د. نور بنت حسن قاروت الأستاذ المساعد بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، لها دراسات قيمة في مجال العناية بالوقف وصلاحيات نظار الوقف، ومن أبرز هذه الدراسات (وظائف ناظر الوقف في الفقه الإسلامي)، والتي توصلت من خلالها إلى عدد من التوصيات المهمة لحماية الأوقاف وضمان استمرار دورها الخيري في خدمة المجتمع. في هذا الحوار تحدثنا مع د. نور قاروت عن أهم هذه التوصيات والوسائل والآليات المقترحة للعناية بالوقف وتنميته، وفيما يلي نص الحوار: **** * بداية نسأل عن أسباب اهتمامك بالبحث والدراسة في وظائف ناظر الوقف؟ - ناظر الوقف هو الشخص الذي يحمل في عنقه أمانة لو قام بها تحقق له وللوقف والواقف خير عظيم والعكس بالعكس والمتأمل في واقعنا المعاصر يرى كم من الأوقاف توقف جريان ثوابها على أصحابها بسبب إهمال ناظر الوقف، وكم من غلة للوقف صرفت في غير وجهها بسبب سوء فهم من ناظر الوقف وما أكثر الموسرين الذين يمتنعون عن وضع أموالهم في صدقة جارية بسبب ما يُشاع عن إهمال أو سوء تصرف كثير من النظار.. فهناك بعد اجتماعي وأهمية للوظائف التي يقوم بها ناظر الوقف، ويعرف الباحثون المتخصصون أن الخلل في هذه الوظائف كان من العوامل المهمة التي أدت إلى توقف نشاط الأوقاف وانحسار دورها.. وقد لا يكون التقصير في أداء تلك الوظائف لضياع أمانة النظار، بل بسبب قلة العلم. * من خلال دراستك في مجال الوقف وفقه الأوقاف ما أبعاد أهمية الوقف وهل ما زالت هذه الأهمية قائمة في هذا العصر؟ - أهمية الوقف وأبعاده الإنسانية والحضارية والاجتماعية والاقتصادية لا يختلف عليها والمؤتمرات الكبيرة وما تخرج به من نتائج وتوصيات تعلن في وسائل الإعلام تشير إلى أن الوقف لا تزال أهميته كبيرة لا للأفراد فحسب بل للمؤسسات الخيرية والدول على حد سواء، وقد ثبت أن الوقف رمز من رموز الشريعة الخالدة وهو مما اختص به المسلمون.. ولا شك أن الدارس المتعمق للحضارة الإسلامية سيسجل الدور الرائد للوقف واثره في تغذية تلك الحضارة بالمال والإبداع والقوة وكيف ساهمت أنشطة الوقف المتعددة في استمرار مسيرة الحضارة الإسلامية حتى في اشد الظروف حلكة وصعوبة. وقد أثبت الباحثون أن الوقف قام في الماضي بدور وزارات التعليم والثقافة من خلال إسهامه في بناء المدارس ورعاية طلبة العلم وتشجيع البحث العلمي وتشييد المكتبات واستنساخ الكتب، كما قام بدور وزارات وهيئات الرعاية الاجتماعية برعاية الفئات الضعيفة في المجتمع وتوفير أوجه الرعاية المناسبة للفئات الخاصة وتقديم العون لمن يقسو عليه الزمن بمواجعه، وهذه الأهمية تزداد في هذا العصر، نظرا لتزايد احتياجات كثير من أبناء الأمة. * لكن ما تفسير اقتصار كثير من الأوقاف وفق شروط الواقفين على مجالات بعينها مثل بناء المساجد أو السقيا وهل هناك مجال للوقف أفضل من مجال آخر؟ - ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى أكثر من عشرين نوعاً من أنواع الوقف يغطي ريعها كافة احتياجات المسلمين، والمتأمل في تاريخ الوقف يجد تنوعاً كبيراً في المصارف التي وقف المسلمون فيها، ومن هذه المصارف بناء المساجد والمدارس ورصف الطرق اليها وحفر الآبار وتوفير السقايات, رعاية المدرسين والطلاب، وتوفير السكن الداخلي لهم وبناء المستشفيات والإنفاق ورعاية اليتامى والمعاقين وكبار السن والفقراء وتزويج العاجزين وتجهيز الموتى وغير ذلك مما لا يخفى أثره الإيجابي على حياة الافراد والجماعات والمفاضلة بين خير وخير تكون بمدى حاجة المجتمع ولأن حاجة المجتمع تتغير من عصر لعصر، فإن الوقف على مجال ما قد يكون افضل في زمن معين، لكن تتراجع أفضليته بتراجع الحاجة إليه في زمن آخر.. لكن لأن السائد في الماضي كان الوقف لبناء المساجد والسقايات ورعاية الأيتام والفقراء من المسلمين ارتبط في ذهن الكثيرين أن الوقف في هذه المجالات أفضل، حتى بعد أن تغيرت الأمور وظهرت مجالات أخرى نفعها أعم واكثر ضرورة يمكن الوقف عليها. * ما المزايا التي يتميز بها الوقف عن غيره من أوجه البر مثل التبرعات والصدقات؟ وهل هناك أمثلة معاصرة تؤكد هذه المزايا؟ - من مزايا الوقف أن الواقف يرى ثمرة صدقته في حياته فتقر بها عينه، ولا سيما وهو يعلم أن أجرها ونفعها ممتد بعد مماته.. كما أن الوقف يقطع مداخل الشيطان والهوى عن الرجوع عن الصدقة أو عن بعضها أو الإيعاز بتأخير صرفها، أما الموقوف له فيكفي أن يعلم باستمرار ريع الوقف لسد حاجته سواء كان مريضاً أو فقيراً أو عاطلاً أو عابر سبيل، فكم من كافر أسلم ومن جاهل تعلم ومن مريض عوفي ومن أسير أطلق ومن يتيم كفل ومن أرملة كفيت ومن جائع شبع وغير ذلك من عوائد الأوقاف وثمراتها التي لم يخل منها بلد من بلدان العالم الإسلامي. ويتميز الوقف في ذاته بالتنوع تبعا لتنوع ميول وقناعات الواقفين، فمنهم من يرى الوقف لبناء المساجد.. وآخرون يستحبون الوقف للأيتام والمرضى.. وغيرهم يجد سعادته في السقيا ودعم طلاب العلم وهكذا، وليس أدل على مزايا الوقف وقدرته على تحقيق التكافل الاجتماعي، من أن مجتمعات غير إسلامية أنشأت نماذج وقفية معاصرة منذ أوائل الثمانينيات الميلادية لغرض سد احتياجات العمل التطوعي وسميت هذه النماذج (وقفيات المجتمع).. وفي هذا خير دافع للمسلمين القادرين على البذل والعلماء والدعاة لشحذ الهمم للارتقاء بجهود إحياء سنة الوقف الذي اختصهم المولى به في شريعتهم.. فلا يعقل أن يتفوق غير المسلمين علينا في هذا المضمار. ولا شك أن الدعوة لإحياء هذه السنة المباركة للإسهام في تحقيق التكافل بين أبناء الأمة الإسلامية وتمويل أنشطة الدعوة وسد حاجة الفئات المحتاجة يعد فرصة مواتية لإعادة الاعتبار لهذه السنة بما يتلاءم مع مستجدات وظروف هذا العصر الذي نعيشه. * من خلال بحثك في وظائف ناظر الوقف في الفقه الإسلامي.. هل ثمة شروط يجب توافرها فيمن يتولى النظارة؟ - اتفق جمهور الفقهاء على عدد من الشروط لنظار الوقف.. كما يلي: 1 - أن يكون مسلماً إذا كان الموقوف عليه مسلماً أو كان لجهة كالمسجد لقوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} النساء (141) أما إن كان الوقف على غير مسلم معين جاز شرط النظر فيه لغير المسلم. 2 - أن يكون الناظر بالغاً عاقلاً: لأن غير المكلف لا ينظر في ملكه المطلق، فمن باب أولى ألا ينظر في الوقف. 3 - أن يكون أميناً، فيأثم القاضي بتولية خائن أو بتركه دون عزل. 4 - أن يكون قادراً بنفسه أو بنائبه، لأن تولية العاجز لا يحصل بها المقصود. 5 - أن يكون عدلاً، غير مرتكب لكبيرة فلو ظهر فسقه لشربه للخمر أو الزنا تنزع منه النظارة، وهذا إذا كانت ولايته من حاكم. 6 - أن يكون عالماً بأحكام الوقف.. ويحتاج ناظر الوقف إلى نوعين من العلوم علم عام بأحكام الوقف والوكالة والوصية.. وعلم خاص مفصل ودقيق بالنوع الذي يتولى نظارته، وآخر ما يستجد من المعارف فيه، والطرق التي تكفل استمرار الوقف وجريانه بل وتنميته والمضاعفة في ريعه وبالتالي زيادة دوره الخيِّر للمجتمع المسلم. فالعلم للناظر واجب لا يمكنه القيام بوظيفة نظارة الوقوف إلا به، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا يعذر الناظر في ضياع شيء من أموال الوقف بالجهل حيث ساوى العلماء بين ناظر الوقف والوصي على مال اليتيم، ويقول الحق سبحانه وتعالى فيه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (10)سورة النساء. * ما المهام أو الوظائف المناطة بناظر الوقف؟ - يمكن تلخيص هذه المهام في عدة مسائل أساسية كما يلي: - تنفيذ شروط الواقف، فشرط الواقف يجب اتباعه لقولهم: شرط الواقف كنص الشارع في وجوب العلم به.. وعلى الناظر أن يراعي في فهم كلام الواقف حمله على ما هو معروف عنه في خطابه وفي زمانه وفي بيئته. - حفظ الأصول وثمرتها، فإن تساهل الناظر في حفظها بتفريط أو إهمال أو تغيير وتسبب في وقف منفعتها وضياع غلتها ترتب على فعله هذا أمور منها الإثم في الآخرة وقطع الخير عن الموقوف عليهم، ومنع قصد الواقف في جريان صدقته. عمارة وإصلاح الوقف.. فعلى الناظر متابعة المنكسر والمائل من العين الموقوفة وإصلاحهما، لان الإهمال في ذلك يؤدي إلى فوات الانتفاع من الوقف جزئياً فإن زاد الخراب فات الانتفاع منه كلياً، لذا اتفق الفقهاء على أنه من الواجب على الناظر تقديم عمارة الوقف على الصرف على المستحقين، فعمارته وإصلاحه يؤديان إلى دوام الانتفاع به وعدم تفويت منافعه. - إجارة الوقف: إذا كانت عيناً تؤجر أو تزرع فتحصيل ريعه من وظائف الناظر السعي لإجارة العين الموقوفة أو زراعة أرض الوقف، بأفضل أجرة وبها تتحقق الواردات التي يصرفها الناظر فيما حدده الواقف وشرطه وبها تقوم عمارة الوقف وصيانته فيستديم نفعه. ومن وظائف الناظر أيضاً قسمة ريع الوقف على المنتفعين وفق شروط الواقف. - تنمية الوقف والاجتهاد في ذلك. - أداء ديون الوقف إن وجدت. - بيع الوقف أو مبادلته متى كانت هناك حاجة لذلك كأن تتعطل منافع العين الموقوفة بالكلية أو خيف انقطاع نفع العين الموقوفة قريباً. * هل ثمة مقترحات للارتقاء بقدرات نظار الأوقاف لتحقيق أهداف الوقف ومقاصد الشريعة منه؟ - حبذا لو تقوم الوزارات أو الهيئات المسؤولة عن الوقف بالتعاون مع الجامعات في إقامة دورات علمية تدريبية لكافة النظار وتشكيل لجان للوقوف على أوجه القصور التي يعاني منها النظار. وحبذا لو تضافرت الجهود بين عدة جهات لها علاقة بالأوقاف فتشكل لجان من جهات متعددة كالمؤسسات الوقفية، والمحاكم الشرعية ووزارة الأوقاف بتعيين الناظر الكفء من بداية كتابة صك الوقف وعدم تعيين غير الكفء ممن لا يصلح للنظارة لسقوط أهليته أو لقلة أمانته والتأثير على الواقف أو الموقوف عليهم لاختيار الأفضل، أو جعل النظارة هيئة لا ينفرد فيها شخص برأيه بل تقدم مصلحة الوقف دائماً في كل أمر، وقد يساهم ذلك في رجوع الدور الرائد للأوقاف والذي أصبح مهماً يتمنى الكثيرون وقوعه ويبدأ من إسناد الأمر إلى أهله، على أن تساهم المحاكم الشرعية في تسهيل مهمة النظار الاكفاء بفتح أقسام خاصة بهم تسهل لهم جلب المصالح أو دفع المضار عن الأوقاف.