وعدتُ القراء ونفسي في ختام مقالي ليوم الخميس الماضي بأنه ستكون لي عودة في مقال هذا الأسبوع للوقوف بشيء من المصارحة الموضوعية عند بعض المتعلقات بواقع الحال في الوزارات التي خصها قرار التغيير الوزاري الأخير بعدد من الوزراء الجدد على أمل أن ينفح فيها هذا التغيير دفقة من تجديد الدماء يعطي العمل في الوزارات المعنية دفعةً للتطوير والتفعيل دون أن يعني ذلك الانتقاص من الجهود الاجتهادية لمن تولوا العمل في المرحلة السابقة ومع حفظ الحق في اتخاذ موقف نقدي من تلك المقولة الشائعة التي كثيراً ما تصادر طاقات المستقبل بترديد (أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان). ومع أنني ندمتُ على تلويحي بذلك الوعد بسبب من تصاعد وتيرة الحدث السياسي على المستوى العربي وخاصة فيما يتعلق بسوريا ولبنان مما جعلني أجاهد نفسي لئلا أكتب عنه ولأنصرف للكتابة عما وعدت، فقد كان هناك سبب آخر لندمي على ذلك الوعد يتعلق بواقع الحال في تلك الوزارات وقلة المعلومات المعتمدة التي يمكن أن يحصل عليها الكاتب عن هذه الوزارة أو تلك غير ما تجود به نفس موظف العلاقات العامة بما لا يخلو من سخاء في إعطاء صورة بالغة التلميع عن أداء الجهاز وبما يجعل المبالغة تثير عدم الاقتناع في (حسن الأداء) أو على الأقل بما يحرض على التساؤلات. على أن مما يشجعي على ألا أستسلم لفكرة التراجع عن الوعد التي لا أدري ما إذا كنت أفكر فيها تحاشياً لصعوبة الموضوع أو تحسباً لمغباته، هو أنني كنت للأسابيع الأولى ما بعد مجيء الوزراء الجدد قد تابعت كثيراً مما تناولته الصحف في الكتابة عن بعض التوقعات لتطوير الأوضاع في تلك الوزارات مما جاء على شكل انتقادات أو قدم بشكل مقترحات. كما أنني كنت قد دخلت كطرف محاور أو مستمع في بعض الحوارات التي دارت في المجالس عن أشواق المواطنين للعديد من الإصلاحات في الوزارات وآمالهم في التطوير بإدخال التعديلات التي تواكب المستجدات الاجتماعية وإلغاء ما عفا عليه الزمن سواء على مستوى الإجراءات اليومية أو على مستوى الإستراتيجيات وما يتعلق منها بالأهداف والتخطيط في المديين القريب والبعيد بما فيه ما قد يتطلبه الأمر من مراجعة اللوائح والأنظمة وسبل العلاقات بالجمهور في الأجهزة الوزارية المعنية خاصة أن العمل بها يتوجه لعدد من أكثر المجالات مساساً بجانب حيوي من حياة الناس وهو جانب الثقافة والتعليم والشؤون الاجتماعية.ولذا فإن طرحي لن يعدو أن يكون تعبيراً عن بعض تلك التوقعات والأشواق لعل الله يقيض (أصحاب المعالي) لأن يأخذوا في الحسبان بعض ما يعتمل في القاع. أولاً، وقفة مع وزارة الثقافة والإعلام: بينما السياسة كما يقال هي فن الممكن فان الإعلام فن إظهار الممكن بمظهر الخارق والأجمل والأفضل، أما الثقافة فهي فن الكشف عن التعالق المقنع بين الممكن وخطابه الخلاب بقليل من الخيال والكثير من العقلنة نحو اجتراح الحلم المستحيل أو عدم التنازل عن شرف المحاولة. وفي هذا أرى المشاركة في المحاولة بالرأي التالي: 1 - لا بد أنه لا يخفى على الأستاذ أياد مدني بخلفيته كمثقف وكاتب وبتجربته في الوسط الثقافي والإعلامي والرسمي ما يظهر حيناً وما يغيب في معظم الأحيان من طبيعة العلاقات المتوترة ما بين الثقافة والإعلام خاصة وهو الوزير الذي امتلك حساسية نقدية مبكرة حين أبدى بحس ساخر تفاعلاً إيجابياً مع توجس الناس من الإعلام العربي الذي لم يكن أسلوب (الصحاف) الإعلامي الذي يحاول أن يتبرأ منه وزراء الإعلام في عالمنا العربي اليوم وهم بعض خريجي مدرسته التاريخية في الاستخفاف بالرأي العام إلا تمثيلاً لما يعانيه هذا الإعلام من سطوة على حقائق الواقع التي يفترض أن يعبر عنها الإعلام. وتكمن أهمية الاعتراف بتلك العلاقة التي قد تصل حد التناقض في الكثير من محدداتها بين الثقافة والإعلام أو على الأقل الوعي بها في أنها تشكل في رأينا خطوة مبدئية لمواجهة محاولات التوفيق حيناً ونقيضه حيناً آخر لتمويه ذلك التناقض أو لإعطاء العلاقة بين الثقافة والإعلام صورة ظاهرها الاستتاب وباطنها استبداد ما هو إعلامي بما هو ثقافي أو انمحاء ما هو ثقافي فيما هو إعلامي كما حدث في تجارب مجتمعات أخرى. وهذا مما يعني أن عملية الجمع بينهما، وإن لا بد، لا يمكن أن تتم إلا على أساس تكافؤ الفرص لكل من الثقافة والإعلام في منابر التعبير وفي تمثيل جميع الشرائح المنتمية سواء للإعلام أو للثقافة وفي الصرف على أوجه النشاط لكل منهما وفي الأنشطة المشتركة بينهما، والأهم في هذا عدم خلط الأوراق بين الخطاب الإعلامي الذي غاية منانا منه أن يكون تعبيراً نزيهاً وأميناً عن الواقع القائم وبين الخطاب الثقافي الذي لا يُرتضى منه أقل من أن يكون تعبيراً عن المنشود. 2 - لا بد أيضاً أنه لا يخفى على وزير الثقافة والإعلام الجديد أن تسلم مهامه الوزارية تتزامن مع زمان غير الزمان الذي كانت فيه أحد مطالب التطوير تأسيس وزارات للثقافة والإعلام تقوم على الرعاية المؤسسية لنشاطات هذين المجالين. فعلى العكس من تلك المرحلة لم تعد اليوم مركزية العمل في أي من هذين المجالين إلا قيوداً عليها في الكثير من الأحيان واستبعاداً لإمكانات الإبداع الفردي والجماعي الكامن في تعدد الأصوات وتنوع الطروحات. وقد رأينا في الآونة الأخيرة حل بعض هذه الوزارات في بعض المجتمعات البعيدة والقريبة منَّا مقابل توسيع سوق العمل في كل من المجالين الإعلامي والثقافي على أساس الشراكة الأهلية ورأس المال الحر وفعالية جانب المجتمع المدني مع شرط فضاءات الحرية الذي هو شرط حياة لمثل هذا العمل. وإذا كان الرأي في مجتمعنا أن الحاجة لم تستنفذ بعد للمظلة الحكومية على رأس الثقافة والإعلام فلا أقل من توفير ديناميكية كافية وكف العراقيل البيروقراطية عن تعطيل هذا العمل أو تحويل مناشطه المختلفة إلى وظيفة لا يستعيش منها أصحابها إن هم لم يحسنوا تضييق الخناق وشد السقف إلى ما تحت الركب. 3 - أما النقطة الثالثة التي أضعها بين يدي الوزير فهي وإن كنا لسنا في حقبة (اللاءات) فإنها تتكون من مجموعة من اللاءات إذ إن التجارب علمتنا أنه ليس أمرُّ من مهانة المجتمعات عندما تتخلى في لغتها عن حرف اللام. وفي هذا أرى التمسك باللاءات التالية: - لا للرقابة التي ليس من مهمة لها في هذا العصر من ثورة الاتصالات إلا كمن يمنع إشعال الشموع في وضح النهار تضامناً مع ظلام لا تراه إلا عيون الرقيب. - لا لغياب التقنين أو غموض صيغ اللوائح والتنظيمات في العلاقة بين المنتمين للثقافة والإعلام وبين الوزارة. - لا لتمثيلنا في المحافل الثقافية الخارجية بحفنة من كبار موظفي وزارة الإعلام وحجب الدعوات عن المنغمسين إلى ما فوق رؤوسهم في الشأن الثقافي. - لا لتمثيلنا في معارض الكتب ببضع مطبوعات رسمية لهذه الجهة أو تلك مع غياب ماحق للكتاب الإبداعي أو الفكري ذي الطرح الجديد والجاد إلا ما يتسرب عارياً من أي دعم، خارج (أوستكات) الكتب التي (تدخل) على وزارة الإعلام بآلاف الريالات من بعض دور النشر التي يملك أصحابها (كرت الوساطات) لتقبع هناك كوديعة في مخازن الوزارة تعيث فيها العثة. - لا لتهميش صناعة الكتاب، بما يريد الاعتبار للكتاب المنتج والمطبوع محلياً ويجعل له حضوراً محترماً في الداخل والخارج. فالسمعة السيئة لضرورة توزيع أي كتاب يصدر محلياً في الخارج بمسبق أن الكتب التي تمر بالرقابة يشك في جودتها حتى وإن لم يعد هذا الحكم دقيقاً بعد الانفراجة النسبية الأخيرة في رقابة المطبوعات المحلية. - لا لتعدد جبهات الرقابة من الجهات التي تحاكم الثقافي بما هو غير ثقافي حتى أنه صار يقال بسخرية مرة إنه لو أن كاتباً طلب إجازة كتاب في شجرة الأنساب فلا بد لوزارة الإعلام أن ترسل منه نسخة إلى وزارة الزراعة لتحصل على موافقتها وترى رأيها الرقابي في فسح أو حجب الكتاب. - لا للتوقيف أو حجب الكتابة بخطابات سرية إلى من ينفذون عملية الإيقاف من رؤساء تحرير أو من في حكمهم دون معرفة المعني بالإيقاف عن سبب الإيقاف ودون إعطائه حق الدفاع عن موقفه. - لا للإيقاف عن الكتابة إلى أجل غير مسمى ودون سند قانوني للأسباب. - لا للتضييق على أصوات والتسامح مع أصوات أخرى بما يخل في تمثيل الطيف الفكري والثقافي للمجتمع. - لا لهيمنة الصوت الأحادي على حساب تعدد وتنوع الرؤى والاجتهادات. - لا لعزلة الثقافة والإعلام عن التفاعل الإيجابي مع مختلف الثقافات وأوعيتها الحضارية. - لا لفسح أي مجال لدعاوى الاستعداء والاستقواء بالغير في مواقف الرأي والخلافات الفكرية. - لا للتخلي عن مسؤولية المساندة الحقوقية للمنتمين للحقل الإعلامي والثقافي في مواقف الرأي. - لا لغمط الكُتَّاب خاصة، حقوقهم المالية أو اعتبار الكتابة ترفاً ليس للكاتب أن ينال أجراً مالياً فيه على الجهد والوقت المبذول في العمل. ولا للفجوة المالية بين ما يقبضه رؤساء التحرير على سبيل المثال وبين الفتات الذي يُعطى لكبار الكتاب كمكافأة مقطوعة بحساب القطعة. - لا لعدم مرونة الأنظمة في إعطاء التصاريح لمبادرات إيجاد مؤسسات للعمل الثقافي أو الإعلامي الأهلي كرافد من روافد الساحة المحلية الثقافية والإعلامية. - لا للاستمرار في نهج التعيين لرئاسة الأندية الأدبية أو سواها من الأجسام الثقافية والإعلامية إن وجدت ليحل محله نهج يعتمد الترشيح والانتخابات. - لا للفراغ الثقافي والإعلامي المؤسسي المدني الذي يعيشه المنتمون للثقافة والإعلام ويكون ذلك بالاستجابة لمطلب بسيط في حق تكوين جمعيات أهلية عاملة للأدباء والمفكرين والكتاب أسوةً بهيئة الصحفيين على سبيل المثال. هذا غيض من فيض توقعات ومطالب وأشواق المواطنين في وزارة الثقافة والإعلام وإن لم تكن إلا قطراً من بحر الحاجة الماسة إلى وضع إستراتيجية إصلاحية شاملة لتطوير هذا الجهاز المهم الذي صارت أدواته المرئية والمقروءة والمسموعة تدخل صبح مساء إلى البيوت وإلى عقول الشباب دون استئذان. وإذا كنا نعلم أن مهمة الوزير - أعانه الله عليها - ليست سهلة فإنه لا يخفى على الأستاذ أياد مدني فيما لو غلب حسه الثقافي الرفيع على المعوقات بأنها لن تكون مستحيلة. ولا بد أن الكثيرين من المهجوسين بالهم الوطني والثقافي على أتم استعداد للمشاركة بالمشورة والعمل بما قد يساعد في تحقيق بعض من مستحيل الأحلام الحلال. ولله الأمر من قبل ومن بعد.