ومهمة (الأدب الإسلامي) ليست وقفاً على الفائدة الخالصة، وإنما هي خليط من الفائدة والمتعة، بل أكاد أجزم بأن الهدف الأسمى يقف حيث إشاعة الكلمة الطيبة، وتمكينها من النقاد عبر الكلمة الشاعرة أو النص الأدبي، وحين يحمل المبدع والناقد هذا الهم، يكون التهذيب السلوكي والتربية الذوقية عفويين يعبقُ بهما النص دون تعمُّل، وما من مبدعٍ متضلع من تراث حضارته، إلا ويكون إبداعه متعالقا مع مخرجات ذلك التراث، ذلك أنه تراث يعيش الخلطة مع النص المقدس والحكمة الموحاة، وهو نتاج ثقافة إسلامية مهيمنة، لا يحيد عنها إلا هالك، وأثرها بادٍ حتى على العرب من غير المسلمين. وما تفرق أدباء الأمة إلا من بعد ماجاءتهم حضارة الغرب، وهم فارغون من كنوز حضارتهم، إذ ما من محمدة في سائر مجالات الحياة إلا وهي ضالة المسلم، وكيف يفتقر الإسلام إلى قيم الغير؟ والله قد أكمله وأتم نعتمه ورضي الإسلام دينا. وعلماء التربية والنفس والاجتماع الفارغون من معارفهم، يجوسون خلال معارف الغرب، ويأخذون بأسوئها، وما في كتاب الله وسنة نبيه خير مما يجمعون، ومع ذلك فليس هناك ما يمنع من الاستفادة المشروعة من كل طارئ أياً كان مصدره. إن مهمة المبدع أن يجعل من بيانه سحراً حلالاً، لا يقود إلى بنيات الطريق ومتاهاته، وإنما يسلك بالمتلقي الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، وليس في ذلك ما يضير، فالقرآن الكريم الزاخر بالقيم الأخلاقية السلوكية والدعوية، جاء في ذروة البلاغة والفصاحة والبيان، وكان إعجازه البياني مسرح الأدباء، ومجال البلاغين، محتفظاً بمكانته التي لا تنازع، ومن تصور أن شرف المعنى محسوبٌ على شرف اللفظ، فقد تقوَّل على الأدب الأخلاقي كل الأقاويل. وحين يؤكد الناقد الإسلامي على أهمية الاضطلاع بمهمة تربية السلوك، واستثمار آي الذكر الحكيم وصحيح السنة النبوية وسير السلف الصالح، فإنه لا يغمط الشعرية ولا الأدبية شيئاً من حقهما، ومناشدة التهذيب والدعوة إلى مكارم الأخلاق، لا يستجيب لها إلا الذين أشربوا في قلوبهم حبَّ القيم الأخلاقية السامية. ومهمة تهذيب السلوك مهمة كل مقتدر، وهي لذلك بعض مهمات الأدب الإسلامي، ولكل فن مسؤولية خاصة، ومسؤوليات مشتركة، والنهوض بالمهمة المشتركة لا يَفْترض التجانس بين التخصصات، بحيث يكون الأديب على ألق الشعر وسديد القول. ونكد الشعر يروضه الصدق ولا يغني عن صدقه كذبه، كما يقول (البحتري). إن باستطاعة القاص والروائي والشاعر أن يتوفروا على سائر القيم السلوكية، دون الإخلال بالشعرية والأدبية، ودون الخروج بالأدب عن خصوصيته الإبداعية وسمته الجمالية. ومن قعدت به إمكانياته الفنية والجمالية، لم تسبق به دلالته الدينية، وليس أضر على (الأدب الإسلامي) من ذلك المفهوم. لقد شاعت بين الطوائف والأحزاب والفئات أخلاقيات المداهنة وإعطاء الدنية، فكان أن هبطت الفنيات، وفقدت الضوابط، وأصبح كل مفرط محمي بمظلة الموالاة. ومن الخير للأدب الإسلامي ألا يقبل شرف المعنى دون أدبية النص أو شعريته. والمجاملة على حساب الثوابت إضاعة للقيم الباقية. والخائفون على خصوصية الأدب - وهو تخوف في محله - يجب أن يعرفوا أن المصطلح يسبق في تركيبه إلى الأدبية، فالفقيه والواعظ والنظَّام لا يكون أحدٌ منهم أديباً، ولا تصدُق على ما ينحتونه من القول سمةُ الأدب، وإن كانوا جميعاً يحملون هم تربية السلوك. والأديب المسلم يدرك مسؤولية الكلمة ومهمة المبدع ورسالة المفكر، وطريق النفاذ إلى المتلقي عبر المحفزات الجمالية، فهو لا يطلق لقلمه ولا للسانه العنان، بحيث يقول الكلمة، ولا يلقي لها بالاً، وفي الحديث الصحيح (إن الرجل ليقول الكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به سبعين خريفاً في النار) وحديث (وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم). وهو إذ يعي خطورة الكلمة، فإنما ذلك امتدادٌ لاحترام الإنسان. وهو حين يحرص على شرف المعنى يعرف جيداً القيمة الجمالية للكلمة وأثرها في إمتاع المتلقي واستمالته وإقناعه، وقدوته في ذلك (القرآن الكريم) الذي اعتمد في تأثيره وإعجازه على الجلال والجمال، فالجلال جمال معنوي كامن في النص، والجمال مدرك حسي، يتمثل في روعة النظم وجمال الصياغة والانزياح اللغوي والمجاز والإيجاز والاستعارة والتشبيه وسائر المحسنات اللفظية والدلالية. وليس هناك ما يمنع من توفر الجمال والجلال في النص.. ومع ما يكتسبه المتلقي في عوائد يحملها جمال النص وجلاله فإن الكلمة الطيبة الرقيقة الجميلة تسهم في ترقيق الطباع ولينها، كما المناظر الجميلة، فكلما خشنت المناظر خشنت الطباع، وحياة الصحراء والجبال ولوافح الرياح تخشن معها الطباع، وقد تصل بتأثيرها إلى حد الفظاظة والغلظة، وكلما رقت المناظر رقت الطباع، ولقد أدرك (يوسف) عليه السلام خشونة البادية وأثرها على الطباع، وحمد الله على خروجه من السجن ومجيء أهله من البدو، وكذلك بحث الفقهاء الموقف من (التبدي). وعلماء الاجتماع يرون أن هناك علاقةً بين طباع البشر وطبيعة الجغرافيا التي يعيشون فيها، وحتى التعامل مع المخلوقات له انعكاساته، وفي الأثر (ما من نبي إلا رعى الغنم)، ذلك أن طبيعة الغنم الهدوء والنظر إلى مواطن الأقدام، بينما رعاة الإبل الغالب عليهم الخشونة والغلظة، وإذا ألف الإنسان سماع الكلمات الرقيقة الجميلة الطيبة تركت في نفسه أثراً حسناً، ولهذا ندب الإسلام إلى القول السديد قال تعالى: {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} وقال: { وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ}وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وقال: { لاَ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ}، وفي الأثر: ليس المسلم بالطعان ولا باللعان ولا بالمتفحش. فالكلمة الطيبة تسهم في تهذيب الأخلاق، وإن لم يتعمد المبدع ذلك، وتربية السلوك تأتي باستشعار المبدع، وتأتي كامنة في النص كما العبق. و(الأدب الإسلامي) الذي يأخذ على عاتقه مهمات تربوية لا ينسى أبداً دوره الأصيل بوصفه أدباً، يعتمد الجمال والإمتاع، فإذا كان المعلمون والخطباء والوعاظ يحملون هم التربية السلوكية، ويجعلون ذلك كل همهم فإن الأديب الإسلامي يعرف أنه مشاطر بهذه المهمة، ينهض بها عفوياً وقصداً، ولهذا استوفى الدكتور (شوقي ضيف) الجانب الأدبي في شعر الزهد والوعظ وعده ظاهرة أدبية في عصور الازدهار، مع أن طائفة منه مأخوذة بالنظم والمباشرة.. ولما كان إنتاج (الأدب الإسلامي) محسوباً على الأدب فقد يضع كلَّ الاعتبار لتقييد نفسه في محيط الأدب لا يبارحه، بحيث لا يكون الأديب واعظاً أو فقيهاً، والذين يبررون تخليهم عن الانضباط الأخلاقي بحجة أن مهمتهم ليست وعظية ولا تربوية، يرتكبون خطيئة التفريط في شرف المعنى المعادل لشرف اللفظ، ويصادرون شطراً مهماً من وظائف الأدب، وهي التأديب، وفي الأثر غير الصحيح (أدبني ربي فأحسن تأديبي) فكلمة (أدب) قبل أن تكون مصطلحاً إبداعياً، هي ممارسة تقويمية، وتهذيب السلوك كامن في المصطلح ذاته. لقد تجاوز الأدب الظاهرة (الرومانسية)، وبقدر إغراقه السالف في الأحلام والأوهام أغرق في (الأدلجة) والتسييس، والأدباء والنقاد مسرفون في الحالين ف(المتأدلجون) و(الرومانسيون) لم يتوفرا على مطلب الوسطية التي ينشدها (الأدب الإسلامي). ولأنه كأي أدب عالمي يحافظ على أدبية السرد وشعرية النظم، وما يتطلبان من جماليات ممتعة ومستميلة ومقنعة، فإن الخلوص للتهذيب السلوكي قد يأتي على حساب الجماليات الإبداعية، وتلافياً لذلك لا يكون (النص الهادف) منقطعاً لمهمات العلوم الإسلامية، وإنما يحمل منها ما لا يؤثر على خصوصيته بوصفه أدباً بالدرجة الأولى، كما أنه لا يطالب المبدع أن ينقطع لأي مؤثر على فنياته، ولكنه يؤكد على سلامة النص من أي إخلال بالقيم الأخلاقية. وإذا اضطر المبدع أن ينطلق من قعر الواقعية فإن (الأدب الإسلامي) يود منه ألا يمارس الوصف والتسجيل المباشرين، فيقع في الحديث عن القاذورات الواجب سترها، ولا يترفع عن سفاسف الأمور، وينصاع إلى أدب الاعتراف المخل بالقيم. وكل من جنح إلى النص الواقعي فعليه أن يكون قدوته في ذلك ما قصه القرآن الكريم عن (يوسف) عليه السلام مع امرأة العزيز، لقد عرض لآثار لخلوة وفتنة النساء، وجاءت النهاية محققة انتصار الفضيلة، وكل أدب يحكم الصراع بين الفضيلة والرذيلة، ثم يجعل الانتصار للحق يعد أدباً إسلامياً، ولو ضربنا الأمثال بروائيين عرفوا بالواقعية السلوكية ك(نجيب محفوظ) وآخرين حاولوا حفظ التوازن ك(نجيب الكيلاني) لأدركنا كم هو الفرق بين مشيع للفاحشة ومحذر منها، وكلاهما اتخذ شخصياته وأحداثه من الواقع الاجتماعي، وتشابهت عندهم الأحداث ولم تتشابه المصائر والمآلات، مع أننا نتحفظ على بعض إبداعات (الكيلاني). وكل أداء تقبله الأذواق السليمة، ولا ينعكس أثره السيئ على الأخلاق، ولا يثير الغرائز الحيوانية، يعد من الأدب المقبول، وإن لم يكن في خدمة الإسلام المباشرة والمنقطعة. وفي الذكر الحكيم {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ذلك أن الإسلام يقدر النوازع البشرية، ومن ثم فإن مهمة المسلم عمارة الكون وعبادة الخالق وهداية البشرية والتمتع بالطيبات الحسية والمعنوية، لهذا يفسح المجال للمتعة واللهو البريء، وفي الحديث الصحيح: (إن الأنصار يعجبهم اللهو)، وحين نضع مثل هذه التحفظات وتلك الاستدراكات فإنا نود الحيلولة دون رغبات جامحة تريد من الكلمة الإبداعية أن تكون وعظية لا تبرح الوعظ إلى غيره أو لا توفر أدبية النص عند الإلمام بالوعظ. وكم هو الفرق بين الأدب الإسلامي والأدب الديني وأدب الزهد والرقائق والتصوف، إنه أدب لا يدعو إلى طائفية ولا إلى رهبانية، إنه أدب فكر وهم وإحساس إسلامي، يلتمس فيه القارئ نصاعة الإسلام ونقاءه وسمو أهدافه ونبل غاياته. إنه أدب عالمي يتسع لكل من يشهد ألا إله إلا الله، ويعتمد لغة الأمة وأخلاقياتها السامية، ويرفض العهر والكفر والتنازع وإثارة الضغائن، وكيف يحتويه شيء من ذلك، وهو يتخذ من خُلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدوة ونبراساً، وكان خُلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرآن، وأسلوبه اللين، ولقد أشاد القرآن بصفاته { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} إن (الأدب الإسلامي) وهو يحمل هم الإسلام الدعوي، يحتفظ بكل مقومات الأدب، فلا يساوم على شيء منها، ولا يقبل من الضعفاء أن يكونوا شواهد في سوح الأدب، إنه الأدب الرفيع فناً ودلالة، كل الذين يتوسلون إليه بالمعاني الجليلة لا يقبلهم، إلا إذا توفروا على جمال النص وشرطه الإبداعي. وحين يستبطن المبدع الإسلامي هم التربية السلوكية، والذوقية، يهيئ لها مجالاتها، فالقصة والرواية والسيرة الذاتية وأدب الرحلة وسائر السرديات والأنشودة والقصيدة والمسرحية (الشعرية والسردية)، كلها مجالات صالحة للتهذيب، وحين لا يحمل المبدع ذلك الهم فلا أقل من أن يتحامى الإساءة إلى المتلقي. لقد حث الإسلام على القول السديد، فإن لم يكن، فلا أقل من الصمت، وحث على تجنب القاذورات، فإن لم يكن بد من ذلك، فلا أقل من الستر، وتجنب المجاهرة بالمعاصي، وفي الحديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) و(إذا بليتم بهذه القاذورات فاستتروا فإن من بدت لنا صفحته أقمنا عليه الحد) وفي الذكر الحكيم: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، إن الكلمة مسؤولية، والمسلم مرتبط بها ومحيل إليها.