ما أجمل كلمة الإحسان ، تحمل في مضمونها دلالات لا حصر لها ، تتميَّز عن غيرها بكل معاني السُّمو وعلو القدر ، ورفعة المنزلة ، وتندرج في داخلها أجمل القيم وأعظم الشِّيم ، وقد أحسن أبو الفتح البستي حين قال : أَحْسِنْ إلى النَّاسِ تَسْتَعْبِد قُلُوبَهُمُ فَطَالَما استعبَد الإنسانَ إحسانُ لأنَّ النُّفوس مجبولةٌ على حبِّ المكارم، وحبِّ من أحسن إليها أو قدَّم إليها صنيعاً حسناً أو معروفاً، فالكريم يأسره الجميل، ويطوِّقه المعروف، وتأخذ لبَّه الكلمة الحسنة الآسرة، وتخالج وجدانه المشاعر الصَّادقة، التي لا زيف فيها ولا تصنُّع. إنَّ الدِّين هو المعاملة، وكم من معاملة سهلة ليِّنة رحيمة لها أكبر الأثر في النُّفوس ، وكم من قسوة وغلظة تُوجد نفوراً وتصدعاً في علاقة الأفراد، وتُحدِث شرخاً كبيراً بين أفراد المجتمع الواحد. الصَّنيع الحسن والتَّلطُّف في القول يغني عن مئات العبارات، ويجاوز في دلالته مفردات المعاجم اللغويَّة وبلاغة الخطب العصماء، ومن يتأمَّل في أخلاق المصطفى الكريم – صلَّى الله عليه وسلم – يجدها تنطق عنه، وتفصح عن شمائله وفضائله ومحاسنه ، فقد عُرف ب"الأمين" قبل الإسلام، ثم أتاه الوحي من خالقه – عزَّ وجلَّ – فأصبح خُلقه القرآن، رحمة ورأفة بأمَّته ، وحرصاً على أن يتمِّمَ لهم مكارم الأخلاق. كذلك السَّلف الصَّالح كانت أفعالهم تدلُّ عليهم، وتفصح عن كريم سجاياهم، وطيب خصالهم، فليسوا بحاجة إلى الأقوال الرَّنَّانة ولا إلى الخطب العصماء. إذ يُروى عن الخليفة عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – أنَّه لمَّا ولِّي الخلافة وقام في النَّاس خطيباً قال بكل إيجاز: " أيُّها النَّاس أنتم بحاجة إلى خليفة فعَّال أكثر من حاجتكم إلى خليفة قوَّال " فكان رحمه الله أنموذجاً في أخلاقه وزهده وورعه وعدله وإنصافه بين رعيَّته. وفي تاريخنا المشرق صور عدَّة تبيِّن كيف فتح المسلمون البلدان بعدالة الإسلام، وامتلكوا القلوب بحسن الأخلاق وطيب السَّجايا، لأنهم عاشوا بهمَّة عالية، وحملوا أهدافاً سامية رفيعة: وإِذَا كَانَتِ النُّفوس كباراً تَعِبَتْ مِنْ مُرَادِها الأَجْسَامُ هناك من يزرع الإحسان فيمن حوله فيحصد ثماراً يانعة، ويرتوي من مائه عذباً زلالاً، ويجد نفعه قد امتدَّ إلى سعادة الرُّوح، وراحة البال، وبركة الأبناء، وحبِّ النَّاس، وقد دعا الشَّاعر الأول إلى ذلك وحبَّب إليه النُّفوس: أَحْسِنْ إذا كَانَ إمْكَانٌ ومَقْدِرةٌ فلن يدُوم على الإحسانِ إمكانُ وما أحرانا بأن نقول للناس: "حُسْنَا " مَنْ أحسنوا إلينا، ومن ضلُّوا طريق الإحسان إلى الإساءة، فليس من درجات السُّمو أن يصير الإنسان أسيراً لرغبات النَّفس العدوانيَّة ونزعاتها، فيفتقد أدنى درجات الإنسانيَّة ويعيش في غياهب الانحدار. والله الموفق.