آلمني ما صدر من إحصائية من وزارة التخطيط قبل ثلاث سنوات تفيد أنّ هناك مليوناً ونصف المليون من بناتنا تجاوزن سن الزواج، وتألمت لحرمانهن من نعمة الأُمومة، إذ يحكى لي أنّ الفتاة لا يعتصر فؤادها إلاّ أمام منظر أُمٍّ تقود طفلها، وتقبِّله حيناً وتحضنه حيناً آخر، وهذه نعمة أدرك مرارة فقدها سيدنا زكريا عليه السلام في قوله حينما طلب الولد {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}، ولن تنال الأنثى شرف أن تكون الجنة تحت قدميها إلاّ إذا كانت أُمّاً، وهي وحدها تدرك قيمة معنى الأُمومة وما يترتب عليها من لذة في كلِّ ذلك التعب والنَّصب والجهد، ابتداء من الحمل ومروراً بالولادة والمخاض، وانتهاءً بالحرص على ولدها من كلِّ شيء، فوصى بها الرسول ثلاثاً مقابل ذلك، ووصى بالأب مرة واحدة، فقال لمن سأله من أحقّ الناس بصحبتي يا رسول الله، فقال: (أُمك، قال: ثم من؟ قال: أُمك، قال: ثم من؟ قال: أُمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، ومما يدلُّ على ذلك أيضاً جواب هند ابنة الخس حينما سألها أبوها بضعة أسئلة، وكانت مشهورة برجحان عقلها وزيادة ذكائها، قال: فأيُّ النساء خير؟ قالت: التي في بطنها غلام، تقود غلاماً، وتحمل على وركها غلاماً، ويمشي وراءها غلام. وهذا ما أدركت سرّه العرب من أمثال عبد المطلب حينما نذر أن يذبح واحداً من أبنائه إن رزقه الله عشرة من الأولاد بعد أن قال له عدي بن نوفل أنت فذٌّ لا ولد لك. إنّ الألم كلّ الألم فيما تعانيه العانس الصابرة المحتسبة حماية لنفسها من السقوط استجابة لنداء الإسلام ورعاية للعادات والتقاليد، واستحضاراً لشرف الأهل والأُسرة، واللوم كلُّ اللوم عليها حين لا ترغب في العفاف بإرادتها، أو الولي الذي لا يرغب نكاحها ممن هو كفء، ويصغر عقل تلك العانس التي بلغت سناً متقدمة ولم تتنازل عن عرشها وتنزل عن برجها العاجي، حين لا ترضى أن تنال شرف الأُمومة بحجج واهية وشروط قاسية، وتفضِّل البقاء عالة على أهلها، مثيرة للشفقة من أفراد المجتمع، متحمِّلة سهام الازدراء من قِبل المغرضات ممن لا يفهم معنى القضاء والقدر، ولا يدرك معنى القسمة والنصيب، وأعني بذلك مَن لا تقبَل التعدُّد وتضع العراقيل أمام أخواتها العوانس ببث أفكار تحارب هذا الحل الشرعي، فاختارت الحرمان من نعمة الولد بإرادتها وشروطها المتعسِّفة والمستحيلة، حتى تركها الزمان بلا عائل ولا نصير، متجاهلة زيادة هذه النسبة في العنوسة، ونحن في مجتمع إسلامي متكافل، لم يترك المصطفى صلى الله عليه وسلم له شاردة ولا واردة إلاّ وضع لها حلاً وعلاجاً، ولم يغادرنا بأبي هو وأُمي حتى علَّمنا كيف نتعامل مع قضايانا السهلة فضلاً عن المستعصية، ولا عجب في ذلك لأنّه وصف لنا الطريق الصحيح لكثير من جوانب حياتنا المختلفة، وهي أسهل من هذه الكارثة مثل وصفه الطريقة التي يقضي المسلم بها حاجته، وأكله، ونومه، وحلّه وترحاله، صدقاً تأمَّلت العدد المخيف فوجدت الأسباب يشترك فيها الجميع، ابتداءً من الأُسرة التي تشترط شروطاً يصعب توافرها في المتقدمين، ولا تتنازل فيما لا يتعارض مع ثابت أو مبدأ رحمة بالبنت التي تأمل منذ أن تفتَّحت عيناها على الدنيا أن تلج ذلك البيت المبني على أساس المودة والرحمة والسكن، فكم سافر بها الخيال وكم جنحت بها الرغبة والشوق للزوج والأطفال والأُسرة، تسافر في كنفهم وتعود في موكبهم، تضحِّي من أجلهم وتتنازل عن حياتها لحياتهم، وكلُّنا يعرف أنّ الطفلة تشترط على أبويها أن تكون هديتها في أي مناسبة عروسة صغيرة، ترعاها كما ترعى الأُم وليدها، استجابة لنداء الفطرة التي حرمناها منها، وتلك والله اللذة التي تجد فيها النساء حلاوة المسؤولية والرعاية والتربية، محقِّقة الالتزام الإيجابي في منح زوجها الاحترام والتقدير، والالتزام السلبي في منع نفسها من اقتراف كلِّ المؤثِّرات التي تعصف بأركان بيتها، وهذا الجانب النفسي يغفل عنه كثير، وهو السبب الأول في ضبط المسار الصحيح للحياة، فكلُّ فتاة تحلم بزوج يملأ عليها وحدتها، ويهوِّن عليها غربتها، ويعطف عليها في مرضها، ويرعاها في صحتها، وتكمل هذه العلاقة المقدَّسة بعد ذلك بالأطفال، فيسهران عليهم إذا مرضوا، ويفرحان بهم إذا نجحوا، ويرسمان لهم مستقبلهم يوماً يوماً، ويبنيان أحلامهم حلماً حلماً، وحينها يشعر الإنسان بآدميته وأهميته واستمراره في أسباب الحياة، والحفاظ على النوع الإنساني {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}، ولن يكون إدراك هذه المعاني للعلاقات الزوجية السامية في الإسلام، إذا غابت الأُسرة عن التأثير في أفرادها من خلال صياغتهم وتربيتهم على مبادئ الدين العظيمة، التي تدعوهم لتحمُّل المسؤولية والفهم الصحيح لمعنى الارتباط الأُسري، وزاد من أهميتها طمس الآثار التي غرستها بعض وسائل الإعلام والثقافة، من أغاليط تتعلق ببناء الأُسرة إذ صوَّرت العامل الرئيس في علاج العنوسة، وهو التعدُّد، جريمة وهو بلا ريب يحتاج إلى استراتيجية، تحقق على الواقع ما جعله الله بين الزوجين من الميثاق الغليظ، فبثّت مسلسلات ومقالات لمدة عقود تُظهر الجانب السلبي، وركّزت على الأخطاء التي لا تتخذ مقياساً تضبط عليه الحياة، مع أنّني لا أنكر وجود من أساء في وهم الرغبة وتجاهل ما يجب عليه من حقوق، وما على الآخر من واجبات، فساعد في غرس هذا التصوُّر المخيف من التعدُّد في صورة تخالف ما أمر به الإسلام من العدل والمساواة في كلِّ شيء، واحترام الذات في ذلك الجسد، وما يتعلق بها من علاقات اجتماعية أخرى كالأهل والأصدقاء والأقارب .. إنّ الجهل بحقيقة الزواج والارتباط وشرعيته وأحكامه وأصوله، حينما يمارس المتعدِّد الظلم تجاه الأنثى، ينافي ما أمرنا الله به من الالتزام (قل يا عبادي إنِّي حرَّمت الظُّلم على نفسي، وجعلته بينكم محرّماَ، فلا تظالموا)، وذلك دأب قليل الشرف والمروءة والأمانة والكرامة، وحال قليل الحظ من الدين والمعرفة بالحلال والحرام، فأصل الزواج الإباحة، وأساسه الحكمة والنُّضج والتوازن والاستطاعة، وهو حق مشروع لكلِّ إنسان قادر عليه، حتى أنّ ابن حزم في كتابه المحلى يراه فريضة على القادر ويمنع ضبط النسل مطلقاً، وربما كان ذلك لظروف المسلمين في الأندلس إذ يريد أن يكثر عدد العرب، ولا يمكن تجاهل أسباب زيادة تلك المعدَّلات في مجتمعنا من مثل التكاليف المرتفعة للزواج، من مهور تثقل كاهل الشاب ومناسبات لا تتم إلاّ بديْن يشغل الزوجين عن الاستمتاع بأيامهما، وشروط ليست أساسية في ظل ازدياد معدَّلات البطالة والحاجة، وربما كانت هذه الشروط حجر عثرة تصرف الراغب، وتبعد الخاطب، ولا يعني هذا أن نحرم الأنثى من حقوقها، بل على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، إذ الأهم بناء أُسرة سعيدة تحفُّها السكينة والرحمة، ولا أدري لماذا يجهل الناس أنّ ساعة مودة بين كائنين يتضاءل أمامها الزمان وتختصر من دهشتها المكان، في ظل بيت صغير تعدل ما في الأرض من مغريات مادية، وأنّ وجود الأنثى في بيت تخفق الرياح فيه، تكتال في كنف زوجها الريح، ترعى طفلها، وتنتظر زوجها عند الباب، يعدل شهوات الدنيا من الأرصدة المتورمة والقصور وتذاكر العبور والحفلات والفرق الموسيقية باهظة الفواتير، ومحطات الاستجمام والسكن في الفنادق التي استعارت النجوم من فضاءاتها لتعلِّقها على أبوابها، ولذلك يجب على الفتيات الصبر والاحتساب، والانشغال بالطاعة، والبعد عن مَوَاطن الريبة والعبث والتسلية، حتى يأتي من يستحق كلَّ الحب والاحترام، احتراماً لبيتها القادم، وتقديراً للرجل المنتظر، ولا يفرِّطن في مشاعرهن مع ذئاب لا ترعى ذمَّة، ولا ترقب حياءً، فكثير من الشباب يتحرّى في الاختيار بعد أن زادت النسبة، وأصبح العرض أكثر من الطلب، إذ لا يخلو بيت من بنت أو أكثر، فيبحث عمن تتوافر فيها مقوّمات النجاح الأُسري حتى وإن كان غير صالح، لأنّ العادات السيئة، والمسالك الرخيصة، يصعب التخلُّص منها بسهولة، بعدما نكتت في القلب نقاطاً سوداء، وستكون نذير شؤم، ومعول هدم يهدد كيان الزوجية، ويسقط أُسس الأُسرة المنتظَرة، ومن ابتليت بشيء من هذا تبادر إلى التوبة والاستغفار، حتى تؤهِّل نفسها للاستقرار العاطفي، ببيت يتعادل فيه عقل رجل هو رحمة مع قلب فتاة هي سكنى، وبهما يتحقق الصَّلاح والعفاف لبناء حياة مشتركة، فكم من بنت جميلة تحاشاها الرجال لخلل في سلوكها، وكم من بنت دميمة كثر خطّابها لحسن أخلاقها حتى أصبحت معروفة بهذا عند الجميع. إنّها دعوة صادقة للنظر الصحيح والتحكُّم بالمشاعر في ظلِّ انتشار وسائل الفضيحة على يد هذه التكنولوجيا، التي حوَّلت القضايا الخاصة والذنوب الخافية، إلى قضايا للرأي العام، يتناقلها الناس في مجالسهم ومنتدياتهم، وما أقسى أن يكون الأمر كذلك، مثلما هي دعوة للدولة أن تعطي هذا الجانب اهتماما بالغاً من خلال دعوة القطاع الخاص والشخصيات الوطنية والجمعيات الخيرية، للمشاركة في تقديم ما يمكن تقديمه من تنازلات، معنوية ومادية، للوقوف أمام زحف هذه الظاهرة، ومن خلال قيام وسائل الإعلام المختلفة بوظيفتها الأساسية في توعية الأُسر المتشنِّجة، وبيان ما يترتب على العنوسة من كوارث أخلاقية وصحِّية ونفسية، تهدِّد الفرد والمجتمع بالانهيار الإنساني، عن طريق المشايخ والمصلحين، ورجال الفكر والإعلام، والمدرسات والداعيات، والمجتمع بمؤسساته الحكومية والخاصة، ومنتدياته ومجالسه، في بث ما يمتص هذا الرفض من النفوس ويطرح العلاج الناجع، بمساعدة الشباب على تجاوز ما يختلج في صدورهم من خوف تجاه الزواج وتحمُّل تبعاته وتكاليفه، خروجاً بفئة عزيزة على أكبادنا من مأزق العنوسة والحرمان الإنساني المؤلم .. ولا يقتصر الأمر على هذا بل يتجاوزه إلى عقد مؤتمرات في المؤسسات الأكاديمية والتربوية، والوزارات المعنيَّة، وتشكيل دراسات شرعية واجتماعية واقتصادية، تستفيد منها الأجهزة الرسمية التي تهتم ببناء الإنسان أولاً .. والله من وراء القصد. الإمارات العربية المتحدة