مسلم وبالبر يستعبد الحر وبالإحسان تملك قلب الإنسان. أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان وإذا كان بالامكان بذل الجميل فربما يوم تطلبه فتعجز وتريده فلا تصل اليه وان وصلت منعت وحينها تندم. أحسن اذا كان امكان ومقدرة فلن يدوم على الإحسان امكان والأيام دول والليالي سريعة التقلب والتبدل، فربما اصبحت ذا حاجة فأحسن يحسن اليك وانفق ينفق عليك. ولا تمنعن ذا حاجة جاء راغباً فإنك لا تدري متى أنت راغب وإدخال السعادة على نفس الآخرين في الوقت ذاته سعادة صاحب الجميل والكرم. يقول الدكتور واليش بعد دراسة مدتها خمس سنوات (لاحظنا من خلال الدراسة أن الاشخاص الذين يتصفون بالانانية ليسوا سعداء بعكس الذين يتصفون بالكرم ومشاركة الناس حيث كانوا أكثر سعادة ورضا في الحياة). كان رجل يغدو ويروح في حوائج الناس فقيل له: قد أتعبت بدنك فلو اقتصدت بعض الاقتصاد فقال: سمعت تغريد الأطبار، وغناء الجواري الحسان، فما طربت بشيء منها طربي لنغمة شاكر أوليته معروفاً أو سعيت له في حاجة. فلا احسبك عاجزاً ولن تعجز عن أسدي معروف لإنسان أي إنسان فالابتسامة الجميلة والكلمة الرقيقة، والهدية اللطيفة، والزيارة الخفيفة، والنصيحة الرفيقة، والتهنئة الصادقة. وللجميل أبعاد أخرى فالتمس المعاذير، وكف الأذى، واحتمل الأذى، فهذه وغيرها أفعال طيبة جميلة لا تصدر إلا من جميل. ازرع جميلا ولو بغير موضعه ما ضاع جميل أينما زرعا