أحب أن أسطِّر للقارئ الكريم، بعض ما يدور به الفكر الإنساني، حول ما يُقال خلف الكواليس من قِبل شريحة من الناس، الذين ما زالوا ينهشون لحوم الناس دون حياء أو خجل، ولم يزل عن أعينهم عشاء العشا .. والتحدُّث عن الغيبة أمر يحتاج إلى بعض الجهد، لأنّ الأمر هنا ليس فتوى يمكن القول بها وينتهي كلُّ شيء، ولكن أقول إنّ باب الغيبة كبير جداً وذو أقسام عدّة، وما أنا هنا سوى مذكِّر بها بعد أن تبخر المذكرون، وهناك أنواع لها وطرقها عديدة .. ولا أحب في الحقيقة أن أسترسل كلّ ما يخطر على بال القارئ الكريم، ومن أراد التزوُّد فليبحر في أعماق كتب أهل العلم، ولكن برسالة بسيطة وشفافية تامة يمكن أن نعالج الوضع وما آلت إليه نفوس الناس، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} سورة الحجرات 6) .. إنّ الغيبة قد انتشرت هذه الأيام بين شرائح المجتمع، فقد أصبحت من الوجبات التي لا يستغنى عنها في مجلس ما، فتجدها في كلِّ مجلس .. في الأفراح والمناسبات، في الاستراحات في أوقات العمل، حتى المساجد التي بنيت لذكر الله وإقام الصلاة لم يسلم منها أحد. وأحب أن أسطر تعريفاً بسيطاً لها من واقع هدي النبوة .. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قيل يا رسول الله: ما الغيبة؟، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّة) (رواه الترمذي وصححه) .. نعم كثر الحديث في أوساط المجتمع في أعراض الناس، وكثر للأسف النيل والحقد الدنيء من قِبل من يحمل في نفسه حقداً وكراهية، أصبح الشغل الأول لهؤلاء ضعاف النفوس والشرمذة من الناس الحكي في الناس وتتبُّع عوراتهم والبحث عن أمورهم الشخصية من أجل تضييع الوقت بزعمهم الباطل، أو أنه طبع جبل على باطل، وما هي المصطلحات التي يتداولونها في مجالسهم العفنة وعلى ألسنتهم الملطخة بدماء الناس، حسب ما ذكره لي بعض الإخوة على سبيل المثال لا الحصر وهي: ماذا فعل فلان؟ .. وماذا اشترى فلان؟ .. وهل تزوج فلان؟ .. وهل طلقت فلانة، كم يملك فلان من المال؟ .. وكم راتب فلانة؟ .. فلان متزوج مدرسة؟ .. فلان بخير .. فلان فيه كذا وفلانة فيها كذا .. منهم من يصدق الخبر من أول وهلة من أمره ومنهم من ينتظر من يأتي بأكبر من ذلك، فشغلهم الأول والأخير فلان وفلانة .. وهكذا داوليك من الطعن وتهميش الناس بما لا يستحقون، حتى الأموات لم يسلموا منهم، اذكروا محاسن أمواتكم يا قوم سواليف عجائز. نعم هناك أناس نرجسيون لأنفسهم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (سورة الحجرات 12) .. قد أيقنت أنفسهم لتتبُّع عورات البيوت وأمورهم الخاصة والبحث عن الزلات ويستبشرون بذلك، ومنهم من يفرح ومنهم من يتربص ولم يسلم منهم أحد، حتى في الدوائر الحكومية لم يسلم منهم أحد .. على عتبة العمل تجدهم لهم حكاية القيل والقال في فلان وعلان، يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله، وكل من يشتري أو يبيع تجد له مكانة عند هؤلاء الصعاليك المنبوذين من المجتمع. يقول الله سبحانه وتعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا}سورة النساء 54) حتى أن منهم من يمثل صورة الالتزام ولكن عندما يضعف الوازع الديني ويلبس ثوب الصلاح والناس منه يتأذون من أقواله، هذا هو الالتزام الزجاجي، نسأل الله السلامة من ذلك. إن هؤلاء الذين يلبسون ثياب الرجال ويتصفون بصفات النساء وقد انتكست بهم الفطرة، نعم إنّهم يعيشون على لحوم الناس ويأكلون منها ليل نهار .. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ژ: (لما عُرِجَ بي مررتُ بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، قلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم). إن هؤلاء الشرمذة من الناس الذين لا يتركون أحداً في حاله بل إن هناك من يتتبع الناس بخبر يقين من المراسلات من قبل الجوال والتصوير الذي سهل لهم الوصول إلى كل ما يريدونه على طبق من ذهب، والجوال الذي أصبح نقمة بعد أن كان نعمة منّها الله على عباده، والرسائل التي تنهال بالبشرى على حسد أو غيرة، ويسابقون الزمن في النيل من الخبر في أوانه وكأنهم وصلوا إلى ما يريدون .. لماذا يفعل ذلك هؤلاء الشرمذة؟. حقيقة هو الفراغ الذي لا مفر منه والتقوقع القروي والفراغ المدني الذي يعيشونه، وهناك فترة ذهبية ينشط فيها هؤلاء، ألا وهي فترة ما بعد صلاة الجمعة (الفترة الذهبية) فسمها ما شئت. فعلى هؤلاء أن يتريثوا من الحقيقة قبل الوقوع في ما لا تحمد عقباه .. يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (من تعدّوا المفلس فيكم؟ قالوا: من لا درهم عنده ولا متاع، قال: المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات مثل الجبال، ثم يأتي وقد ظلم هذا وشتم هذا وضرب هذا وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن بقي من حسناته شيء وإلا أخذ من سيئاتهم فطُرح عليه، ثم طُرح في النار) .. هذا الحديث شاهد على من يتعدى على حقوق الناس وظلم الناس واتهام الناس .. إذاً ألم يأن لهؤلاء أن يرجعوا إلى صوابهم ويتركوا الناس في حالهم وشؤونهم الخاصة؟ .. الى متى تظل مجالسنا في تتُّبع عورات الناس؟ .. إلى متى ونحن نعيش على القيل والقال؟ .. إلى متى ونحن نحسد ونغبط فلاناً؟ .. أليس من الحكمة أن نجد أمراً آخر يمكن أن يشغلنا بعيداً عن الناس .. قال الحسن بن علي رضي الله عنه: (الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله: الغيبة والإفك والبهتان، فأما الغيبة: فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه، وأما الإفك: فأن تقول فيه ما بلغك عنه، وأما البهتان: فأن تقول فيه ما ليس فيه، أي أن تختلق أنت رواية كاذبة عنه). وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما: إياك والغيبة فإنّها إدام كلاب الناس. نعم على كل من تعوّد على الحكي في الناس أن يتعظ بنفسه قبل فوات الأوان، وأن يترك حال الناس في حالها ولا ينظر إليهم، بل عليه ان يستر حتى يستر الله عليه في يوم لا ينفع فيه مال ولا ولد. قال الشاعر: لِسانَكَ لا تَذْكُرِ بِه عَورةَ امرئ فكُلكَ عَوْراتٌ ولِلناسِ ألسنُ وعَيْنكَ إنْ أبْدتْ إليكَ معايباً فصُنها وقلْ يا عيْنُ للناسِ أعْينُ وقال غيره: فإن عبت قوماً بالذي فيك مثله فكيف يعيب الناس من هو أعور وإن عبت قوماً بالذي ليس فيهم فذلك عند الله والناس أكبر ولنقف عند هذا الحديث بصدق وأن نتأمّل منه المفيد لكي نجعل أنفسنا في صدق مما نقول به. وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله ژ: (الغيبة أشدُّ من الزنى، قالوا: يا رسول الله! وكيف الغيبة أشدُّ من الزنى؟ قال: إنّ الرجل ليزني فيتوب؛ فيتوب الله عليه، وإنّ صاحب الغيبة لا يُغفَرُ له حتى يغفرها له صاحبه). إذن على من سخّر نفسه أن يتقي الله عز وجل، فإنّ صاحب الغيبة لا يُغفر له حتى يغفرها له صاحبه .. تخيل لو أن صاحب هذه الغيبة قد مات كيف يكون حالك يا من اغتبته .. إذاً القرار بيدك فبل فوات الأوان ولم تتمكن منه للعفو. ُرُوي عن أحد الصالحين أنه شاهد شاباً، قوي البنية، صحيح الجسم، يتكفّف الناس على باب المسجد، فقال في نفسه: لو أنه ذهب وعمل عملاً انتفع منه فأصبح في غنى عن مسألة الناس. فنام تلك الليلة فرأى الملائكة تقدم له لحم ذاك المتسوِّل على طبق، وتطلب منه أن يأكل منه، فعرف الصالح غلطته، وقال: إنّني ما اغتبته ولكنه خاطر مرَّ على قلبي، فأجابته الملائكة: إنّ مثلك يُحاسب على خطرات القلوب. .. هذا وهو يريد الصلاح لهذا الشاب، فكيف به لو اغتابه بكل ما يحسد أو يشمئز له القلب، فكيف يكون ذلك الطبق ... وهذه بعض الأمثلة فحسب فانظر من أي الموازين أنت؟ وقفة وتأمُّل إلى هؤلاء الذين حصل لهم ما حصل، أبشروا فإنّ هناك أناساً قد سخّروا أنفسهم للعمل لغيرهم، فإنّ حسناتهم تزوركم صباح مساء .. فالصبر على هؤلاء هو الفلاح بحد ذاته .. والله الهادي إلى سواء السبيل.