ما أجمل الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره.... ولكن ما أشد وقع التصبر عند فقد الأحبة.... إن من أقسى اللحظات وأصعب الأوقات أن يوارى الثرى أمام ناظريك قامة تعني لك الكثير.. وشخص يعتبر بالنسبة لك مدرسة حياتية نهلت منها العديد من التجارب والعلوم.. ومشعل كان بالنسبة لك مصباحا تستدل به في الليل البهيم... وعوناً تستند إليه في التغلب على مصاعب الحياة ومشاقها كل ما سبق عشته لحظة بلحظة وعاصرته بالدقائق المثقلة بالألم والمشبعة بالحسرة في يوم وداع المرحوم عمي دهيم بن عويض الفريدي رحمه الله... فمركب الحياة يسير بنا ما بين مد وجزر يضحكنا حينا ويبكينا أحياناً... تسكن العواصف وتهدأ الأمواج فيحلو العيش ويجتمع الأحبة ثم ما تلبث أن تعاود العواصف هبوبها والأمواج اضطرابها فيتأرجح مركب الحياة ويخلخل أنس المستأنسين ويعكر صفو المتحابين... ونحن ما بين هذه وتلك ما بين مد وجزر نصارع همومها ونقاسي آلامها ونتجرع غصصها وأحياناً نهنأ بهدوئها وسكونها ولكن يبقى الرضا والتسليم في كل حال شعارا لابد للمسلم أن يتسلح به وأن يتلذذ بالصبر ويحتسب الأجر... استقبلته أمام باب الطوارئ في المستشفى وقد قرأت في جسده الذاوي عبارات تحرق الفؤاد وتقطع نياط القلب كان جسداً منهكاً يزينه عبارات الذكر والاستغفار التي كانت تخرج على لسان قد هده التعب وأنهكه المرض دلف المستشفى على كرسي متحرك وبعد أن دخلنا غرفة الانتظار سأل عن القبلة فاستقبلها وكبر للصلاة.... وبعد شهر من هذه التكبيرة وفي غرفة من غرف نفس المستشفى استقبل القبلة ولكن هذه المرة كبر ثلاث تكبيرات متتالية تلتها خروج روحه الطاهرة إلى بارئها فرحمه الله... وبين التكبيرتين وخلال هذه المدة كان قد قاسى من الألم والمرض ما نرجو من الله أن يكون تكفيراً لذنوبه ورفعة لدرجاته.. كان الأطباء في هذه الفترة يسرون لنا حجم الألم الذي يعتصره وعظم وطأة المرض عليه فنبادره بالسؤال فلا يتبرم أو يتشكى بل لا يزيد على قوله إنه بخير والحمدلله... زرته قبل وفاته رحمه الله بأقل من أربع وعشرين ساعة فوجدته مسجى على سريره قد هد المرض جميع قواه في مكان لفه صمت رهيب وهدوء لا يقطعه سوى ذلك التناغم المستمر ما بين تلكم الأجهزة الموصلة بجسمه وبين تكبيرة أو تسبيحة أو تهليلة بالكاد تميزها في نبرة صوته المثقل بألم المرض ووجعه... كان آخر كلمة سمعتها منه (أنا بخير والحمدلله) ولكني كنت أقرأ بأعينه كلاما آخر كلام مودع وعبارات راحل مسافر... قرأت ذلكم التقرير الموضوع أمام سريره فعرفت أن المنية تدنو منه وأن الفراق الذي كنت أتحاشاه حادث لا محالة... كان الأطباء قد حددوا بناء على حالته الصحية أنه في مرحلة حرجة حددوها بيومين إن تجاوزها فقد تجاوز الخطر ولكن كانت كل المعطيات تقول الوداع ولا غيره وكنت أتمنى خلال تلك الفترة أن تطول دقائق هذين اليومين ولسان حالي يقول: لا مرحبا بغد ولا أهلا به إن كان تفريق الأحبة في غد ولكن هناك شعور عاطفي صارخ في داخلي يطمئنني أن كل هذا لا يعدو كونه توقعات طبية وتخرصات علمية لن تصيب بإذن الله وبين كل هذه الأحاسيس وتلكم الخواطر ودعت عمي في أقل من هذه المدة.... إذ حدث حدثٌ جلل.. عصر اليوم التالي كان عصراً كئيباً لا أعلم سببه وشعورا غريبا لا أدري مصدره حتى ضج ذلكم العصر بالفجيعة.. وزف الخبر الأليم الذي كان فيه المُصاب أعظم من التعبير والواقعة تتفجّر في القلوب قبل الآذان خبر يباغت الأمكنة وحَدَث ينشر الصمتَ في الأرجاء... يا إلهي لقد مات عمي... لعمرك ما الرزية فقد مالٍ ولا شاة تموت ولا بعير ولكن الرزية فقد حر يموت لموته خلق كثير لم يكن الخبر في غيابك الأبدي عماه إلا فاجعة دوت في قلوب محبيك ومن يعرف إنسانيتك التي وسعت كل من يعرفك أو يحادثك أو حتى يقابلك فيجد فيك مدرسة بالرحمة والنقاء.. مدرسة بالبذل والعطاء.. مدرسة في العبادة والتقى.. مدرسة في التسامح والصفاء.. كان الخبر مذهلاً لكل القلوب التي كانت تنبض وفاء لك ولمواقفك الرائعة ولزهدك الفريد ولرحمتك التي قل ما تتكرر.. كان الخبر فاجعة لكل من عرف نبل أخلاقك وشهامة مروءتك وفيض كرمك وما تملكه من خصال فريدة وسجايا حميدة من أخلاق النبلاء وخصال العظماء وسمو روح العلماء وبياض الأنقياء.. العبرة تخنق الحناجر فلا تدع حتى للدموع مجالاً للتعبير وليتها كانت تستطيع دفع شيء ولكن.. وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع أأتحدث عنك كعابد ورع لم تعرف لك صبوة... أم أتحدث عنك كرجل ملك من خصال الكرم والشجاعة والمروءة ما يندر أن تجتمع في شخص واحد.. عماه أتذكرك فأعرف معنى الرجل الألف.. تمر في مخيلتي فأذكر قول الشاعر: قد مات قوم وما ماتت مكارمهم وعاش قوم وهم في الناس أموات لقد بدأت لك حياة أخرى بعد وفاتك تجسدت بتلكم المآثر الصالحة والأعمال الخيرية الباقية التي ستظل تذكرنا بك وتحثنا للتأسي بخصالك.. فلقد وعظتنا بحياتك ووعظتنا بعد مماتك فرحمك الله. إن ما يسلينا في مصابك ياعماه هو تلكم الجموع التي تدفقت للصلاة عليك... إن ما يسلينا عنك يا عماه هو زهدك في الدنيا الذي ولد معك ودفن معك... إن ما يسلينا فيك هو تلكم الجموع الأخرى التي توافدت للعزاء فيك وهي تذكر مناقبك وتعدد خصالك.. إن ما يعزينا في فراقك هي تلك البيوت التي لم نعلم أنك ترعاها وتصرف عليها إلا بعد أن افتقدتك فأتت تسأل عنك وصدمت بفراقك. لقد فقدت في وداعك يا عماه أبا شفيقا ومعلما مخلصاً وداعية رقيقاً كنت تعظنا بأفعالك وكنت توجهنا بالتزامك وكنت تدرسنا بصلاحك وتعلمنا بإخلاصك... كنت مدرسة متنقلة ننهل من تجربتك ونشرب من عذب صفاتك ونتعلم من سجاياك. لقد فقدت شيئا كبيرا بفقدك يا عماه، لقد تركت بصمات واضحة في مسيرة حياتك سوف يذكرها لك الجميع، وتركت ذكرى عزيزة لا يمكن أن تمحى بسهولة. يا عماه.. بموتك تركت شجنا كبيراً في نفوس الآخرين فعندما يموت شخص عادي ينسى مع مرور الأيام وتنمحي ذكراه مع توالي الأعوام ولكن عندما يموت شخص مثلك تمتلئ حياته بالعبر والعظات والعطاء، فستبقى ذكراه خالدة خلود الدهر وابد الزمان.. عماه لن أنسى ما حييت تلكم الدموع التي ذرفتها وأنت تأخذ مني دواء في آخر زيارة لك لمقر عملي وكأنك تعلم أنها الزيارة الأخيرة لي في هذا المكان.. عماه لن أنسى ما حييت تلك الدعوات الصادقة النابعة من قلب مشفق خاشع وعين دامعة التي كنت تمطرني بها ما بين فترة وأخرى... عماه لن أنسى ما حييت تلكم الفرحة التي قرأتها بعينيك المغرورقتين بدموع الفرح في يوم تخرجي من كلية الملك خالد العسكرية للحرس الوطني. عماه لن أنسى ما حييت تلكم الاتصالات التي تبادرني بها بين فترة وأخرى عندما اقصر في وصلك أو الاتصال عليك.. عماه ولن أنسى ما حييت غيرها من المواقف التي مازالت تمر تباعاً في مخيلتي عند مرور ذكرك أو الترحم على شخصك.. ذكرتك فاستعبرت والصدر كاظم على غصة منها الفؤاد يذوب لعمري لقد أوهيت قلبي عن العزاء وطأطأت راسي والفؤاد كئيب عماه... لقد طلقت الدنيا ثلاثاً وهي تضحك لك واستبدلتها بالعمل للدار الباقية والتي ارتحلت لها فلماذا نحزن عليك... عماه.. إن تلكم الورقة التي وجدت على سريرك وكانت بخط يدك قبل وفاتك والتي كتبت فيها: لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها فان بناها بخير طاب مسكنه وان بناها بشر خاب بانيها كانت استمراراً لمواعظك الصامتة التي نتلقى صداها بين وقت وآخر وتدل على مدى زهدك في الفانية ورغبتك في الباقية فلماذا نحزن عليك..عماه ... إن ترديدك (اللهم إني أحب لقاءك فاحب لقائي) في آخر أيامك لدليل آخر على مدى شوقك للقاء الله والدار الآخرة التي أسأل الله أن يحسن فيها ضيافتك فلماذا نحزن عليك...إن كان من شيء سيشاطرنا الحزن عليك فسيشاطرنا مصحفك الذي اعتاد تلاوتك واستمرار قراءتك... سيبكيك ذلك الليل البهيم الذي لم تستهلك ساعاته ودقائقه دون استثمارها تهجداً وقراءةً... ستبكيك سجادتك التي اعتدت زيارتها في أوقات هجوع الناس ضحى وليلاً... ستبكيك تلك المجالس التي لا يقر لك قرار إلا بتعطيرها بذكر الله والموعظة الحسنة.. ستبكيك روضة مسجدك التي اعتادت احتضانك عندما يصدح الآذان للصلاة.. سيبكيك معدم من الناس لا يلقونه بالا كنت تتعهده بالزيارة وتفقد أحواله بين حين وآخر. لقد كنت رحمك الله تتمنى الموت شهيداً في سبيل الله واسأل الله أن يكون قد حقق لك أمنيتك بموتك مبطوناً والمبطون شهيد بإذن الله ولئن افتقدناك صورة فستظل بيننا سيرة.. ولئن افتقدناك جسداً فستظل بيننا روحاً ومشعلاً يضيء لنا ظلمات الطريق ومعلما يصحح اتجاهات مسيرتنا، وستظل أنشودة على فم كل معوز ساعدته أو صالحاً لأداء العبادات عاونته أو عاصياً لطريق الحق رددته أو أرملة سديت بكل سرية رمقها أو محتاجين في غفلة الناس تلمست همومهم فرحمك الله رحمة واسعة وجمعنا وإياك في جنات عدن في مقعد صدق عند مليك مقتدر بإذنه تعالى. *مركز صحي الحرس الوطني بالقصيم